دخان الحرب يحجب الرؤية.. مشاهد مقتضبة لتبعات الحرب على المجتمع اليمنيّ بقلم| فايز الأشول
بقلم| فايز الأشول
يحل موسم جَنْي الرمان في صعدة وعشرات الأطفال مبتورو الأيدي، تلاحق الفتاة أغنامها في الخوخة فتدوس على لغم يبقي لها قدمًا واحدة. تهترئ مخيمات النازحين خلف خطوط النار ويطوي قاطنيها الإهمال ولا أمل قريب في العودة. ينبت العشب فوق المساكن المدمرة في مديرية “نِهْم”، وتقف العجوز كل صباح على حطام منزلها لتبكي موت أسرتها وتلعن بقاءها حية… دخان الحرب يحجب الرؤية ولا أحد يرى الألم.
إذا كان الناجون من الموت بنيران الحرب هم المحظوظين، فأيّ حظّ هذا الذي يبقيك لترى طفلك يصارع المرض وأنت لا تملك ثمن الدواء؟ وكيف يكون الإحساس بالحياة لدى أُمّ تلازم النافذة في انتظار ابنها الذي انقطعت أخباره في جبهة الحرب؟ وأي فجيعة تصيبك عندما تعلم بموت أحد أفراد عائلتك وأنت شريدٌ خارج الوطن؟
في الوطن الذي مزّقته الحرب، وتفكك نسيجه الاجتماعي، ينقسم أهالي القرية الواحدة، وتتواجه بنادق “الإخوة الأعداء” في أكثر من جبهة. يُقتل شاب في الخندق الآخر بمأرب فتنهمر دموع أسرته في عَمْران خلف حيطان المنزل، وتعجز عن نصب خيمة عزاء.
ينتظر العريس عروسه القادمة من قريته التي نزح منها قبل سنوات، فتعبر نقاط التفتيش مع المسافرين في حافلة نقل جماعي، لتصل باب شقته المستأجرة برفقة أحد أقربائها وفستان فرحها عباءة سوداء.
يُخفي الأبناء عن والدهم خراب منزله في مدينه تعز، الذي يمثل كل ثروته التي جمعها في سنين الغربة، وأجبرته قذائف المتحاربين على مغادرته في السنة الأولى من الحرب، ليموت بعد خمسة أعوام في أحد المستشفيات بصنعاء ومفاتيح المنزل لا تزال معقودة في حزام خاصرته.
يعيش الكثير من المشردين والهاربين من جحيم الحرب إلى جهات الأرض الأربع، بذكريات ممزقة، وندوب يصعب تخطيها؛ فمنهم من يعلَق في بلد، ومنهم من يكابد التعب والشقاء ومصاعب العيش والمأوى، ليواصل التّرحال بحثًا عن الحياة.
يتشبّثون بصور أحيائهم وقراهم وعائلاتهم، ويحتفظون في حقائبهم بـ”جَنبِيَة وعَسِيب” أو “معْوَز وشال”، مع كثير من الحنين لروائح الأماكن وعبق تراب موطنهم، وأمنيات بـ”مقلى سَلْتَة، وعَصِيد، ومَرَق حامض”، وحتى علبة “قات مطحون”.
تلتقي أوجاع النازحين من تعز والحديدة وحَرَض ومِيدي وغيرها، في المقاهي و”حراجات” العمال بصنعاء. وهناك وجه آخر للحرب، وعوالم من القهر والحزن والأسى؛ ملامح شاحبة وأجساد منهكة، جمعتهم الخيبات والخسارات المادية والمعنوية، ووحّدهم الألم ومصارعة متطلبات الحياة اليومية، بالاشتغال في مهن أجبرتهم الحاجة على اكتسابها، ولا صلة لها بتخصصاتهم ولا وظائفهم ولا بمستقبلهم. مثقلون بالديون وهموم رغيف الخبز والمؤجرين الذين يُرهبون أطفالهم بإخراجهم وحجز الأثاث المتهالك بسبب تأخر سداد الإيجارات.
في المدن والأرياف، تقابل أناسًا خسروا كل شيء ولم يتبقَّ لهم أي شيء ليبدؤوا من جديد. جروح تتقيح، وأوجاع مهملة تحت غبار الحرب. أطفال بلا طفولة، عكازات وأطراف صناعية تتكاثر، مشاكل عائلية يُخرِج فقرُ الحرب أصواتها من الغرف إلى الشوارع حين ينعدم ثمن تعبئة أسطوانة الغاز، أو يعجز رب الأسرة عن شراء فستان أو زوج حذاء، اكتئاب وقلق واضطرابات نفسية وعقلية، عيون خائفة تنظر من ثقب “طِرْبال” يغطي بقايا حيطان منزل بعد القصف، مساكن هجرها أصحابها فانتعشت الفئران فيها لتزعج الجيران وتغدو مقصدًا للقطط وللجريمة؛ وفي الحرب تتصارع الأخلاق أيضًا.
الحرب متواصلة للعام السابع، وعداد الضحايا لا يتوقف؛ مجزرة جديدة، أشلاء ممزقة…، وأحوال الطقس في ختام أخبار المساء كل ليلة. لتلاحقنا الكوابيس والأحلام المفزعة ونصحو على الفجائع.
تتوالى اجتماعات مجلس الأمن، وتقارير المبعوثين، والاستعراضات الدورية للجرائم المرتكبة بحقّنا في مجلس حقوق الإنسان. ويتوصل ممثلو أطراف الحرب في ختام كل جولةِ مشاورات في منتجع سياحي أو فندق فخم، إلى المضيّ في الحرب، لتحافظ اليمن على صدارتها للمأساة عالميًّا.
قلوبنا تهرم، والضحكات تموت في دواخلنا، ولا يمر يوم في الحرب دون أن يأخذ شيئًا منا.
يكبر الألم لدى كثير من ضحايا الحرب، وتلتصق بآخرين تشوهات وإعاقات تلازمهم طوال حياتهم، ولا أحد يستشعر هذه الأوجاع إلاّ من يعاني منها، التي قد تكون أحيانًا أشد من الموت بقذيفة.