السحور الأخير!
صنعاء – مبارك اليوسفي
في كل صباح تخرج زينا مشعل إلى مكان بجانب بيتها مطل على الطريق الموصل إلى قريتها الصغيرة بشكل يوميّ منذ 38 عامًا. تمارس تقريبًا نفس المهام كل صباح دون كلل أو ملل؛ علّها ترى ولدها المخفي قسرًا منذ ذلك الوقت عائدًا إليها. هكذا ذهب نصف عمرها وهي في ذلك المكان تجلس وتنتظر مؤملةً أنه سيعود غدًا، لكنه حتى الآن لم يعد بعد.
لم تقوَ على ممارسة مهامها اليومي في أحد صباحات شهر مايو/تموز المنصرم، فقد هدّ المرض الممزوج بلوعة الشوق جسدها النحيل، ولم تستطع الذهاب إلى مكانها المعتاد من أجل لقاء طال انتظاره أكثر من اللازم. اتخذت من شرفة منزلها المطلة على مدخل القرية مكانًا للراحة وهي في انتظار الوقت الذي يظهر فيها ولدها وهو يعبر هذا الممر متجهًا صوب المنزل. وهي متوسدةً مرقدها لم تفقد الأمل رغم مرور السنوات الطويلة، وتنظر بين لحظة وأخرى إلى الخارج، نظرت إلى الأفق وتوسدت جيدًا ونامت نومتها الأخيرة، ولم يعد ولدها بعد.
بداية الحكاية
لم يكن قد مر على عودة عبد الجليل العديني (ولد زينا) سبعة أيام على عودته من أرض الغربة حيث كان يدير تجارته المتواضعة من أجل إعالة أسرته حتى اختفى مرة أخرى في غربة تبدو الأشد قسوة على الجميع. ففي هذه الغربة لا توجد أوراق يكتب بها بعض رسائل الاطمئنان إلى أفراد أسرته، ولم تعد تصل إلى أمه وأطفاله الصغار أشرطة الكاسيت التي كان يسجل بها بعض كلماته لهم.
في مساء يوم الـ25 من شهر يونيو/حزيران عام 1983، خرج العديني من منزله في قرية الكرمدي (إحدى قرى عزلة بني يوسف غربي محافظة إب) إلى جولة كانت هي الأخيرة، أو بالأصح هي الأولى والأخيرة منذ عودته من غربته في إحدى دول الخليج. يقول فؤاد عبد الجليل وهو الابن الأكبر للمخفي قسرًا أن والده توجه في ذلك اليوم إلى مركز المحافظة بصحبة رفاقه ولم يعد بعدها. منذ ذلك الوقت وزينا وأطفال عبد الجليل الصغار ينتظرون عودة والدهم، بحسب خيوط.
في وقت لاحق، تواردت أنباء متضاربة عن مكان تواجد الرفاق الثلاثة، إحدى هذه الأنباء أنه تم إخفاؤهم قسرًا. لا يعي الأطفال في ذلك الوقت معنى الإخفاء القسري، كما لا تعرف الأم القروية شيئًا عن هذا المصطلح، كل ما كانت تعرفه هو أنه حدث مكروه لولدها.
فخ الاجتماع
لم يرتبط العديني بأي طرف سياسي ، وهذا ما جعل الناس تضع الكثير من التساؤلات عن سبب الإخفاء. كل ما في الأمر أنه كانت تربطه علاقة قوية تصل إلى علاقة صداقة برفيقه عبد الواحد شمسان، أحد الأعيان والمشائخ في المنطقة. حسب ما أدلى به فؤاد، فقد خرج في ذلك المساء برفقة عبد الواحد شمسان والسائق مسعد سعيد، من أجل تلبية دعوة من قبل محافظ المحافظة للحضور من أجل اجتماع طارئ يضم الكثير من أعيان المنطقة.
بعد أن اتجهوا الثلاثة إلى المحافظة فوجئ الجميع بأنه لا يوجد أي اجتماع، ثم قرر الجميع العودة إلى القرية، لكنهم قرروا البقاء عند أحد أصدقائهم في مدينة العدين، وبعد أن تناول الجميع وجبة السحور قرروا مواصلة الطريق والعودة إلى القرية. في طريق العودة، وبالتحديد في مدخل مديرية فرع العدين الشرقي، تم إيقافهم في نقطة عسكرية حكومية يتواجد فيها عدد كبير من رجال الأمن والعسكريين، واحتجازهم هناك، وهذا هو آخر مكان شوهد به الأصدقاء الثلاثة.
إخفاء قسري
في الفترة ما بين العام 1978 وحتى العام 1985، حدثت عمليات إخفاء قسري للكثير من الأشخاص دون أي سابق إنذار، وقد كانت الأحداث في تلك الفترة متوترة بشكلٍ كبير جدًا، لاسيما منذ صعود الرئيس السابق على عبد الله صالح للسلطة.
وقامت السلطة في ذلك الوقت بعمليات ترهيب واختطاف واسعة لمختلف الأشخاص، لا سيما في المناطق الوسطى، خاصة بعد ظهور جماعات سياسية تطالب بتحسين الوضع الذي بدأ يتحسّن بشكلٍ كبير جدًا، وظهور حركات أخرى مسلحة كانت تريد إسقاط النظام السياسي القائم بقوة السلاح، وهذا ما انعكس سلبًا على حياة الكثير من الأبرياء.
في ذلك الوقت كان المستهدف الرئيسي هو عبد الواحد شمسان الذي استطاع في فترة سبعينيات القرن الماضي توفير العديد من المشاريع الخدمية للمنطقة، منها إنشاء مدرسة للمنطقة كان مديرها آنذاك. وكان يجاهد بكل السبل من أجل توفير أبسط الحقوق للمواطنين، هذا ما دفع الناس تلتف حوله وتدعمه كما أنه كان يحظى بحب واحترام الجميع. وبحسب ما أدلى به وليد شمسان، وهو الابن الأكبر للمخفي عبد الواحد، فإن والده كان عضوًا في هيئة التطوير حتى العام 1976، ومن ثم انتخبه الأهالي رئيسًا للهيئة. هذه الهيئة مخولة بتنفيذ المشاريع الحكومية الخدمية للمنطقة، كما أنها الجهة التنفيذية لمشروع الخطة الخمسية التي وضعها الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي.
ويؤكد وليد أن والده لم يرتبط بأي عمل سياسي أو جماعة سياسية مشبوهة في تلك الفترة، فقد كان موظفًا حكوميًا بسيطًا، يسعى جاهدًا في سبيل أهالي المنطقة وتوفير أبسط المشاريع الخدمية لهم. لكن الأمور ساءت وانعكست سلبًا عليه وعلى من كان معه.
يشهد كثيرون من أبناء المنطقة الذين عاشوا في تلك الفترة، مدى مظلومية هؤلاء الأشخاص واختطافهم وإخفائهم عنوة دون أي مبرر، كما أنه يعرفون جيدًا ما قدمه عبد الواحد لصالح المنطقة.
في تلك الفترة ظل أهالي المخفيين يبحثون عن أبنائهم من مكان إلى آخر ولكن دون جدوى، ومنذ ذلك العام قام صادق شقيق عبد الواحد بالمتابعة والبحث عنه من مكان إلى آخر وكانت كل الطرق مغلقة ولا أحد يعلم أين هم أو يفصح عن مصيرهم بشيء، وبعد عملية البحث التي استمرت سنوات طويلة وصل الأهالي إلى أن أبناءهم في قبضة الأمن السياسي حسب قول فؤاد عبد الجليل.
كثير من المخفيين
هناك الكثير من المخفيين قسرًا الذين تم إخفاؤهم في تلك الحقبة الزمنية ولا يعلم أهاليهم مكان تواجدهم حتى الآن، ففي الأعوام السابقة كشفت وسائل إعلام محلية أن هناك المئات من المخفيين قسرًا، وقد ظلت هذه القضية من أكثر القضايا غموضًا في اليمن، ولم يستطع أحد الاقتراب منها أو البحث عن تفاصيلها.
في العام 2011 ظهرت دعوات كثيرة تطالب بالكشف عن مصير المخفيين قسرًا، كما تضاربت الكثير من الأنباء والأخبار عن مكان تواجدهم. عاد الأمل حينها للكثير من الأهالي وعادوا للبحث عنهم من جديد، كما كشفت أسماء كثيرة جديدة، لكن سرعان ما انتهت القضية.
في العام 2012 نظم الرسام مراد سبيع ومجموعة من الفنانين والرسامين مبادرة بعنوان “الجدران تتذكر وجوههم” وذلك من خلال رسم جداريات مختلفة في أماكن عديدة في صنعاء تحمل صور المخفيين وقد ضمت المئات منهم، كما تمت مناشدات عديدة في مؤتمر الحوار الوطني من أجل معرفة مصير المخفيين، لكن لم ينتج عنها شيء.