عبد الله سلام هل نطق كفرًا؟! بقلم| عبدالرحمن بجاش
بقلم| عبدالرحمن بجاش
تعود معرفتي الإنسانية بالأخ عبدالله سلام الحكيمي، إلى أيام موغلة في القدم، إذ تجمع بيننا في كدرة قدس وأهلها علاقات شخصية متميزة، فرضها القرب الجغرافي و”المصلى” المشترك بين قدس والأحكوم، حيث نجمة سعيد الشيباني لا تزال تطل على المساءات وإلى يوم يبعثون، يوم أن كان خير عدن يتدفق إلى تلك النقطة، فتعارف أهلنا، وانسحب تعارفهم علينا.
أما علاقتي المهنية، فتعود إلى ذلك المساء، فقد ذهبت وبيدي مجموعة صفحات، كتبت عليها ما عنونته بـ “حسناء المراعي” خليط من كل شيء!! كنت في بداية المشوار.
في شذروان التوجيه المعنوي، جلست إليه، أخذها مني، وكان رئيسًا لتحرير صحيفة ” 13يونيو” التي تحولت في مرحلة لاحقة إلى “26 سبتمبر”. عبدالله سلام دمِثًا، علق: أيش كل هذا الأدب؟ ليتوارى قلقي قليلًا، ولم أعد أذكر؛ هل نشرت أم لا.
ذات نهار، كنت مع الزرقة في وزارة الإعلام، فطلب منه الأستاذ أحمد الرعيني (رحمهما الله) أن يوصله معنا إلى البيت -كان بيته لحظتها في قاع العلفي- وفي المسافة القصيرة بين الوزارة والبيت، سمعتهما يرددان اسم عبدالله سلام، كان الرعيني يحدث الزرقة عن أدب الحكيمي ودماثته الشخصية، وكيف تم تعيينه وكيلًا لوزارة الإعلام والثقافة، وكيف ذهب إليه مذعورًا يطلب منه أن يأمر بنقل السكرتيرة الجميلة المصرية من مكتبه -وكانت بالأساس مديرة لمكتب إسماعيل الكبسي (رحمه الله) الذي حل محله- وهو ما حصل…، الرعيني محدثًا جميلًا بصوته الجهوري، قبل أن تقف السيارة، راح يكلم الزرقة وأنا أسمع: “ليلة الانقلاب” -يقصد حركة أكتوبر- كنت وعبدالله سلام في التوجيه، فركب معي لنوصله في طريقنا، حيث كان يسكن في شارع الزراعة، وقبل أن أنزل طلبت من السائق أن يذهب به إلى البيت، قلت: يا أستاذ عبدالله، أمانة اكتب للإذاعة التعليق -الذي كان يذاع بعد نشرة أخبار الثالثة- قال، والحديث للرعيني: “ولا يهمك يا أستاذ أحمد، “”شَبْرُم لَك” ثلاث حلقات”؛ أي سأكتب لأيام ثلاثة. أضاف ضاحكًا موجهًا كلامه للزرقة: “ما ناش داري إنه كان (عيبرمني)”؛ أي: يتخلص مني. قيل لاحقًا، إن قائمة بأسماء كثيرة كانت معدة لاغتيال أصحابها.
استمعت إلى الفيديو المقتطع من برنامج حواريّ مع عبدالله سلام، وفيه قال قناعته بما يتعلق بـ”أنصارالله ” و”العدوان” و”الناصري” و”الاشتراكي” و”الإصلاح” و”ضرورة أن تحدد النخب موقفًا، ولا تظل تمسك العصا من المنتصف…”، هنا أقول أنا: على الجميع أن يحددوا موقفًا واضحًا حيال كل ما يجري في الوطن.
ردود الفعل التي اطلعت عليها، بحسب ما هو متوقع، كانت متشنجة، وشتائم، وتخوين، نفس الطريقة الخطأ لإغلاق الملفات والقضايا، أن تشتم وتخون، وتذهب للنوم، لم نتعود على أن نختلف، نتحاور على قاعدة احترام الآخر. عبدالله سلام أيضًا، برمي الآخرين بتهمة “الارتزاق”، وقعَ في المحذور. ولعمري، فلا يمكن أن يكون حوار ولا اتفاق ولا اختلاف، طالما لغة التخوين القاسمُ المشترك في علاقة الناس ببعضهم. يبدو أن فترات العمل الحزبي السرية، والخوف من كل أشكال الأمن، وتعمد النظام المتناسل من رحم المصالحة قد طبع علاقة النخب ببعضها، والأحزاب بحالة من الشك؛ ولذلك شهدت مراحل السبعينيات، والثمانينيات تصنيفات لكل من يُختلف -بضم الياء- معه أو يراد إزاحته من مكانٍ ما، أو تثبيته في نقطة معينة لا يتزحزح منها “التصنيف”؛ ذاك ناصري غصبًا عنه، وذاك يساري يذهب به إلى الأمن، ويشرد ويفصل، أو يضيع فجأة فلا تدري مصيره! كل ذلك وغيره من أشكال القهر والسحق صب من كأس أغسطس 68، التي كانت بداية الضرب على رأس كل ما هو جميل وجمهوري، لتتوالى الفصول، وتأتي مرحلة المشيخ السوبر لوكس وتسييس الدين، ومن ثَمّ القضاء على كل ما يؤدي إلى دولة قانون.
تلك المراحل أدت إلى إشاعة تهم التخوين بكل أشكالها، فحتى إذا كنت منتميًا إلى نادٍ رياضي، وجاءت لحظة رأيت أن ناديًا آخر أفضل من ناديك، يكون رد الفعل “خائن”!!!
في الدنيا كلها حيث الديمقراطية منهج حياة، ترى السياسي يغير رأيه وليس موقفه العام بين قضية وأخرى، بين مرحلة وأخرى أيضًا؛ لأننا لم نتعود على ممارسة الفعل الديمقراطي داخل الأحزاب، فيكون التخوين والعمالة والارتزاق التهمَ التي تخرجها من الجيب، وهات يا توزيع يمينًا وشمالًا، هذا بصورة أخرى أدى إلى الجمود، فأنا أدري وأعرف أن كثيرين جدًّا داخل الأحزاب المعتقة لهم آراؤهم ووجهات نظرهم حيال قضايا كثيرة تخص كل حزب، لكن خوفه من التهم الجاهزة من أنه قد “باع القضية” وأصبح عميلًا ومرتزقًا، تراه يصمت صمت القبور، وهذا ما أحدث هوّة سحيقة بين القواعد والقيادات، هذا أيضًا ناسب قيادات هي أصلًا مريضة في أعماقها وتربيتها من الأساس، فتنمّرت، وباعت واشترت، وأتحدى -مع الاحترام- أن تجد حزبًا يسأل قواعده عن رأيها حيال أي قضية مصيرية، وفي مؤتمراتها العامة يتم سلق القرارات والتوصيات في الغرف المغلقة، وفي القاعة، حيث الهرج والمرج، يتم إقرارها وجمعيات عموم الأحزاب كجمعية عموم نقابة الصحفيين لا تدري شيئًا عن أي شيء!
عبدالله سلام قال رأيه، وعلى الآخرين أن يوافقوه، أو يختلفوا معه فحق لهم، وإن كان سؤال الزميل عارف الصرمي: “ماذا أبقيت…؟!”، نوع من المحاسبة، وليس السؤال المهني الصرف، مع الاحترام الشديد له ولبرنامجه.
حياتنا العامة بحاجة إلى ثورة تقضي على الجمود الذي أصاب كل شيء، كل شيء. لذلك علينا إن أردنا البحث عن لغة جدية وجديدة للحوار، للاختلاف، ونبذ التهم الجاهزة، وأولًا وأخيرًا إزاحة كل الوجوه المرهِقة والمرهقَة المشهد، لتحل محلها دماء جديدة ملهمة هي نفسها بحاجة إلى سنين لتتعلم؛ لأن قيادات الأحزاب والنخب العامة أكلت أخضر الثورات ويابس الديمقراطية الخدعة الأكبر.