ما معنى “الاحترازات” في بلد كاليمن؟
ريم مجاهد – صنعاء
بدأ الحديث عن موجة ثانية من الوباء تضرب اليمن في شباط/ فبراير 2021. مرةً أخرى، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي ببلاغات الوفاة وعبارات التعازي. وكان الحديث عن موجة أشد عنفاً من السابقة، وعن استعدادات أقل، وإجراءات لا تكاد تُذكر.
فما الذي تغير منذ العام الفائت؟ وكيف يمكن الحديث عن إجراءات احترازية في ظل الأوضاع السيئة والاستثنائية التي يعيشها اليمنيون؟
وما هي المعوقات التي تمنع فرض أي إجراءات احترازية، وتبدد فرص مواجهة الوباء، مثل الوضع الاقتصادي المتدني، ظروف السكن، وكبر حجم العائلات، وتواجد ملايين النازحين، وندرة المياه بشكل عام والمياه الصالحة للشرب بشكل خاص، وصعوبة التنقل وارتفاع تكلفتها، والثقافة الشعبية التي تواجه الوباء بالإنكار.
هل يستطيع اليمنيون تحمل كلفة الوقاية من الوباء؟
حددت منظمة الصحة العالمية مجموعةً من القواعد التي وصفتها بالإجراءات الاحترازية والوقائية، التي سيسهم اتباعها في الحد من انتشار الوباء، من هذه القواعد على سبيل المثال:
– ارتداء الكمامة بشكل دائم، تنظيفها والتخلص منها.
– تجنب الأماكن المزدحمة، والبقاء قدر الإمكان في المنازل.
– غسل اليدين باستمرار، قبل وبعد ارتداء الكمامة، وفي كل حين.
– تعقيم السطوح والأماكن التي يعاد لمسها بتكرار.
تبدو هذه التعليمات بسيطةً، لكنها بالنسبة للمواطن اليمني أصعب وأكثر إثارةً لسخريته من نصيحة أخرى تقدمها المنظمة الدولية: “إذا كنت مصاباً بالحمى والسعال وصعوبة التنفس، التمس الرعاية الطبية على الفور. اتصل بالهاتف أولاً إذا استطعت، واتّبع توجيهات السلطة الصحية المحلية” (1).
تستدعي إجراءات الوقاية من الوباء، على مستوًى فردي أو جماعي، حداً من الاستقرار الاقتصادي والحياتي في المقام الأول. يرزح ما يقارب 80 في المئة من اليمنيين – من مجمل 30 مليون شخص – تحت خط الفقر، ولم يتسلم قرابة 600 ألف موظف – الواقعين في مناطق سيطرة الحوثيين – رواتبهم للسنة الخامسة على التوالي (وستبدأ السنة السادسة في أيلول/ سبتمبر القادم، ولا يبدو أن هناك تغيير في الأفق)، وهؤلاء يعيلون أسراً، ما يجعل العدد يقارب الخمسة ملايين إنسان، بينما تتضاعف أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية باستمرار، وتفتك بالمواطنين أسواق “سوداء” – خاصةً في مناطق سيطرة الحوثيين – وهي تتحكم بتجارة المشتقات النفطية وغاز الطبخ. ومع انتشار الوباء أضيفت الأدوية والمستلزمات الطبية لقائمة المفقودات. ولذا، فالحديث عن الاستقرار بكل أشكاله غير وارد من الأساس.
في الموجة الأولى من الوباء خلال العام 2020، اندفعت السلطات في الشمال والجنوب لفرض إجراءات احترازية فوضوية، مسّت بشكل مباشر الأفراد الذين لا يمتلكون رفاهية الاستقرار المادي: عمال الأجر اليومي، صغار الحرفيين، المدارسَ وما تتضمنه من العمالة: أساتذةً، عمال نظافة، حرّاساً، بائعات الطعام، أيضاً المقاهي، الأسواق (أسواق السمك مثلاً في بداية فرض الإجراءات)، كلَّ ما يتعلق بالحفلات والأعراس: الصالات والعمال فيها، معدي الطعام.. إلخ من القائمة الطويلة والتعسة. قد تكون هذه الإجراءات ضرورية، لكن التكلفة الإنسانية كانت باهظةً، حيث تحدّث الناس عن الموت جوعاً عوضاً عن الموت بالوباء. أما بالنسبة لأولئك الذين يعملون في وظائف مستقرة، وأرادوا الاحتياط، فهم أيضاً لم يستطيعوا الاحتراز، إذ لم يكن خيار العمل من المنزل متاحاً للأغلبية كما حدث في أماكن أخرى من العالم. خاف الناس من طلب الإجازات، أو من طلب العمل من المنزل كيلا يُستبدلوا، أو يخسروا أعمالهم.
في الموجة الأولى من الوباء، خسر الكثيرون مصدر الرزق الضئيل والوحيد. لكن حتى أولئك الذين استمروا في أعمالهم، فأغلبيةٌ منهم لم تكن قادرةً على التعامل مع النصائح التي تقدمها المنظمة الدولية كإجراءات احترازية: شراء أدوات مثل الكمامة كان مكلفاً اقتصادياً، وغير مدرج في قائمة الأولويات، وهذا ينطبق على المعقمات والفيتامينات الخ. اتسعت السوق السوداء المتاجرة بهذه السلع، واختفت سلع مثل فيتامين سي من السوق. في الموجة الثانية من الوباء، 2021، عزف الناس تماماً عن الاهتمام بأمر الاحتياطات، ولم تفرض السلطات أيَّ إجراءات احترازية، بينما تضاعفت أعداد الموتى . (2)
الوضع البائس لم يحل فحسب دون تطبيق الأغلبية من الناس للاحترازات، بل هو أيضاً منع سيئي الحظ من الحصول على الرعاية الصحية. فالمجال الطبي في اليمن متداعٍ بشكل عام، وتكلفته عالية، سواء للحصول على الرعاية الصحية ذاتها، أو للوصول إليها من أولئك الذين يقطنون أماكنَ بعيدة عن المشافي. فتكلفة النقل قد تضاعفت بسبب أزمة المشتقات النفطية، حيث تشير البيانات إلى أن سعر مادة الديزل ارتفع من 150 ريالاً/للتر في نهاية 2014، ليصل نهاية تشرين الثاني / نوفمبر 2019 إلى 438 ريالاً/للتر بنسبة زيادة تقدر بنحو 192 في المئة. وارتفعت أسعار البترول من 158 ريالاً/للتر نهاية 2014، لتصل إلى 379 ريالاً/للتر نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر2019 بنسبة زيادة 140 في المئة . (3)
توضح هذه الأرقام الزيادات التي حدثت بين عامي 2014 و2019. لكن هذه الأرقام قد تضاعفت مرةً أخرى في آخر عامين. فعلى سبيل المثال وفي شهر آذار/ مارس المنصرم، أعلنت الحكومة الرسمية (حكومة عبد ربه منصور هادي) عن ثلاث زيادات في أسعار الوقود خلال أقل من شهر، فرُفع سعر صفيحة البنزين (سعة 20 لتراً) من 5600 ريال إلى 10 آلاف ريال. كما تم رفع سعر صفيحة الديزل (سعة 20 لتراً) من 6500 ريال إلى 10400 ريال . (4)
تتبع هذه الزيادات بشكل طبيعي زيادة في أسعار المواد الغذائية والخدمات، والماء منها بشكل أساسي، وكلفة التنقل. وبالتالي، لا يختار المريض ألا يحصل على الرعاية الصحية وألا يهتم بالإجراءات الاحترازية، بل يُدفع إلى ذلك دفعاً كونه لا يستطيع. فهو يخصص ما يملك من مال – لو ملك مالاً – للضرورات التي تبقيه على قيد الحياة.
الاكتظاظ كعنوان لحياة اليمنيين
مثل أغلب المجتمعات الشرقية، العائلاتُ اليمنية كبيرة وممتدة، بينما المنازل التي تقطنها صغيرةٌ وغير مجهزة لاستقبال تلك الأعداد، بالإضافة إلى عامل خطير ومهم: الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي، والذي يصبح مدمراً في المناطق الحارة. وبالتالي، تصبح خيارات مثل البقاء في المنزل، العمل من المنزل، الحجر الذاتي غير منطقية، ولا ممكنة للأغلبية الساحقة من العائلات الكبيرة والمزدحمة.
الشيء ذاته ينطبق على الأسواق، وسائل المواصلات، الشوارع، المطاعم الخ، فالسمة المشتركة بين هذه الأماكن هي الاكتظاظ.
في الموجة الأولى من الوباء، حين حاولت السلطات فرض إجراءات احترازية، استهدفت مثلاً المدارس وقاعات الأفراح ومحلات الكوافير والتجميل، وغيرها من الأماكن التي عادةً ما تكون مزدحمة، وبالطبع لا يلتزم الناس فيها بالتباعد الاجتماعي، إلا أن تلك الإجراءات لم تطبق على واحد من أخطر الأماكن التي يمكن أن تكون بؤرة انتشار حقيقية للفيروس: أسواق القات، التي تشتهر بازدحام يتفوق على احتفالية حاشدة، تتلامس الأجساد، ويلمس الجميع ما سيلمسه غيرهم.
قال الناس في هذا الصدد إنه لا يمكن لأسواق القات أن تغلق، أو أن يتوقف الناس عن ارتيادها، واتفقت معهم السلطات وإن ضمنياً.
والمثال الثالث هو وسائل المواصلات: تشتهر حافلات العاصمة مثلاً بازدحام مروّع. وفي ساعات الظهيرة، حين يعود العمال والطلبة لمنازلهم، تتكدس الأجساد فوق بعضها داخل الحافلات التي بالطبع لا يُعنى بنظافتها ولا بتعقيمها، وبالتالي تصبح الحافلات بؤرةً أخرى مناسبة و”متنقلة” لتفشي الفيروس.
في الموجة الثانية من الوباء، أعلنت اللجنة الوطنية العليا للطوارئ حالة الطوارئ في 22 آذار/مارس 2021، وأمرت المراكز الصحية برفع استعداداتها وإغلاق قاعات الأفراح وتقليص ساعات العمل بالمراكز التجارية والأسواق وإغلاق المساجد خارج أوقات الصلاة. لكن الالتزام بتلك التدابير كان شبه منعدم، هذا في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة الرسمية، أما المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين فلم يتغير شيء: أسواق وأفراح، شوارع وحافلات تعج بالبشر! (5)
المياه: هل يَشرب أم يغسل يديه؟
يعتبر اليمن واحداً من أكثر بلدان العالم التي تعاني من ندرة المياه، وقد شكلت هذه المشكلة أكبر التحديات حتى في يمن ما قبل الحرب، حيث لم يتم التعامل معها بجدية أثناء فترات الاستقرار السياسي، وزادتها الحرب كارثية. فوفقاً للإحصائيات، يفتقر نحو 20 مليون يمني إلى المياه الصالحة للشرب ومرافق الصرف الصحي، ومن بين هؤلاء هناك 11.2 مليون في حاجة ماسة للمساعدة، ومن دونها يمكن أن تكون حياتهم في خطر . (6)
تتشارك جميع المناطق اليمنية في أزمة المياه، مع اختلاف شدتها بين منطقة وأخرى. فمدينة مكتظة بالسكان مثل تعز تعاني من أزمة مياه منذ ستينيات القرن الماضي، وتصل إليها المياه من الشبكات العامة مرةً واحدة كل ثلاثين إلى ستين يوما، ويشتري أغلب الناس في المدن الماء من الصهاريج الخاصة. وتنقل وسائل الإعلام صور طوابير الفتية الذين يتراصون قرب الآنية البلاستيكية الصفراء التي كانت تخزن الزيوت (وليست دائماً صالحة لتخزين مياه الشرب أو الطبخ)، ينتظرون ملأها بالماء من الخزانات المتنقلة.
مشكلة اليمنيين مع المياه ليس فقط في ندرتها بل أيضاً في تلوثها، حيث تقنيات تنقية المياه وحفظه تكاد تكون منعدمة، ويستخدم الناس في الأرياف طرقاً بدائيةً لحفظ مياه الأمطار الملوثة بالضرورة، وبالتالي تتهددهم الأخطار من الناحيتين: ليس لديهم الماء، وإن وُجد فهو مكلفٌ أو ملوث.
وهكذا، وباعتبار أن النظافة وغسل اليدين هما خط الدفاع الأول في مواجهة فيروس كوفيد19 أو غيره من الفيروسات المعدية، ينهار خط الدفاع هذا بالنسبة لليمنيين في ظل عدم القدرة على توفير المياه، وتحمّل نفقات شراء الصابون أو المعقمات. فالأولوية دائماً، في حالة توفره هي للشرب والطبخ. كما أن عدم الحصول على المياه الصالحة للشرب يعتبر، وفقاً لليونسيف، أحد أسباب سوء التغذية المؤدي لوفيات متزايدة بين الأطفال والكبار على السواء . (7)
أربعة ملايين نازح: من أين يأتي كل هذا الموت؟
يُتداول أن هناك ما يقارب أربعة ملايين نازح داخلياً بسبب الحرب. لكن هذا الرقم قد لا يكون صحيحاً، إذ ليس الجميع مسجلين ومعرّفين كنازحين. ففي مجتمع مثل اليمن، لا ينزح الناس بالضرورة إلى المخيمات الواقعة في أطراف المدن، ثم يعيشون في الخيام، إذ ينزح بعضهم إلى مساكن ذويهم، أو يعودون إلى قراهم في حالة كانت لديهم قرًى أصلية. وفي اليمن هناك الملايين ممن يشبهون النازحين، كـ”المهمشين” مثلاً وأعدادهم بالملايين.
ولا يبدو أن مأساة النازحين في طريقها إلى الزوال. ففي العام 2020 كانت هناك جبهات صراع مشتعلة جديدة تقدر بـ 14 جبهةً (8). وفي شباط/ فبراير 2021 بدأ الحوثيون الهجوم على مدينة مأرب التي لوحدها تحوي قرابة مليوني نازح من مختلف مناطق الصراع. هذا الرقم الهائل في محافظة عدد سكانها الأصليين هو ربع عدد النازحين، يعطي صورة عمّا يمكن أن يكون عليه وضع هؤلاء النازحين، بحسب السفير العربي.
فبالإضافة إلى استحالة توفر الخدمات الأساسية في ظل وضع حرب ونزوح مفاجئ، هناك التكدس والاكتظاظ، والواقع الاقتصادي المتدني، وانعدام الظروف الصحية الأساسية، كذلك سوء النظافة والصرف الصحي… كل هذه الأسباب وغيرها تجعل هؤلاء النازحين أكثر عرضةً للإصابة بالوباء، وأقل قدرةً على الاحتراز منه، وأبعد احتماليةً من حصولهم على رعاية صحية. وفي هذا الصدد يجب أن نضيف خاصية الوضع الأمني، فالنازحون في مدينة مأرب بالذات ما زالوا مهددين برحيل آخر ونزوح جديد، إذ إن الجبهة ما تزال مفتوحةً، والصراع لم يحسم بعد. وما ينطبق على النازحين بسبب الصراع ينطبق أيضاً على فئة “المهمشين”، فهم إما نازحون، أو يعيشون حياةً مزرية في أطراف المدن، وتفتقر أماكن سكناهم لأبسط المقومات الأساسية، وترتفع نسب الفقر في أوساطهم بمعدلات تفوق بقية فئات المجتمع منذ قبل الحرب، كما أنهم الأقل تحصّلاً على الرعاية الصحية.
خوف وإنكار
في الموجة الأولى من الوباء، وصفت رئيسة بعثة أطباء بلا حدود، رد فعل اليمنيين تجاه بالوباء بـ”المزيج الغريب من إنكار تفشي الفيروس والخوف منه”، حيث عمّت حالة من الإنكار في الشارع اليمني، ملخصة بأن ليس للوباء وجود، وبأنه مجرد إنفلونزا أخرى. لكن سريعاً ما تفاقم الوضع. ففي الجنوب وبالذات في عدن ، ضربت موجة من السيول الجارفة المدينة، تلاها انتشار مرعب لأمراض “الحميات”، مثل حمى الضنك والشيكونغونيا. تشابهت أعراض هذه الأمراض مع أعراض الوباء الجديد، وبسبب وضع القطاع الصحي الذي لا يتيح فحوصات حقيقية ودقيقة، وعدم لجوء الناس للمستشفيات غير في المراحل الأخيرة من مرضهم، لم يكن مفهوماً ما الذي يقتل الناس: الوباء الجديد أم الأوبئة مجتمعة.
في الشمال، وتحديداً في صنعاء، انتشرت شائعة “إبرة الرحمة”، وعمّ رعب الذهاب إلى المشافي، وغلب على رعب الفيروس ذاته. تداول الناس الحكايات عن كيف يذهب المريض بمعاناته الاعتيادية: سكر، ضغط، مفاصل الخ، ويعود جثةً، أو قد لا يعود. قيل أن المستشفيات تعمد إلى حقن الناس بـ”إبرة الرحمة” التي تقتلهم في الحال سواء اشتبه في حملهم للفيروس أم لم يشتبه.
في الموجة الثانية، لم تنتشر شائعات إبرة الرحمة، وكانت السيول أخف وطأةً على المدن من العام الذي سبقه، لكن هذا لم يوقف سيل الوفيات، ولا الطريقة التي يتعامل فيها الشارع مع الكارثة. تحدثتُ مع أناس من مختلف المدن اليمنية، وسألتهم عن كيف يجري التعامل مع الوباء في الموجة الثانية؟ وكان هناك اتفاق على أن اللامبالاة هي في الحقيقة أشد من العام الفائت. ففي الموجة الأولى، كان هناك تخوّفٌ وقلق على المستويين الشعبي والرسمي، لكن في الموجة الثانية يكاد ذلك يكون معدوماً، ما زال الكثير من الناس يرفضون الاعتراف بالمرض إن شُخّصوا أو شُخّص أحد ذويهم بالمرض، إذ شاع ما يشبه الاعتقاد أنها وصمة عار. كما أن الناس لا يرتدون الكمامات، والأسوأ من هذا أنه يجري أحياناً استهجان من يرتديها، ويصفونهم بمروجي الأكاذيب والتخويف. يقول شاب من عدن “أشعر كأني ارتكبت خطيئةً في كل مرة أرتدي فيها كمامة بسبب صرخات ونظرات الاستهجان!”.
لقد أنكرت أغلبية الشارع وجود الوباء، وتغاضوا عن حقيقة أنه يقتل الملايين حول العالم. ويصبح هذا الإنكار والرفض مبرَّراً في حالة قراءة المعطيات التي يفكر من منطلقها الشارع: فما الذي يمكنه حياله من الأساس؟ الموت جوعاً عن طريق الاختباء في منزل صغير مع عائلات كبيرة؟ الذهاب إلى التداوي في مستشفيات غير مجهزة، أو تحقنك بإبرة الرحمة أو تضطر للسفر إليها لمسافات طويلة؟ شراء تجهيزات وقائية لا تستطيع تحمل كلفتها؟ لكن الإنكار لم يكن ميزة الشارع فحسب، فما زال الحوثيون يتكتمون في مناطق حكمهم على أية معلومات تتعلق بالوباء، ويمارسون الترهيب ضد من يدلي بمعلومات. كما ساهمت المساجد بصفتها المنبر الأسرع وصولاً للناس في حالة الإنكار تلك وفي تفاقم الوضع، ويبدو أن العلاقة بالنسبة لليمنيين بين عدد التعازي وكمية الرهبة من الفيروس أصبحت طرديةً.
خاتمة
هناك أكثر من مصدر للموت في اليمن. لكن حقيقة أن هذا الوباء قد زلزل كيانات اقتصادية عظمى، ودولاً تعرف بأنظمتها الصحية والاجتماعية القوية والمتماسكة والمراعية للناس، تجعل تخيّل ما الذي يمكن أن يحدث في بلد كاليمن خيالاً مخيفاً، ويفاقم كآبة هذا التخيل حقيقة أن اليمن هي في آخر قائمة من سيتحصلون على لقاحات كافية للفيروس (9)، فقد تحصلت اليمن على أول دفعة من اللقاحات في مطلع نيسان/ أبريل هذا العام، وكان عددها 360 ألف جرعة.
إن الإٍسراع بتوفير اللقاح لليمنيين أصبح حاجةً ملحة، فلا يمكن التغاضي عن حجم الكارثة التي تنتظر البشر في البلد الممزق. لكن توفير اللقاح لوحده ليس كافياً، إذ يجب رفد القطاع الصحي بالمعدات اللازمة للتعامل مع الوباء. إن القطاع الصحي منهارٌ، ولا يمكن الطموح لمستويات إصلاح هذا القطاع في ظل الوضع الحالي حتى لا نبتعد عن الواقعية، لكن على الأقل يمكن تجنب ما حدث خلال الموجة الأولى من الوباء، حين رفضت المشافي استقبال المرضى بحجة أن الطاقم الطبي ليس لديه أيُّ معدات وقائية، وتحدث أطباء عن عدم توفر الكمامات والقفازات.
واليمن ليس بمعزل عن العالم، إذ لن يكون مرحباً باللقاح وفقاً للمعطيات الحالية، وكيفية تعاطي الناس مع حقيقة الوباء. ويجب بالتوازي مع توفير اللقاح الحديثُ بشكل أكثر انفتاحاً وعقلانية عن ضرورة تلقيه، ومن هنا يجب استغلال قدرة المساجد على الوصول السهل للناس لمزيد من التوعية بمخاطر الوباء، وبضرورة اتخاذ المقدور عليه من الإجراءات الاحترازية.
[1] نصائح للجمهور بشأن مرض فيروس كورونا (كوفيد-19). [2] مقابلات هاتفية أجرتها الباحثة مع مواطنين في صنعاء وعدن، أيار/ مايو 2021.[3] أزمة المشتقات النفطية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد من شدة معاناة المواطن اليمني، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية، كانون الثاني/يناير 2020.
[4] ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في اليمن.. ما انعكاساتها على المواطنين؟، فضل مبارك، الجزيرة،24/3/2021. [5] مقابلات عبر الهاتف مع مواطنين من صنعاء، تعز وعدن، أيار/ مايو 2021 [6]Advocacy brief: A Water Crisis in the time of COVID-19,Impact of funding shortages on Public Health in Yemen, WASH cluster, June 2020,
[7] تتعمّق أزمة المياه في اليمن وسط نقص حاد في الوقود، اليونسيف، 19 كانون الأول/ ديسمبر 2017،
[8] UNHCR YEMEN | 2021 COUNTRY OPERATIONAL PLAN , UNHCR, Jan 2021
[9] Yemen gets first COVID-19 vaccines but is “at the back of the queue”, Reuters, March 31, 2021,