دور المثقفين في مستقبل اليمن بقلم| عبدالباري طاهر
بقلم| عبدالباري طاهر
قراءة في ورقة الصحفي علوي السقاف في “مؤتمر المثقفين”
كان الصحفي والكاتب علوي السقاف موفقًا في اختيار عنوان الورقة وموضوعها؛ لأنها الورقة الوحيدة المكرسة للهمّ الثقافي في مؤتمر المثقفين الذي انعقد في المكلا مطلع أغسطس المنصرم.
يعتبر مفهوم الثقافة من المفاهيم الجديدة الوافدة على ميادين الاجتماع السياسي والثقافي العربي. يؤرخ لنشأة المفهوم بـ”قضية دريفوس” عندما نشر إميل زولا مقاله “إني أتهم”. والقضية معروفة، والمقالة شهيرة. ويشير إلى الجدل الذي دار في نهايات القرن التاسع عشر حول مفهوم المثقف في فرنسا. يصل إلى القول: “كل من يعمل اليوم في أي مجال يتصل بإنتاج المعرفة أو نشرها، مثقف بالمعنى الذي حدده غرامشي”.
ينقسم المثقفون إلى فئتين: مثقف تقليدي ينتمي إلى طبقة اجتماعية زائلة، أو هي في طريقها إلى الزوال، ومثقف عضوي، وهو المثقف الذي ينتمي إلى طبقة اجتماعية، ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العلم، ويتناول ثلاثة أنماط للمثقف التقليدي، ويحدده بـ: الفقيه أو الداعية، وهو نفس ما ذهب إليه غرامشي الذي لم يعتبر القُس مثقفًا. [الكاتب].
مثقف السلطة.
المثقف النقدي أو المثقف العام، مركزًا على هذا المثقف المتجاوز للقيم السائدة، والساعي للحداثة والتغيير، والمنغمس في الشأن العام، مؤكدًا ما أورده إدوارد سعيد أن المثقف شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس، وهو الرفض لكل الصيغ السهلة. ويمثَّل يمنيًّا بدور اتحاد الأدباء والكتاب، ورموزه: الجاوي، ودماج، والربادي، ويدلل مستشهدًا بكتابات الدكتور أبوبكر السقاف الناقدة للأفكار النمطية، والآراء الشائعة التي يكمن الاستبداد والتمييز تحت ظلالها، تلك الكتابات المنحازة للضحايا والمستضعفين ضد عسف السلطة.
يشير السقاف بفخر وإعجاب إلى الفنان مراد سبيع، الذي استغل موهبته كرسام، واقتحم الشأن العام بلوحاته الجدارية على جدران شوارع المدن اليمنية؛ تلك اللوحات المنحازة لضحايا الاختفاء القسري، وضحايا الحرب من الأطفال والنساء والبسطاء، مشيرًا إلى عبور لوحات سبيع إلى جدران مدن أوروبية.
دور المثقف اليمني
يقف إزاء انقلاب الـ21 من سبتمبر، واقتحام أنصار الله (الحوثيين)، والاستيلاء على السلطة والمؤسسات الحكومية، والجيش والأمن المواليين لعلي عبدالله صالح، وغلبة العصبيات القبلية والمذهبية، وما نجم عنها من حرب أهلية، وتدخلات إقليمية في النزاع، ووجود مقاومة ذات طابع محلي في المناطق التي رفضت سيطرة الانقلابيين؛ فإن دور المثقف النقدي -بحسب رؤيته- مراقبة مركز النفوذ والسلطة، وفضح كل أنواع الاختلالات والتمييز والعسف والخروقات التي ترتكبها الجماعات المسلحة، خاصة أن الحرب فتحت الباب واسعًا لتسييس وعسكرة الهُويات المحلية. كما يشير، ومعه كل الحق، لأي اتفاقات أو تسويات قادمة كما هو متوقع، بتحقيق السلام القائم على الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والمواطنة المتساوية، لا سلام الأمر الواقع، أو غلبة السلاح.
يقف علوي إزاء أربعة أوهام: أوهام السلالة، ووَهْم القبيلة، ووَهْم المنطقة، ووَهْم التمدّن. ينتقد محقًّا الاستعلاء السلالي، والتمييز العرقي، وادعاء الحق الإلهي أو امتلاك مشروع للخلاص الوطني، وينتقد الاحتفاء بيوم الغدير كشاهد الاصطفاء، والحق في الولاية كأمر ديني وإلهي، والأمر تُعاد به دعاوى التميز وكأنها شأن ديني، ويفنّد وهْم القبيلة كحامية لتراث اليمنيين، والمدافعة عن أصالة المجتمع، واعتبار أعراقها معيار العدالة والتضامن والتكافل، معترفًا بأن ذلك يخص القبيلة، أما الدولة فتمثل الكلي الشامل في القوننة والحوكمة؛ فهي كيان فوق الطوائف والقبائل والجماعات والنخب، داعيًا لانصهارها في الدولة، وينتقد اعتبار القبيلة جزءًا من المجتمع. كما ينتقد وهْم المناطقية: “مطلع-“منزل”، وتميّز وهمي لمحافظات دون أخرى؛ مما يحرف الصراع إلى صراع جغرافي، صراع أمكنة. كما يتناول وهْم التمدن، وهو اعتقاد بعض سكان المدن أنهم أكثر تحضّرًا من المدن الأخرى. يخلص الصحفي القدير إلى اعتبار الديمقراطية أهم الأهداف التي يجب أن يكافح من أجلها المثقف.
ورقة الزميل الصحفي النابه مهمّة؛ لأنها التحية الوحيدة التي تتناول الشأن الثقافي، وقضية أو إشكالية المثقف. الورقة مكتوبة بعناية، ولديها مراجع مهمّة، واجتهاد صائب، ومع ذلك فإن هناك ملاحظة بالنسبة للمفهوم؛ فلفظه عام، وهو إن شمل المصطلح إلا أن المصطلح أدق، فالعلاقة بين المفهوم والمصطلح علاقة عموم وخصوص وجهي، فكل مفهوم مصطلح، وليس كل مصطلح مفهوم، وإن كان مفهوم الثقافة ليست خطأً. ميشيل فوكو يتناول المفهوم بشكل أوسع في كتابه “جغرافية المعرفة”.
إشكالية الثقافة تأتي من الاختلافات والأبعاد والدلالات الاجتماعية والفلسفية والسياسية، والجذر اللغوي والمفاهيم النظرية. الجذر اللغوي للفظ مادي بامتياز. ثقّف الشيء: أقام المعوج منه، وسوّاه. ثقّف الإنسان: أدّبه وهذّبه وعلّمه، وتثقيف الرمح: تقويمه، وثقّف الأرض: فلحها؛ فالبعد المادي في التعريف حاضر، وللموضوع علاقة بنشأة المنطق الصوري لدى أرسطو- أبو الفلسفة. يناقش عالِم الاجتماع المهم علي الوردي منطق ابن خلدون، فأرسطو ربط الصورة بالمادة، ولكن تلاميذه أهملوا المادة، واحتفلوا بالصورة. الفلاسفة الإسلاميون والفقهاء ازدروا المادة؛ فأهملوها بالكلية، واهتموا فقط بما هو نظري. ويرى أن القياس المنطقي من أسباب تأخر العلم؛ لأنه أهمل البحث والاستقراء. احتقر الإغريق الحواس كاحتقار الجسم بالنسبة للعقل؛ فالجسم عندهم كتلة جسمانية فانية، واحتقروا العمل والمهن من مختلف ألوان العمل الإنساني، وقدّس البعد النظري فقهاء كبار، كالغزالي والشوكاني؛ إذ يعتبرون المهن والحرف محتقرة، ويتم التمييز ضدهم، وينظر إليهم بزراية ودونية واستعلاء المفكر والأديب والمثقف وحتى القبيلي ضد المهن الممتهنة نجد جذرها في التعالي ووجود سور صيني، بين ما هو نظري وما هو عملي في تعريف المثقف، والانتقاد ليس موجهًا بحال لما كتبه الزميل علوي، وإنما هو عام نلاحظه في عزلة المثقف والأديب والكاتب عن الجوانب الحياتية.
يهتم المفكر عبدالله العروي بالبعد التاريخي للثقافة، ويقف الدكتور علي أومليل إزاء الديمقراطية والتنوع والتعدد للثقافة، ولعل المفكر الحداثي عبدالسلام بنعبد العالي قد أدرك عميقًا التناقض العميق في التيارات الفكرية والسياسية، والدلالة العميقة للمفكر؛ فهو يدعو إلى ثقافة بدون تيارات، لا تعني تيارات ذهنية، وإنما أيضًا كوقائع سرعان ما تتخذ طابعًا فعليًّا يشترط تفكيرنا، ويحدد سلوكنا، وسيتضح فيما بعد أن التيار الثقافي سرعان ما يتحول من إحدى الأدوات التي يستعملها المفكر لفهم الواقع الثقافي إلى إحدى المكونات الأساسية لذلك الواقع، واضعًا ما يسميه “حمى المذهبية” موضع تساؤل. بنعبد العالي لا يقول بثقافة واحدية الاتجاه، ولا بثقافة لا تعرف التنوع، ولا ينخرها الاختلاف؛ فهو يميز بين مفهومين متقابلين بل متضادين عن التعدد والوحدة، داعيًا إلى وحدة تخلخل مفهوم الوحدة ذاته، ويرى أن التعددية ليست في كثرة تياراتها، وإنما إقحامها التعدد داخل مكوناتها. يقدم بنعبد العالي مفهومًا للوحدة والتعدد مغايرًا ومختلفًا عن السائد، نفس ما عمله ماركس عن الماركسية وهايدغر عن الوجودية؛ فهو يرفض ثقافة التقليد والذاكرة، ويحتفي كثيرًا بالحداثة، وعنده الحداثة ليست لحظة في زمان ولا نقطة في مكان، إنما هي اللحظة التي اتخذ فيها الانفصال وجودًا شرعيًّا، والحداثة تجعل الكائن في بعد عن ذاته، وتجعل الانفصال نسيج المعرفة والتاريخ والثقافة، وتجعل الثقافة تستجيب كل لحظة لواقع ما يفتأ بتنكر لذاته. إن الحداثة تقيم ضد ثقافة الذاكرة، ثقافة اللحظة، ثقافة الاستجابة المتجددة للعالم ومتغيراته، ويرى أن التيارات تجد حياتها في الشعارات أي في اللغة، وقد أصبحت ميتة جامدة راسخة، الانفلات منها جزء من عملية التحرر والتحديث المتواصل للثقافة والتحويل الدائم للواقع، وخصوصًا للواقع بما هو تيارات وخطاب ولغة. نشأة المفهوم لا ينفي وجود ثقافات عريقة وقديمة للعديد من الأمم والشعوب، كما لا يلغي الجذر اللغوي والترافد والامتزاج بين المادي والنظري.
للمعنى الأنثروبولوجي للثقافة ارتباطٌ عميق بالديمقراطية والحداثة والتطورات الداهشة في العصر، وإنجازات الإنسان في مختلف مجالات العلم، والإنجازات التقنية الحديثة في القرنين، العشرين والواحد والعشرين، والعلاقة بين المجتمع المدني والأهلي بحاجة للقراءة وإعادة القراءة. وملاحظاتي البسيطة لا تقلل من علمية ومتانة الورقة وروعتها.