“تصحيح وضع”.. السياسة التي أعادت تعريف المغترب المقهور! بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني
بقلم| محمد عبدالوهاب الشيباني
(1)
أنهيت من فترة قصيرة دراسة عن الأدب اليمني المعاصر وقضايا الهجرة. صار للدراسة عنوانها الخاص هو (الهجرة والمهاجرون في أدب اليمن المعاصر)، وفيها تتبعت تمثيلات وسمات عديدة في نصوص شعرية وسردية أفرزتها ظاهرة الهجرة اليمنية المعاصرة خلال القرن العشرين.
حصيلة التتبع كانت تغطية شاملة لمواطن الهجرة اليمنية في جنوب شرق آسيا، وأفريقيا، وأمريكا، وأوروبا، والسعودية، وكانت الرواية هي النوع الأكثر فعالية في قراءة هذا الحال من شتات المهاجرين اليمنيين في كل أرجاء اليابسة تقريبًا. وكيف أنها في الأصل، هي الفاعل الحقيقي في معظم الكتابة الأدبية، وتنطلق من حقيقة شائعة تقول إن “النماذج الروائية من أهم أجناس الآداب تعبيرًا عن معاناة المهاجرين ومواقفهم وآرائهم. فكانت الكتابة الروائية وصفًا للذات التاريخية التي يعيشها المهاجر بآمالها وانكساراتها وإحباطاتها”، كما تقول حورية الخمليشي.
الشخصيات المركزية في النصوص السردية التي خضعت للقراءة حملت اليمن بتنوعها الثقافي والجغرافي، وأيضًا ببؤسها وقهرها، والأكلاف التي تدفعها بفعل مغامرات الحكام المتعاقبين. من المشكلات التي لم تزل طرية، وتفعل فعلها في حياة اليمنيين، هو انحياز نظام الحكم في اليمن لنظام الحكم العراقي الذي اجتاح جيشه واحتل دولة الكويت في صيف العام 1990، فلم تجد دولة مثل السعودية وبقية دول الجوار النفطي إلا أن تعاقب المغتربين اليمنيين المقيمين على أرضها، بجرم اقترفه النظام، فدفعوا ثمن ذلك باهظًا.
(2)
ما الذي جناه المغتربون اليمنيون في السعودية من حرب الخليج الثانية (90-1991م)؟! هو السؤال المحوري الذي تقارب تفاصيله رواية “تصحيح وضع”(*)، حينما اتخذت من أحوال يمنيين طالتهم إجراءات الكفالة، موضعًا للتناول السردي، بعد أن كانوا يحظون بامتيازات تقترب من المواطنة بفعل اتفاقات سياسية عقدتها الحكومتان اليمنية والسعودية ابتداء من اتفاقية الطائف في العام 1934م، ومع هذا التبدل ستبرز إلى الواجهة الحالة الأكثر قسوة، وستختزلها الصورة البليغة للعودة، تظهر كاسترجاعات لامعة وحادة في ذهن الراوي المركزي:
“لاتزال الحافلات والشاحنات الكبيرة، تمر في خيالي، تتمايل متباطئة. عفوش وبالات ملابس، دراجات هوائية، إطارات سيارات، أفرشة، حقائب، أدوات كهربائية، يشف عنها الزجاج أو نصف نافذة مفتوحة. عربات كثيرة تتلوى عبر طرق طويلة، سألمح داخلها وجوهًا لنساء تسرح بعيدًا، مدسوسة في أغطية خفيفة سوداء، أو تتكئ سواعد مثنية قرب النوافذ؛ تفكر ربما بالحجرات الخالية، بالحوائط المستلقية بينها، بالطلاءات التي لطختها الذكريات يومًا بعد يوم. تلك البيوت التي لم يستطيعوا حملها كحقائب ويعودون بها إلى بلادهم، تركوها خلفهم في بلاد الغربة، التي لم يتصوروا يومًا الرحيل عنها هكذا ببساطة، حارس لا ينام على ظلالهم التي تنشب في لحم المكان” (الرواية ص10). من كل المدن السعودية رحلوا، مثلما رحلوا قبل ذلك من الكويت بعد اجتياح القوات العراقية لهما مطلع أغسطس 1990م، “رحيل جماعي من الرياض، جدة، مكة المكرمة، الدمام، أبها، جيزان، المدينة المنورة، الطائف، رحلوا دون جلبة، وسط ضجيج الحرب المنتظرة، من كل المدن والأرياف” (الرواية ص 14)، هذه الصورة التي ستشبث برأس شائف، بعد أيام من قراءته لخبر، على صدر الصفحة الأولى للجريدة، نزل على قلبه كخنجر: “نحن لم نفعل شيئًا غير مساواتهم بالمقيمين الآخرين، لكن ماذا عن التوقيت؛ أليس له علاقة بموقف حكومتهم من الغزو العراقي للكويت؟” كان هذا هو رد المسؤول الحكومي على أسئلة أحد الصحفيين.
أما الصورة التي سيكونون عليها بعد دخولهم أرض الوطن، فتتكثف على هذا النحو:
“على امتداد الشريط الأسود الضيق، الذي يعبر الطريق الوحيد المعبَّد والممتد من المنفذ الحدودي، مرورًا بحرض والقرى المنتشرة إلى غير بعيد عن البحر وقريب من مدخل مدينة الحديدة، يمكن بوضوح رؤية تجمعات كبيرة من المغتربين العائدين. مغتربون بسطاء، بعضهم لأول مرة يدخل اليمن، ليس لهم منازل أو حتى أقرباء، في الخارج وُلدوا وعاشوا طيلة تلك السنوات، دون التفكير بالعودة، ولو بهدف الزيارة، وبعضهم يعرف وطنه، لكنه لم يفكر قط أن يبني فيه بيتًا، ولو صغيرًا” (الرواية ص 62).
شائف، البطل المحوري في النص، بحار قديم، جاب العالم على ظهر السفينة “أفريقيا” التي غادرت ميناء الحديدة في نهايات الستينيات، وهو على ظهرها بعد أن وجد بعض ملاحي الباخرة في سوق شعبي بالحديدة، فعرضوا عليه العمل كعتال فوافق، ويتذكر من تلك اللحظة “عندما كانت قدماه تصعدان ببطء سلالم تلك السفينة القديمة، لم يكن يشغله شيء سوى أسرته، إخوانه وأمه، وفشل محاصيل الذرة في ريفه البعيد” (الرواية ص 15).
“قادته الصدفة للعمل ملّاحًا يسافر في بحار مجهولة، والصدفة ذاتها ستلقيه فيما بعد على اليابسة قي إحدى بلدان النفط الخليجية” (ص 8)، ليعمل في مهن كثيرة فهو “بنّاء ومليِّس، ثم عامل في مصنع قديم للطوب، وأحيانًا يقوم بتسليك بعض لمبات النيون، ومرات يشتغل بالسمسرة بين سائقي الجرافات ومقاولي البناء، لحفر أساس البنايات الجديدة، حتى أصبح يعرف كل البيوت هنا بحجراتها وممراتها وجدرانها وأحواشها وسطوحها” (ص14).
مثل كثيرين غيره “أحداث أغسطس1990، عصفت بأحوالهم في هذه البلد، فكان من العسير عليه أن لا يذهب لاستلام حوالات يبعثها أخوه الأصغر المهاجر في أمريكا بالدولار، يقوم بدوره بتحويلها إلى ريالات من دكاكين الصرافة، في سوق البطحاء. يبدو نشيطًا، بالرغم من عشرات السنين التي تنام فوق كاهله؛ لكن إذا حاول أي شخص أن يخمِّن كم عمره فلن يستطيع، ملامحه كتومة وعصيَّة على الإفصاح” (ص 14).
“بعد أزيد من عشر سنوات تجوالًا في البحار وبلاد الله الغريبة، وقبل أن تحط رحاله في هذه البلاد، عاد إلى اليمن، فقط تزوج من فتاة بسيطة، تمضي وقتها في زراعة وجني المحاصيل البائسة، نام معها مرات برغبة وحماس شديدين، ثم راحت تدريجيًّا تفتر رغبته ويتلاشى حماسه للارتباط، فتركها وراءه” (ص17).
الحجة ملكية اليمنية، بقيت تستقبل العائدين عن طريق التهريب بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، الذي لم يكونوا يعرفونه إلا من حكايات الآباء. ساعدتها الظروف لتبقى دون ترحيل؛ لأن اثنين من أزواج بناتها كانا متجنسين، فكفل أحدهما الجدة، والثاني كفل زوج البنت الكبيرة، الذي لم يطل به العمر كثيرًا، ومات مسلولًا بعد عامين من دخول قوات صدام إلى الكويت.
بقيت الجدة تحن على أولئك العائدين بطرق غير نظامية، وفتحت بيتها بحجراتها الخمس لكل من يطرقه طالبًا الاختفاء من دوريات الأمن والجوازات، حتى يتدبر أمره في الإقامة، وتفعل كل ذلك بطيب خاطر من موقع شعورها بمظلومية هؤلاء، وهي التي عانت قبلهم حينما كانت شابة ترعى الأغنام في جبال قريتها اليمنية.
(2)
شائف وسالم وقاسم وقبول، الشخصيات الفاعلة في النص الروائي، يختزلون حالة اليمنيين المقهورين غير المصحح وضعهم القانوني، بعد أن فرضت قوانين الكفالة التي أصدرتها الحكومة السعودية أثناء حرب الخليج الثانية وبعدها. “يعذبهم صوت أيوب طارش، يفتح بابًا على جحيم غربتهم، ويتركهم مثل سكارى تتعتعهم خمرة رخيصة، يرددون صدى أغانيه كنحيب قاسٍ وموحش” (ص 16).
فيما مضى كانوا “يشربون الشاي بالحليب ويدخنون المداعة، ويحكون عما فعلت بهم الحياة بعيدًا عن الوطن، أو يتحسرون على زمن كانت فيه الجنسية تعرض على كل من يريدها، وأن بعضهم لم يقبل يومها تبديل جنسيته؛ لأنهم ما توقعوا أبدًا أن يزدهر ويتبدل كل شيء هنا” (ص 17).
يبقى الأول (شائف) يتخفى حتى لا تطاله مداهمات رجال الشرطة، فيختار السفر مع المهربين إلى أمكنة لم يقررها سلفًا، في إسقاط رمزي لحالة المجهول في حياة اليمنيين، وحين يسأله سالم ذات مرة لمَ لا تبحث عن كفيل؟ أجابه: “سأعيش حرًّا ولو مطاردًا أو سأخرج حين تضيق الدنيا بي” (ص 15).
والثاني سالم -الحفيد الأكبر للجدة- راوٍ مضمر ولسان حال اليمنيين بتمزقهم الهوياتي، ولا يستطيع الإجابة عن سؤال الوطن والغربة ولا يهزه هذا الانفعال؛ لأنه لا مسقط رأس له هناك.
الثالث قاسم الذي يختزل حال اليمني الذي ظنّ أنه مواطنٌ في بلاد عمَّرها مع جيلين من قبله، ليكتشف أن صلاحيته مثل صلاحية الوطن قد انتهت: “لم تعد هناك حاجة لنا، الناس هنا تتطور، كل شيء تغير عدانا” (ص94).
قبول، ابنة مغتربَين يمنيين، وُلدت ونشأت في الشرقية، ومع الأحداث يقوم والدها ببيع المنزل الذي تملكه العائلة، ويغادرون إلى اليمن، لكنها تكتشف أنها غريبة في بلاد أبويها، وبعد أشهر من إقامة العائلة في الوطن أو “العالم الذي يشيب فيه الناس مبكرًا جدًّا، تذمر والداها، من أن المال يسيل من بين أيديهما، دون القدرة على فعل شيء تتأكد فائدته فيما بعد، فشلت مشاريعهم وذابت ثروتهم الصغيرة… أعيت أباها كل الطرق في أن يجد ما يتعامل به بأمان مع أهله وناسه، من غير أن يكون مضطرًا لإخراج المزيد من النقود. وفجأة قرروا الرحيل، العودة العكسية” (ص 23-24).
يجيء في سياق نصي عن حال هؤلاء الممزقين أنهم سيظلون هكذا ربما إلى الأبد، لكنهم حالمون كبار، مجرد حالمين، ليس بحياة جميلة، وإنما باجتياز الحدود والتسلل إلى السواحل الغريبة بمراوغة العسكر، بخداعهم تنكرًا في ملابس نساء، بالمشي لمسافات طويلة، بالمبيت في الخبوت، حتى يتمكنوا من العودة إلى جحيم أصغر في بلاد يعرفونها، وكانت حاضنة لأحلامهم، وتاركين جحيمًا أكبر في وطن لا يعرفونه، أو هكذا تهيأ لهم.
(*) أحمد زين، تصحيح وضع (رواية) وزارة الثقافة صنعاء، 2004.