آه.. فهمي السقاف آية الوفاء والصدق التي لا تنسخ مرتين بقلم| عفراء حريري
بقلم| عفراء حريري
في صمت مميت، رحل صديقي دون أن يسمح لي بسماع ضجيج قهقهة حين أسمعه لكاعتي.
في آخر لقاء معه قال لي: “يا صديقة عليك شكاوى كثيرة، وصمت برهة، نظر إليّ، ابتسمت ثم تابع: من النساء..”، ضحكت بعلو حسي بعد الاستماع إليه مثلما تعودنا وقلت له: ” نعم، بالفعل أنا سبب غلاء البترول والأسعار وهبوط الريال، وسبب الاعتقال والاغتيال وبؤس الرجال وسبب الانقلابات والانفلاتات والتقلبات وسبب عدم مشاركة النساء في الحكومة وإيقاف نفقة المظلومة، وسبب الخراب والاضراب.. سبب حتى إنهيار سد مأرب، ورفعت أصبعي السبابة للسماء واستطردت قائلة: ” فهمي يا عزيزي أنا أستمع إليك كثيراً، هناك رب في السماء ينصف بيني وبينهن “، وكعادته رد عليّ: “دائما تقنعني “. ليس لقدرتي على الإقناع، وإنما لأن الشكاوى قد سمعتها مراراً وتكراراً، فهمي تعال لنمضي نتحدث عن مصائبنا نحن، وتفاصيل حياتنا المحصورة والمحسوبة علينا حياة.
توقف عند كلمتي طويلا “المحسوبة علينا حياة”، وكرر هي فعلاً “محسوبة علينا حياة”، ونعرج للحديث عن الأصدقاء والصديقات الزائفون والزائفات وكُثر هم وهن يا صديقي، وفتحنا هنا بعض القوائم نستعرضها عن أحقادهم وحسدهم ونظرتهم إلى نجاحنا ورزقنا ولقمة العيش التي لايعرف هؤلاء كيف نصل إليها وعلى أي حساب؟ “رجال ونساء”.. وننتهي بالقول: ” إلا أننا نحبهم ونحبهن بصدق ” وهذا الذي يفرق بيننا وبينهم وبينهن.
نعم أيها الغالي.. هدوء النفس وسلامها واستقرارها لا يحصل عليه إلا قلة قليلة، منحة من الله المحبة، عطايا الرحمن التي لا حدود لها، فكيف بالله يستطيعون الآن سداد دينهم/هن لك!
كنا معاً نؤجل كل خصوماتنا مع الغير ونرفعها إلى الرحيم، الكريم، المنتقم، الجبار “وكنت تضحك عليّ، عن روحانيتي وتجلياتي وتتفق معي، بأني مثلك بلا رتوش ومكياج ولا حتى مجاملات، فأشبه نفسي برابعة العدوية، إلا أنها استمتعت ببعض سنوات حياتها أما أنا يا حسرة. ” رحمة الله عليها ” فتضحك بلا توقف.
فهمي يا صديقي من أين لي، بصديق أخر، يشيد بيّ بدون رتوش ومجاملات، لا يختلف معي كثيراً، إلا في حدود التهور بعض الأحيان، كما كنت تقول: “لا تندفعي فهؤلاء لا أمان لهم ومنهم، لا تقولي: رب السماء يحميني…، أنهم لا يخافون أيضاً”، من أين ليّ بمن أصلب إعجابا بضحكته، وأشده لسماع صوته الجهور، من أين ليّ بصادق صدوق أمين مثلك يا حبيبي.
آه. فهمي، فما هكذا يموت الأنقياء: “يا الله” بفاجعة وآلم، يُختطفون بقطار العمر، كرمشة عين ماتزال ترف من كابوس مخيف كنا حين نلتقي في فعالية ما، لابد أن نجلس بجانب بعضنا البعض كي ننام ونعلق ونتلاكع بهدوء وفجأة تفضحنا ضحكتك، ويفرقونا، إلا إننا نأبى أن نلتقي اخر الفعالية ونغادر معاً بسيارتي ونستمتع بما تبقى من تعليقات ومناقشة وتحليل واوصلك الى واجهتك وأنت مازلت تضحك، كم يمكنني أن أدفع ثمن قيمة تلك القهقهة يا صديقي كي أسمعها من جديد؟! وأمضي في حال سبيلي كيف ليّ بأن أشارك عن المخفيين قسراً دون وجودك، وعن العدالة الانتقالية دون حضورك، أتذكر يا فهمي تلك القاعة التي جمعتنا لعدة شهور من السنة، محور العدالة الانتقالية في مؤتمر الحوار الوطني وكيف كنا نرفض استباق المصالحة الوطنية على العدالة الانتقالية ومعنى الصديق الشجاع عبد الكريم الخيواني، ومعظم المطلوبين للعدالة كانوا معنا في ذات القاعة.
ها أنت تذهب إليه الآن، وتتركوني وحيدة في جدل عما حدث بفضاء تلك القاعة، وقطعت عهد معكما بالا أتسبق المصالحة العدالة الانتقالية وإلا فإنهم سيقتلوننا مراراً ذهاباً واياباً وهاهم يفعلون مع اختلاف بعض الشخوص، وإلا ما زلوا الفاسدين مثلما هم، والقتلة كم هم، الذي تغير ازدياد أعدادهم فقط ويكثرون من امتصاص دماؤنا ونحن نتناقص يوماً عن يوم وتشيخ ملامحنا وتنحل أجسادنا. نجاهد ركضا وسحلا ومشيا و…الخ وراء توفير لقمة الخبز المغموسة بالدموع والمطحونة بأنين أوجاعنا وهم يبدعون في بيع الوطن والثروة حتى العدل سجنوه في قفص إضرابهم، كما قلنا: أنهم يتشابهون ويتشابهون كثيراً يا صديقي. رحل الإنسان الذي ترك فراغ لا يملأه أحد في نفوس كل من عرفه عن بعد قبل قرب، رحل الأقرب الى عقلي قبل قلبي، رحل من لا يعوض مكانته وخلوده في ذاكرتي، رحل من لا تكفيه عبرات الحزن وحشرجة النواح، رحل الآية الصادقة من نضال رجال هذه البلد ومعظمهم قد رحلوا.
لا تنم يا صديقي.
فمعركتنا مع الظلم والفساد والقمع والإخفاء والذل والنهب والسطو والارتزاق…لم تنته بعد.