مديرية يريم.. إهمال يفوق الاحتمال
عمر دماج – يريم
منذ أكثر من ست سنوات لانفجار الحرب في اليمن، تفاقمت المشقة والعناء في حياة المواطنين، لا سيما فيما يتعلق بتوفير لقمة العيش، كما تدهورت الحياة العامة، وتكاثفت المعاناة إزاء الوضع الحالي بالغ الحدة والخطر. وقد مرت خمس سنين منذ انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين في اليمن المتشظي على أيدي أطراف النزاع.
وبالرغم من تحصيل إيرادات تكفي لمنح المواطنين حقوقهم المنصوص عليها في الدستور والقانون، إلا أن مبادرات حكومة صنعاء تكاد تكون شبه منعدمة، لإعادة ما دمرته سنوات الحرب، إما بالقصف أو بالإهمال.
يريم المنسية
يطلق عليها “أرض يَحْصُب” في تاريخ اليمن القديم، حيث كانت مركزًا حضريًّا بالقرب من مدينة ظفار عاصمة مملكة حِمْيَر، التي كانت آخر الممالك اليمنية القديمة المستقرة. تزخر “يحْصُب” (يَريم)، بالكثير من السدود والقصور، وتحتوي على مساحات زراعية شاسعة، وفيها مواقع أثرية مكتظة بالمنحوتات الصخرية والنقوش المسندية، والتي ما زالت معالمها بارزة حتى اللحظة، ومهددة بالاندثار والطمس، وبالموجات المتتالية من عمليات النهب للآثار الموجودة فيها، وتهريبها.
يريم مدينة مهضومة الحقوق، ولم تحظَ بما يليق بها من الاهتمام من قبل السلطات المتتالية. وعلى مرّ الأزمنة، تعد الطريق المارة في المدينة، شريانًا رئيسيًّا يربط المناطق الوسطى بغيرها في شمال وجنوب اليمن، كما تدر المدينة والريف المحيط بها إيرادات أكثر من مثيلاتها من المديريات الأخرى التابعة إدرايًّا لمحافظة إب، وسط اليمن. لم تحظَ يريم ولو بقسط بسيط من إيراداتها في صيانة الطريق المدمرة، رغم كونها محطة عبور للمسافرين بين صنعاء وعدة محافظات أخرى في الوسط والجنوب والشرق. لم تحظَ كذلك بجزء من إيراداتها لترميم معالمها الأثرية الخالدة؛ فبمجرد تجاوز حدود مدينة ذمار تبدأ معاناة الركاب وسائقي السيارات وحافلات النقل، والتي قد تستغرق قرابة الساعة للمرور عبر الخط الدائري حول مدينة يريم، مرورًا بمفرق منطقة “كِتَاب”، وحتى بداية “نقيل سمارة”، أو بالأصح جبل سُمارة الشامخ فوق علوّ السحاب.
طريق تلاشى فيها الأسفلت وأصبحت أشبه ما تكون بالطرق الريفية القديمة، مضافًا إليها مئات الحفر، وبالتحديد الطريق الرئيسية التي تعد سبيل المسافرين من صنعاء والبيضاء وإب وتعز وذمار والضالع وعدن… وأصبحت هذه الحُفر الواسعة بؤرة لتجمع مياه الأمطار، وسببًا إضافيًّا لعرقلة سير المسافرين.
المواطن محمد ناجي، أحد أهالي مدينة إب ويعمل في صنعاء، تحدث عن متاعب الطريق التي يقطعها عند رغبته في زيارة أسرته. “أشعر بالتعب والملل على طول الطريق، وبالتحديد في يريم، بسبب خراب الطريق وكثرة نقاط التفتيش التي تعد عائقًا كبيرًا أمام المسافرين، وكذلك تكلفة السفر التي قد تصل إلى ثمانية آلاف ريال للراكب الواحد دون تكاليف المأكل والمشرب”.
عوائق طرق النقل وما في مضمونها من تدهور تؤدي بالمجمل إلى زيادة تكاليف النقل، يلي ذلك امتصاص وسائل النقل لكميات كبيرة من المشتقات النفطية، مع انخفاض الناتج المحلي من النفط، والذي ينكمش يومًا بعد آخر، في ظل شيوع بعض التقارير التي تتوقع نفاد المخزون النفطي في اليمن خلال السنوات المقبلة إذا لم توجد استكشافات نفطية جديدة.
وبالمقابل أدى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية منذ تصاعد حدة الحرب، سيما خلال العام 2020، إلى زيادة تكاليف التنقل بين المحافظات بسبب سعر الوقود وفارق المسافة الزمنية الذي تستغرقه الطريق المتهالكة، وكل ذلك يتحمله المواطن. كما تنعكس هذه الزيادات في الوقود على التوسع الاقتصادي بين المدن اليمنية، وتضاعف من أسعار نقل السلع.
نبذة من الماضي
محمد عبدالرحمن، أحد كبار السن الذين عاشوا وشاهدوا كل الأحداث منذ ستينيات القرن العشرين الماضي، يتحدث عن الوضع الذي كانت عليه هذه الطريق؛ يقول: “في السبعينيات، وعقب تعبيد خط صنعاء- تعز، كان السفر بين المدينتين لا يستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وكان سعر صفيحة البنزين (20 لترًا) 20 ريالًا فقط، بينما كان سعر الدولار مقابل العملة المحلية يعادل ثلاثة ريالات ونصف”.
ويضيف محمد أنه عقب اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، حدث اختلال في موازين المعيشة، وبدأ الريال اليمني ينهار شيئًا فشيئًا، حتى تحققت الوحدة وبدأت تفيق الحياة، تلا ذلك حرب الخليج ووقوف اليمن بجانب صدام، مؤيدة لبسط نفوذه على دولة الكويت، والتي كانت الدولة الحاضنة للعملة اليمنية آنذاك، مما دفعها لسحب التأمين الذي كانت توفره للعملة. رافق ذلك ترحيل الآلاف من العمالة اليمنية في المملكة العربية السعودية، فانهارت العملة المحلية بشكل كبير، وساءت الظروف الاقتصادية، وانعكست سلبًا على حياة المواطن.
وإذا كانت مسافة الطريق من صنعاء إلى تعز لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات في أواخر القرن العشرين الفائت، فهي اليوم تستغرق عبر الطريق نفسه، 10 ساعات وأكثر؛ لكونها أصبحت طريقًا هشة تملؤها المطبات والحفر، ونقاط التفتيش التي تكَثّف تواجدها بين وقت وآخر، والتي تزيد من معاناة المسافر وتحمّله فوق طاقته، كما قال محمد عبدالرحمن. “كانت الطريق آمنة وتعج بالحياة، وكان على طول طريق صنعاء- إب، نقطتا تفتيش لا أكثر.
اتفاقيات ملغية
كانت هناك اتفاقات مستدامة منذ عهد الرئيس إبراهيم الحمدي والتي استمرت حتى اندلاع الحرب الأخيرة، وكانت الاتفاقيات تنص على “تجنّب زراعة القات في المناطق الزراعية الخصبة، مثل “قاع الحقل” في يريم، وكذلك حظر التوسع في البناء العشوائي على المساحات الزراعية”.
ويعد “قاع الحقل” في مديرية يريم منبعًا أساسيًّا في دعم السوق المحلي بالخضروات، بمساحة زراعية شاسعة، وقد حدث تراجع في الناتج المحلي من الخضروات في مديرية يريم، حيث فرضت الحرب متغيراتها الكبيرة في بُنى الحياة العامة.
أحمد ناصر، من أهالي مديرية يريم، يتحدث عما جلبته الحرب من الأزمات للمواطنين في مدينته. يقول أحمد: “خلقت الحرب بيئة من التوتر بين الأسرة الواحدة، وصنعت شرارة من الصراعات على الأرض، وفي السنوات الأخيرة حدثت نزاعات بين أهالي المنطقة من مالكي الأرض، فأصبحت الكثير من مساحات الأرض القابلة للزراعة مهملة، ومعطلة عن الزراعة بسبب الخلافات”، بحسب خيوط.
وأردف أحمد ناصر بقوله إن الأوضاع غير المستقرة، والصراعات السياسية، أتاحت الفرصة أمام الكثير من المزارعين، لاستبدال زراعة الخضروات والقمح، بشجرة القات ولو بشكل طفيف، رغم الاتفاقية بين الدولة والمزارعين على حظره منذ السبعينيات. وهو لا ينسى كذلك التطرّق إلى الزحف العمراني الذي بدأ بالتوسع في المناطق الزراعية، مقابل دفع مبالغ طائلة لمن سمّاهم “سماسرة الدولة” من أجل موافقتهم على زرع القات.
وأكمل أحمد حديثه بالتحذير من أنه “إذا استمرت الحرب وظلت اليمن بهذه الحالة المأساوية، سوف تتلاشى المساحات الزراعية، وسوف تستبدل بشجرة القات، وقد تتعطل وتصبح أرضًا بلا فائدة”.
وعود مؤجلة
تتوالى وعود المجلس المحلي في مديرية يريم، في تنفيذ المشروع الخدمي لصيانة الطرق، لكن هذه الوعود سرعان ما تتلاشى عند أول منعطف للتنفيذ. وفي مطلع أبريل/ نيسان ٢٠٢١، تم تشكيل مبادرة محلية مجتمعية، لتنفيذ المشروع بدعم مجتمعي، وقد تم فرض جبايات على جميع تجار المدينة، بالإضافة إلى رسوم تحسينات مضاعفة على مالكي السيارات والمسافرين. وحسب تقدير أعضاء الجمعية لموازنة صيانة طريق يريم، فهي تحتاج لمبلغ يصل إلى خمسة مليار ريال. وفي حين لم يؤكد أحد مصداقية هذا الرقم، إلا أن المبادرة باءت بالفشل بعد أسبوع واحد من بدء العمل في صيانة الطريق، حيث لم تتجاوز المسافة التي أُنجز فيها العمل الأولي سوى أمتار قليلة في “باب الضورين”، وقد كان هطول المطر في هذا الموسم سببًا في عرقلة العمل خلال شهر “شعبان”؛ لكون طريق يريم أصبحت أشبه بأحواض متفاوتة الحجم لتجمّع مياه المطر. وفي رمضان المنصرم، قال الوكيل الأول لمحافظة إب ورئيس المبادرة المجتمعية لصيانة طريق يريم، عبدالحميد الشاهري، إن العمل في صيانة الطريق سيتم استئنافه عقب عيد الفطر، وقد مرّ شهر “شوّال”، وحلّ بعده “ذو القعدة” دون أي بادرة في العودة للعمل.
تخوفات الأهالي والمسافرين
يتحدث الكثير من أهالي مدينة يريم عن تخوفهم من هطول الأمطار خلال ما تبقى من صيف هذه السنة (2021)، وما زالت الطريق مهملة. وقد تعرّض ما تبقى من أسفلت الطريق للانجراف، ولا توجد مصارف للمياه، ولم يلتفت لها القائمون بمهام محافظة إب ومديرية يريم، ووزارة الأشغال العامة والطرق، التي أصبحت غائبة عن عملها إلا من الوعود. يتحدث الأهالي أيضًا باستياء عن دور المجالس المحلية في المديرية، إذ يقول خالد علي لـ”خيوط”، إن المجالس المحلية في مديرية يريم، تتحصّل موارد المديرية، لكنها لا تنفذ أي مشروع في خدمة أهالي المنطقة. ويضيف أنه رغم أن اليمن بشكل عام يحكمها جهاز إداري مماثل، “إلا أن محافظة ذمار القريبة من مديريتنا تحظى بالقليل من الوجود، وكما هو ملحوظ أن طريق ذمار تمت صيانتها من نقطة البداية حتى النهاية من إيرادات المحافظة، بينما ممثلي مجالسنا المحلية لم يكلفوا أنفسهم عناء تكملة ما قامت به محافظة ذمار”.
وأكمل خالد حديثه بالتأكيد على أنه مرت ثلاث سنوات من وعود السلطة المحلية لمديرية يريم بصيانة الطريق، إلا أنها “حتى اللحظة مهملة”، بينما إيراداتها مستمرة في تحصيلها.
ويطالب أهالي مديرية يريم، السلطة المحلية، بحل مشكلة تصريف المياه، قبل أن يتم رصف الطريق، وفق حديث المهندس المدني ماهر صالح، الذي يقول إنه “يجب عمل دراسات هيدرولوجية قبل كل شيء، لمعرفة كمية الأمطار وتصريفها، وبعد ذلك يتم القيام بالصيانة، وإلا سوف يتلاشى الرصف الجديد الموعود القيام به، والذي لا نعلم متى سيتحقق”.
“أرض يحصب”/ يريم، تعد كذلك منطقة سياحية، ويتوافد إليها العديد من الزوار من مناطق أخرى داخل اليمن، حيث تحتوي على العديد من ينابيع المياه، والسدود، وتكتسي أرضها المنبسطة بخضرة تخطف الأنظار، وهناك السواقي المنحوتة في تلالها ومرتفعاتها. وفي يريم أيضًا، معالم أثرية بارزة كقصر ذي ريدان، ومنها انطلق مهندس ثورة 26 سبتمبر، علي عبدالمغني، المنحوت في صدر الأرض والخالد في ذاكرة الأجيال، وفيها “وادي بَنا” الغني بالشلالات والغطاء الأخضر الخلاب، ولا يعيق الزائرين إلا وعورة وتدهور الطريق وضيق الأفق، وهي بحاجة لالتفاتة جادة من قبل أصحاب القرار؛ لإعادة ما دمرته الحرب، وصيانة ما تلف، وترميم المعالم الأثرية التاريخية، التي تعد جزءًا من الهُوية اليمنية، لتعود بوجهها المشرق.