حداثةُ التصوير الاستعاري للمعاناة في شعر البردّوني بقلم| عبده منصور المحمودي
بقلم| عبده منصور المحمودي
تمادت المعاناةُ في حياة عبدالله البردّوني الإنسان، فكان لها حضورها الجلي في وجدان البردّوني الشاعر، الذي لم يستسلم لها، وإنما استمد منها ما يُخَصِّب به صوره الشعرية؛ فكانت الحداثة بتقنياتها الفني من أبرز ما امتاز به إبداعه الشعري. سوف تتطرق هذه الدراسة إلى شطرٍ من حداثته التصويرية، تطرقًا مقصورًا على ملامسةِ قبسٍ من توهج التصوير الاستعاري لأنساق المعاناة في شعر البردّوني.
وبدءًا لا بد من الإشارة إلى التمايز بين مفهوم الاستعارة ووظيفتها قديمًا وحديثًا، ففي النقد القديم تقوم الاستعارة بشكلٍ محوري على اتسامها بأكبر قدر ممكن من قيم التشابه بين المستعار والمستعار له، فلا تزيد عن أن تكون بذلك، وسيلة للتحسين والتنميق، أو أنها وسيلة للتوضيح أو البرهان على صحة الفكرة(). وهذا التوصيف مرفوضٌ في نظرِ الرؤية المعاصرة، التي ترى أن الاستعارة ليست في أي مجال من مجالاتها عنصرًا إضافيًّا، وإنما هي “الوسيلة العظمى التي يجمع الذهن بواسطتها في الشعر أشياء مختلفة لا توجد بينها علاقة من قبل، وذلك لأجل التأثير”().
وقد استثمر البردّوني إمكانات التصوير الاستعاري المتكئ على هذه الرؤية المعاصرة، في دواوينه الشعرية التي صدرت في مجلدين()، ومن خلال مستوياته الأربعة: التشخيصي، والتجسيمي، والتجريدي، والتجميدي.
1ــ التصوير التشخيصي:
مفهوم الصورة التشخيصية قائم على أنسنة الأشياء والكائنات والمعاني، ونجد من ذلك تشخيص البردّوني لمعنى الحزن، حينما يجعل منه إنسانًا يبث شكواهُ وآلامه تارةً، وصامتًا مبهمًا تارةً أخرى، فيتعرف إلى بعضه الشاكي، ويجهل الصامت منه، يقول في قصيدته “فلسفة الجراح” [جـ1/ ص: (112)]:
متألمٌ: ممَّ أنا متألمُ؟ *** حارَ السؤالُ، وأطرقَ المستفهمُ
ماذا أحسُّ؟ وآه حزني بعضُهُ *** يشكو فأعرفُهُ وبعضٌ مبهمُ
إنسانية الحزن هنا واضحةٌ في شكواه وتألمه وصمته وإبهامه، فيتألم الشاعر انفعالًا وتأثرًا بشكوى بعض حزنه الذي تعرّف إليه، أما بعضُهُ الآخر الصامت المبهم فلا يتمكن من معرفته؛ فيتضاعف ألمه وحزنه.
لقد أنسنَ البردّوني معنى الحزن وشخّصه في هيئة إنسانٍ شاكٍ متألم، والبردّوني مولعٌ بوسيلة الإيحاء الرمزي المتمثلة في تشخيص التجريديات التي تثري شعره وتغنيه()؛ إذ تمثِّلُ هذه الوسيلة الفنية واحدة من سمات الحداثة الشعرية في شعره()؛ لذلك مثلت هذه الصورة الشعرية واحدة من سمات الواقعية التعبيرية في شعر البردّوني؛ لأن “أهم ما فيها هو هذا البوح الذاتي الواقعي الذي تجلى بحسن التعبير وجمال الرؤيا، هو النص القائم على الموازنة بين العلم واللاعلم، بين النفي والإثبات، وإن كانت هذه الثنائيات تنتمي إلى صدقٍ شعوريّ، هو الصدق بالتعبير، فإن المرجعية تعود إلى البردّوني إنسانًا… ولا شك في أن الشاعر أراد أن تكون الذات هي الجمع، فالألم لم يكن إلا ألمًا جماعيًّا في النص”().
ومثل ذلك يؤنسن البردّوني الليل، في عدد من الصور الشعرية كقوله [جـ1/ ص: (163)]:
وحدي هنا يا ليل وحدي *** ما بين آلامي وسُهدي
فالشاعر يشخص الليل ويناجيه مناجاة إنسانٍ يعي ويسمع ويحس ويتأثر، فبث إليه همومه وأحزانه وسهاده وآلامه. والصورة التشخيصية لليل، توحي بالهمّ والكآبة، وترتبط بدلالات حزينة تتوافق مع الظلام وما يوحي به من سوء عتمة وعدم وضوح الرؤية().
وقد خصب الشاعر الموجودات الجامدة، حينما بعث فيها الحياة، وأصبغ عليها الصفات الإنسانية: البنايات، والشوارع، والأرصفة، والجدران، … من ذلك قوله [جـ1/ ص: (780)]:
تصغي إلى بعضِها الجدرانُ، واجفةً *** تئنُّ تحْمرُّ، كالقتلى وتمتقِعُ
في هذا البيت تحويلٌ إبداعيّ استعاريّ للجدران من طبيعتها الساكنة إلى طبيعة إنسانية حيوية؛ فإذا بالجدران ممتلكةً للمشاعر والأحاسيس والإدراك والحواس الإنسانية: تصغي، وتئن، وينتابها الخوف والقلق، كما أنها تسامره وتصغي مثله، وتسعل [جـ1/ ص: (427)]:
وسَهدتُ والجدرانُ تصغي مثلما *** أُصغي، وتسعلُ كالجريحِ السَّاهدِ
لقد استطاع البردّوني ببراعةٍ تشخيص الجدران بتفاصيل الطبيعة الإنسانية؛ فتشخيص الأشياء والجمادات واحدة من وسائله الفنية في شعره()، فهو “يعطي الصفات الإنسانية الحية لغير البشر، وهو في هذا الجانب مولعٌ بتصوير الجدران. والأرصفة يكشف بواسطتها الواقع وتناقضاته، كما أنها توفر له فرصة إسقاط معاناته الذاتية عليها”().
2ـ التصوير التجسيمي:
التجسيم هو إضفاء صفة المادة على ما هو مجرد()، بدرجة أساسية، وهو الارتفاع بالمجرد إلى مرتبة الجسد المادي المحسوس.
ومن المعاني التي جسمها البردّوني في صورة مادية، تجسيمه للمعاناة والشجن في صورة (الخيل)، حينما يقول [جـ1/ ص: (727)]:
يا وجهَهَا في الشاطئ الثَّاني *** أسرجتُ للإبحار أحزَانِي
أشرعتُ يا أمواجُ أوردَتِي *** وأتيتُ وحدِي فوقَ أشجانِي
لقد جسم الشاعر هنا الأحزان والأشجان في صورة خيلٍ، وإن لم يرد اسم (الخيل)، فقد ورد ما يدل عليه (أسرجت)، و(أتيتُ … فوق). وقد تجلت حداثة التصوير وجمالياته في تحول الحزن من طبيعته الذهنية المجردة إلى كائنٍ حيّ، حمل الشاعر إلى غايته، كما تجلت هذه الجماليات في إكساب هذا الكائن قدراتٍ لا يمتلكها في طبيعته الواقعية؛ إذ صار قادرًا على الإبحار بالشاعر نحو غايته المرجوة.
لقد تجسد الحزن حيوانًا ذا قدراتٍ تلبي حاجة الشاعر؛ فقد صار خيلًا بقدراته التي تمكنه من أن يمتطيه الشاعر برًّا حتى وصل به شاطئ البحر، لكن غاية الشاعر في الشاطئ الثاني؛ فأضفى الحزن على هذا الكائن المتجسد فيه (الخيل) قدراتٍ تمكّنه من الإبحار بالشاعر نحو غايته تلك، وفي ذلك تبلورت شعرية المعاناة وجمالياتها في هاتين الصورتين.
وكذلك هو الأمر في تجسيم المعاني في صورة مادية جامدة كتجسيم المعاني في صورة قوتٍ يومي؛ إذ جسم البردّوني في قصائد معاناته عددًا من المعاني الذهنية في هيئة طعامٍ يقتاته في واقعه البائس، فنجد معنى الأسى هو الماء والزاد في هذه الصورة [جـ1/ ص: (282)]:
وأعيش في أوهام سلوى *** والأسى زادي ومائي
يجسم البردّوني في هذه الصورة معنى الأسى في صورة مادية محسوسة، متمثلة في أهم المتطلبات الضرورية لإشباع غريزة البقاء على قيد الحياة (الزاد/ الماء)، فيكون بذلك الأسى القوت اليومي الذي تقوم عليه حياة الشاعر الذي ظهر تجسيم المعاني في صورة قوتٍ وطعام بشكل كبير في شعرية معاناته؛ فهو يعجن معنى الحزن في هذه الصورة، التي يقارن فيها حاله بحال صاحب الفرن الذي يخاطبه بقوله [جـ1/ ص: (782)]:
عاجنَ الفرنِ.. أتدري؟ سنةً *** وأنا أعجن أحزاني وغمي
كما أنه يقتات أوجاعه، ويعزفها شعرًا رائعًا يسكن أصداءَه [جـ1/ ص: (357)]:
أقتات أوجاعي وأعزفها *** وأشيد من أصدائها سكني
بل تتفاقم معاناته لمآسيه وأحزانه وفاقته، فيجسم ذلك في صور شعرية زاخرة بالمفارقة الجمالية؛ فيكون جوعه وظمأه الذي يمثل حاجةً ماسة للزاد، هو الزاد ذاته، كقوله في قصيدته “كيف أنسى”، التي قالها على قبر حبيبة طفولته عندما طاف به [جـ1/ ص: (166)]:
واليوم إني حول قبركِ صامتٌ *** أقتاتُ من جوعي وأستسقي الظما
والملاحظ، أن تجسيمه للمعاني في هيئة قوتٍ يكثر في دواوينه الأولى، ويقل إلى درجة الندرة في دواوينه الأخيرة؛ وفي ذلك، تصويرٌ لتصاعد مستوى ما يقتاته من معانٍ مكتنزةٍ بدلالات الحزن والأسى؛ ففي الدواوين الأولى كان الحرمان والفقر وراء غلبة “القُوت” صورةً تجسيميةً لبعض المعاني، أما الدواوين الأخيرة، فقد تجاوز ذاك الحرمان، واقتات الأسى والمعاناة في مستوى فكريٍّ ووجودي، من مثل ما في هذه الصورة التي جسد فيها الموت زادًا له في ديوانه الثامن “ترجمة رملية لأعراس الغبار”، من قصيدته “رسالة إلى صديق في قبره” [جـ2/ ص: (1114)]:
متَّ يومًا يا صديقي، وأنا *** كل يومٍ والردى شربي وزادي
3ـ التصوير التجريدي:
يقوم هذا النوع من التصوير الاستعاري على تحويل المحسوسات من المجال المادي الذي هو طبيعتها إلى مجال معنوي هو من ابتكار الشاعر()، ويلجأ إليه الشاعر حينما يريد “تشبيه المحسوس بالمعقول، أو المعقول بالمعقول، فالشيء المادي المحسوس قد يقارن بفكرة ذهنية مجردة، كما أن الفكرة الذهنية المجردة قد تقارن بفكرة أكثر وضوحًا”().
ومن نماذج هذا التصوير عند البردّوني، تجريده الإنسان من مادية كينونته الوجودية إلى مفهوم ذهني مجرد، كما في قوله [جـ1/ ص: (135)]:
أنا من أنا؟ الأشوا *** قُ والحرمانُ والشكوى أنا
أنا فكرةٌ وَلْهَى معانيـ *** ـها التضني والضنى
يتساءل الشاعر عن ماهيته، وذاته، وطبيعته، بصيغةٍ استفهامية تقريرية، توحي بإحساسه بعدمية ذاته؛ لذلك يجيب عن هذه التقريرية الاستفهامية بتجريد ذاته من خصائصها المادية الملموسة إلى وجودٍ معنويٍّ تتقاسمه المعاني الذهنية: (الأشواق/ الحرمان/ الشكوى).
وتضمن البيت الثاني مركز الدلالة المحورية، المتمثلة في بلورة هذا التجريد للذات وتحوير الكينونة الإنسانية، إلى فكرة ذهنية ذات معنى كليّ، هو البؤس والشقاء (التضني/ الضنى)، ومن هذا المعنى تتفرع دلالاته التفصيلية، في صورٍ تجريدية من البيت الأول راشحة بالمعاناة والعذاب (الأشواق، والحرمان، والشكوى)، وإلى الفكرة والمعنى ذاته تعود هذه الدلالات بتشابكٍ عنقودي، في هذا التصوير، الذي أبدعت المعاناة جماله وروعته.
وكذلك هي الحال في تجريده للجمادات؛ إذ ينتقل بها من واقعها المادي وخصائص حسيتها إلى واقعٍ ذهنيّ بمعانٍ تترجم ما تحققه المعاناة من جمالياتٍ فنية في التصوير الشعري. ومن ذلك، هذه الصورة ردًّا على من سألته عن عنوانه [جـ1/ ص: (476)]:
تقولين أينَ؟ وبيتي صدى *** من القبر، جدرانه من نواحْ
وتيهٌ وراءَ ضياع الضياعْ *** وخلفَ الدجى، ووراء الرياحْ
فبيت الشاعر هنا (مسكنه)، قد انتقل من خصائصه المادية في وجوده الملموس إلى معنى ذهني (تيه)، بما فيه من دلالات الضياع، هذا الضياع الذي يقترب من (التيه/ البيت) مُعَنْقِدًا صورة تجريدية أخرى؛ امتدادًا لسابقتها، فيكون معنى الضياع عالَمًا له خصائصه التي يقع مكان بيت الشاعر (التيه) وراء أهم تلك الخصائص وجوهرها المتمثلة في ضياع الضياع ذاته.
لكن الشاعر يتجاوز هذا الضياع في تحديده مكان بيته، بعد أن يجرده إلى معنى ذهني في قصيدة أخرى، بعنوان “ساعة نقاش مع طالبة العنوان”، وردًّا عليها حينما طلبت عنوانه أيضًا، يقول [جـ1/ ص: (647)]:
ـــ “حسنًا عنوانكَ”… وابتسمتْ *** عيناها.. كعشايا (نيسانْ)
ـــ (صنعا) يا سلوى عنواني *** بيتي: في مُزدَحَمِ الأحزانْ
فمكان بيت الشاعر في هذه الصورة هو (صنعاء)، وتحديدًا في مكانٍ ذهني تزدحم فيه معاني الحزن التي يتموضع بينها بيت الشاعر متجردًا من طبيعته المادية، وفي ازدحام الأحزان بصنعاء تصوير تجريدي آخر لصنعاء بما فيها (بيت الشاعر)، إلى مكانٍ ذهني آخر، ليس من خصائصه مادية الأمكنة، وإنما تتسيده معاني الحزن والمعاناة والعذاب.
إن تجريد المساكن في معانٍ ذهنية، امتدادٌ لتجريد ساكنيها من الهيئة المادية لكينونتهم البشرية إلى معانٍ ذهنية، وفي ذلك كله تصوير لمدى ما وصل به الشعور الإبداعي من إحساسٍ بعدمية الحياة، وعدمية البقاء المعذب فيها، وعدمية ما فيها من مساكن تحولت من ماهيتها المفترضة في أن تكون للراحة والطمأنينة إلى ماهية مناقضةٍ، وبذلك، يتعاظم الشعور بلا جدوى الحياة وتهميشها المستمر متخلقًا في تصويرٍ فنيٍّ يجرد الحياة إنسانًا ومسكنًا إلى فضاءات ذهنية مبتكرة.
ومن حداثة التصوير التجريدي لمعاناة الشاعر تجريده للزمن، من مثل ليالي السجن التي تتجرد بماهيتها وطبيعتها المجبولة على قسوة الأسى والعذاب إلى معانٍ تستقر في حنايا الشاعر، في قوله من قصيدته “ليالي السجن” [جـ1/ ص: (160)]:
نزلتْ ليالي السجن بين جوانحي *** فحملتُ صدري للهموم ضريحا
ويبدو تجريد الليالي في هذه الصورة ذا إرادة مباشرة من الليالي ذاتها، فتدخل دخولًا إجباريًّا ممتلئًا بالسطوة والثقة، إلى حنايا الشاعر، غير مستقرة في ذهنيته الفكرية والعقلية، بل استقرت في ذهنيّته العاطفية ومشاعره، فصار حاملًا صدره ضريحًا للهموم، وما تكتنز به من دلالات حزن وشجن.
ويمثل الحضور البارز لتجريد الزمن في صورة الليل إيحاءً إلى طبيعة الليل الهادئة، والمحفزة على التجريد الذهني للأشياء، بما في ذلك ماهيته التي تتضاءل بكثافتها المعتمة إمكانات الإدراك الحسي للأشياء المادية، فيكون الليل بذلك ماهيةً تشملها المعاناة بجمالياتها في التصوير الشعري من الصورة الاستعارية التجريدية.
4ــ التصوير التجميدي:
التجميد في التصوير الفني، “هو اتجاه تصويري رمزي كالتشخيص والتجسيم وإن يكن على العكس منهما، يسلب كائنًا حيًّا حياته ويبرزه لنا جمادًا لا روح فيه”().
وقد يكون هذا التجميد كليًّا أو جزئيًّا؛ ففي التجميد الكلي، يفقد الكائن الحي خاصية حياته فقدانًا كليًّا، فيتحول من كائن ذا روحٍ وحياة إلى جمادٍ لا روح فيه ولا حياة. ومن ذلك قول البردّوني [جـ1/ ص: (691)]:
كلانا تُخَشِّبُنا الأمنيات *** وتعصرنا الذكرياتُ العنيفةْ
في الشطر الأول من هذا البيت تصويرٌ استعاريّ ذو تقنية تجميدية، نقلت الشاعر وصنعاء إلى عالم الجمادات الساكنة المتصلبة؛ فهو “يحاول تجميد نفسه وصنعاء -المعادل الرمزي للشعب- في صورة الأخشاب، للإيحاء بالجمود والثبات والرتابة، كما أن الصورة التي تظهر فيها الأخشاب وهي موضوعة بشكل أفقي، توحي بالموت”().
وتتمدد هذه الصورة إلى الشطر الثاني من البيت متمظهرةً في صورةٍ تجميدية أخرى، فيها نقلٌ للكائن الإنساني من ماهيةٍ تُميّزه بالحياة إلى ماهيةٍ ماديّةٍ مسلوبة الروح والحياة، في حالها السائلة؛ فالشاعر يحاول “تحويل نفسه والشعب إلى شيءٍ قابلٍ للعصر رغبةً من الشاعر في نقل إحساسه بعدمية الشعب، ولذلك حاول قدر الاستطاعة أن ينفيه من الواقع، بفاعل من داخله، هي الأمنيات في الأولى والذكريات في الثانية، وكأن الشاعر يصنع أمامنا السبب الذي أدّى إلى جمود الشعب، وهو عدم تجسيد الذكريات والأمنيات إلى واقعٍ حقيقي”().
أما التجميد الجزئي، فيتمحور في تجميد جزء من الكائن الإنساني كتجميد القلب أو العين أو اليد… ومن تجليات التصوير التجميدي بصفته الجزئية عند البردّوني ما في هذه الصورة الشعرية، من قصيدة “مع الحياة”، التي قالها وهو على سرير المرض [جـ1/ ص: (137)]:
ما حياتي إلّا طريقٌ من الأشـ *** ـواكِ أمشي بها على الجرحِ والدمْ
وكأني أدوسُ قلبي على النا *** رِ وأمضي على الأنين المُضَرَّمْ
فقد اكتنزت هذه الصورة بإيحاءات إلى عذاب القلب ومهانته، حينما يدوسه صاحبه في جمر المعاناة وآلام المرض ماضيًا فوق أنينه المستعر.
وعلى النقيض من إيحاء التصوير التجميدي للقلب بمهانته في معاناته وعذابه، نجده في صورٍ تجميدية أخرى ذات إيحاء بسموه ونبل مكانته، كما في هذه الصورة التي يجمد البردّوني فيها قلبه قائلًا [جـ1/ ص: (688)]:
إنْ هَمَتْ أحْرُفي دمًا فلأني *** يمنيُّ المدادِ … قلبي دواتي
ففي هذا التصوير التجميدي للقلب إيحاءٌ بمكانته السامية، فهو دواة الشاعر التي فيها حبر إبداعه، وفي ذلك، أيضًا، إيحاءٌ بتخليد القلب، في تجميده دواةً لفن الشعر الموسوم بطبيعته الخالدة.
لقد أبدع البردّوني، من المعاناة والألم، عناقيد تصويريةً، هندسها بتقنياتٍ الحداثة والتجديد، فزخرت شاعرية نصوصه عمومًا بهذه الحداثة الفنية، وامتدت في الشعرية المعاصرة فضاءاتٍ رحبةً، وعالَمًا من الدهشة الباذخة والجمال المتجدد.