تحت المجهر: العودة إلى عدن بقلم| غيداء الرشيدي
بقلم| غيداء الرشيدي
في فبراير 2016، غادرت عدن التي عشت فيها لـ 29 عاما، للإقامة في بلد آخر. طلبت مني والدتي أن أغادر نظراً للوضع الأمني. زرت عدن ثلاث مرات في الأعوام الخمسة الماضية، حيث كانت رحلتي الأخيرة في وقت سابق من هذا العام.
يقول الشاعر عبدالله البردوني إن الإنسان يترك جزءا من روحه في بلده و يأخذ معه أجزاء من بلده عندما يغترب. كنت أفكر بهذا في كل مرة أزور فيها عدن حيث كنت آمل بأن استعيد ذكرياتي عنها، تلك المدينة التي لم اعشق يوما سواها لهذا الحد. ولكني في كل زيارة، وجدت نفسي أفقد أكثر وأكثر من روحي. الآن، أشعر وكأنني غريبة في عدن. الطرقات والمباني مختلفة. لا أتعرف على وجوه الناس في المنصورة، الحي الذي ترعرعت فيه. وفي كل مرة أغادر فيها عدن، أحمل أجزاء جديدة من هذه المدينة معظمها ليس بالجيد ولا بالجميل؛ شظايا مجزأة وبقايا مبعثرة لكيف كانت تبدو عليه مدننا وما أصبحته اليوم.
في السابق كنت أسخر من أولئك المغتربين الذين يعودون إلى عدن للبحث عن ذكريات قديمة لهم في هذه المدينة. لم أفهم كيف تربطهم التفاصيل الصغيرة وطقوسهم اليومية بماضيهم. لعل هذا يعود لكوني كنت أعيش بالمدينة وكنت أتغير مع تغيرها – أتأقلم تدريجياً مع الواقع الجديد – أو ربما كنت صغيرة وحسب. ولكني كنت دوماً اتساءل: لماذا كل جيل يعتقد أن زمنه أفضل من أزمنة الأجيال التي تلته؟
لن أكتب عن الماضي، بل سأكتب بكل سوداوية عن مشاهد أراها اليوم في هذه المدينة. فرضت الأزمات والحروب نفسها على عدن من قبل، معيدة رسم هويتها كل مرة. ولكن ما يبدو مختلفا هذه المرة هو قبول المجتمع بما أصبحوا عليه، وبت أخشى مما سنورثه للجيل القادم من مستقبل وذكريات حميمة.
من التعايش المدني إلى مجتمع معسكر
أهداني أخي في عيد ميلادي في يناير/كانون الثاني مسدس V. Bernardelli 7.65 (إيطالي الصنع)، قائلا أن الجميع الآن يحمل سلاحا في عدن ويجب أن يدافع كل فرد عن نفسه بنفسه.
فكرة التعبير عن الحب بإهداء قطعة سلاح ليست بأمر غريب في المجتمع اليمني، ولكنه لم يكن شائعاً في عدن. وفي الواقع، تفاجأت عندما علمت كم منزل في عدن يوجد فيه سلاح، وكم شخص يحملون السلاح، ومن بينهم أشخاص لم أتخيل قط أنه قد يأتي يوم يقتنون فيه سلاحاً.
أصبحت مظاهر التسلح والنقاط العسكرية أمراً عادياً في أرجاء عدن، وكأن المدينة التي كانت تتسم في يوم من الأيام بالمدنية والتعايش والتناغم أصبحت معسكراً للجيش. تحررت عدن من الحوثيين قبل ست سنوات، لكن المسلحين بقوا.
وبالتالي، لا يكاد يمر يوم دون اشتباكات بين القوى العسكرية بمختلف مسمياتها ولمختلف الأسباب، سياسية، شخصية أو جنائية، ولكن جميع الاشتباكات عنيفة حيث يتم اللجوء إلى قوة السلاح للفوز بأي نزاع. لا يقتصر اللجوء إلى العنف على ممارسات المجموعات المسلحة المختلفة في عدن، إذ ترى أيضاً فئة من الشباب اليافعين والمراهقين يشترون الأزياء العسكرية من سوق الحراج، حتى وإن لم يكونوا جنودا، فهم يعتقدون أن الناس سوف تحترمك وتخشاك عندما يرونك بالزي العسكري.
أكثر من نصف الشباب الذين أعرفهم أصبحوا جنوداً مع قوة مسلحة ما، إما داخل أو خارج عدن. الكثير منهم يأتون من خلفيات علمية ولكنهم اختاروا الخيار العسكري لكسب معيشتهم. في الواقع ليس هناك من خيارات أخرى إذ يبدو أن الأطباء والمهندسين وطلاب الجامعات والمدرسين يفضلون الانضمام إلى جماعات مسلحة لتأمين دخل مادي ثابت وآمن لعائلاتهم.
استفاد آخرون من انعدام الأمن لتنفيذ أجنداتهم الخاصة. تفيد الكثير من التقارير الإخبارية عن عمليات اختطاف واغتيال ومداهمات يرتكبها أفراد يرتدون الزي العسكري، ليٌكتشف لاحقا – إذا ما تم القبض عليهم – أنهم لا ينتمون لأي قوى أمنية رسمية. الوضع الأمني الهش الذي تعيشه المدينة منذ عام 2015 جعلها بيئة خصبة لارتكاب الجرائم.
اليوم يلعب الأطفال لعبة الحرب في شوارع عدن حيث يقسمون أنفسهم إلى فريقين، فريق الحوثيين وفريق الحزام الأمني، ويلعبون متخيلين أنفسهم رجالا يطلقون النار على بعضهم البعض من أسلحة وهمية. ولعل الأمر طبيعيا نظراً لما مروا به وما سمعوه ويسمعونه، ولكن الأمر غير الطبيعي هو معرفتهم بأسماء القوات الأمنية وقياداتها والأدوار التي يتقمصونها. يُسمي الأطفال العدنيون القطع الخشبية والألعاب البلاستيكية التي يستخدمونها بأسماء الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي لا أعلم أسماءها حتى يومنا هذا.
ولأن المجتمع اليمني مجتمع مسلح بشكل عام، تُستخدم الأعيرة النارية في مواكب الأعراس بمختلف المناطق اليمنية، ولكن في عدن لم تكن هذه الظاهرة مقبولة من المجتمع، وأتذكر منذ بضعة أعوام أنه إذا ما تم إطلاق أعيرة نارية في أحد مواكب الأعراس، كانت القوات الامنية تأتي وتأخذ العريس إلى السجن ليقضي أولى ليالي زواجه فيه.
أما اليوم، فمواكب الأعراس عبارة عن ساحات قتالية متحركة حيث تستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة من المسدسات والكلاشنكوف إلى مضادات الطيران والقنابل الصوتية، الأمر الذي يخلف بالطبع العديد من الضحايا والإصابات بسبب الذخيرة المرتدة إلى أوساط الأحياء السكنية والمنازل.
لا صوت يعلو فوق صوت السلاح
خلال زيارتي الأخيرة لعدن، عادت أمي، وهي أستاذة جامعية، من عملها في يوم من الأيام مستاءة ومصدومة. أخبرتني بأن أحد الطلاب، وهو ملتحق بإحدى القوات العسكرية، قد دخل إلى الحرم الجامعي بمركبة عسكرية ومعه جنود، وهدد أحد أساتذته بسبب رسوبه في المادة التي يٌدرسها له هذا الأستاذ، وأجبره على تغيير درجته بعد إهانته أمام جميع الطلاب.
هذا ما أمسته عدن. يلجأ الناس لسلطة السلاح في المرافق الحكومية والمدارس الثانوية وحتى المستشفيات، فغياب الدولة جعل الكثير يؤمنون أنهم فوق القانون وأن أسلحتهم تسمح لهم بتلبية رغباتهم مهما كانت.
بعد عدة أيام من وصولي الى عدن، أخذتني صديقاتي للتنزه في المدينة والجلوس في أحد المنتجعات البحرية في مديرية التواهي. تفاجأت بوجود نقطة تفتيش أمنية على مدخل المنتجع حيث رأيت العديد من الأفراد والعائلات من محافظات أخرى يخبرون إدارة المنتجع أنهم من جهة قائد عسكري ما ومعروف وسُمح لهم بالدخول بدون دفع أي مقابل. هذه التسهيلات غير المبررة أصبحت شائعة في مختلف أنحاء المدينة، فإذا كانت لديك أي واسطة عسكرية سوف تفتح لك جميع الأبواب.
الأمر نفسه ينطبق على الوضع في الشارع حيث أن قانون المرور الجديد في عدن هو قانون المركبات العسكرية، ولا شيء سواها يهم، فلها الأولوية عن المشاة وسيارات المواصلات العامة والخاصة وحتى سيارات الإسعاف التي تجبر على الانتظار ليمروا قبلها.
في السابق، كان المسؤولون الحكوميون يزورون المرافق ويضعون حجر الأساس للمشاريع الجديدة في المدينة وسط حضور وسائل الإعلام. أما اليوم، فإن القيادات العسكرية هي من تتصدر عناوين الأخبار ونراهم يزورون مدرسة ما أو يفتتحون مشاريع جديدة. هل هذا الوضع يعود لغياب الحكومة أم أن الجماعات المسلحة قد أصبحت هي الدولة؟
في أحد الأيام، لمحت صديقي يتصفح صورا للأسلحة على شاشة تلفونه، مزحت معه قائلة: “ماذا تفعل يا فارس مناع؟” (مناع هو أحد أشهر تجار الاسلحة في اليمن والقرن الأفريقي) رد علي بتفاؤل: “من فمك لباب السماء”. أخبرني أن هناك مجموعات على تطبيق واتساب لتجارة الأسلحة، وأن الكثير من الشباب والرجال في عدن أعضاء في هذه المجموعات حيث يتبادلون صور الأسلحة الخفيفة والمتوسطة دون الخوف من أي محاسبة أو اتهام. وقال إن العديد من الناس أصبحوا يعملون في هذا المجال، فحتى الذي لا يملك أسلحة يعمل كوسيط بين البائع والمشتري.
عندما عبرت عن دهشتي من الوضع، قال لي إن هذه المجموعات تضم أشخاصاً من مختلف المحافظات وينتمون لمختلف الأطراف. بعض المجموعات يتم فيها بيع وشراء الأسلحة من أفراد موالين للحكومة المعترف بها دولياً، وبعضها الآخر يتم فيها البيع والشراء من أفراد ينتمون لجماعة الحوثيين المسلحة.
في السابق كانت الفتاة في عدن تتباهى إذا ما تقدم لخطبتها دكتور أو مهندس، وإذا ما كان من أسرة معروفة أو لديه أقارب في الجامعة. كانت الجامعة تدل على المكانة بالمجتمع. أما اليوم، فهي تتباهى إذا تقدم عسكري طالبا الزواج منها. استمعت لحوار دار بين فتاتين لا تتجاوز أعمارهن العشرين عاما. الأولى مخطوبة لجندي مع الحكومة اليمنية، والثانية مخطوبة لرجل في قوات الحزام الأمني. أمضتا أكثر من نصف ساعة وهما تتناقشان من يتمتع بامتيازات أكثر من الثاني ومن راتبه أعلى. اعتقدت أن هذا المثال متطرف ولا يمثل الكثير من الفتيات، ولكن بعد تحدثي مع نساء أكثر في عدن، أدركت كم أصبح هذا التفكير شائعاً.
إطلاق النار على الرسول
أحد الأمور التي لفتت نظري بعدن هي الاستهزاء بأي شخص ينتقد الوضع الراهن وتشويه سمعته، ويكون هذا الهجوم عليه أكثر حدة عندما يكون المنتقد لا يقطن باليمن، وكأن من لا يعيش وسط الظروف الحالية ووسط معاناة الناس لا يحق له الانتقاد حتى لو كان من المدينة.
وبالتالي، أدرك أن بعض الناس سيستاؤون عند قراءة آرائي وملاحظاتي، خصوصا الجنوبيون وأبناء عدن. قد اُتهم بالتحيز والتركيز على السلبيات. غيرهم قد يقول إن هذه السلوكيات التي تحدثت عنها موجودة منذ سنوات وأن نظام علي عبدالله صالح (الرئيس السابق)، فعل أسوأ من ذلك خلال وبعد حرب 1994.
أقول لمن ينتقدني: نعم، أنا متحيزة لعدن وأهلها الذين تعرضوا للانتهاك مرارا وتكرارا من مختلف الحكومات. نعم أنا هنا أركز على السلبيات لأنها لم تكن جزءا من عدن التي عرفتها قبل الحرب. نعم أنا أعارض الجماعات المسلحة. نعم، لقد عانت هذه المدينة وأهلها أوضاعاً أسوأ بكثير خلال فترة نظام صالح. ولكن حينها، كنا نُظلم، أما اليوم نحن من نظلم أنفسنا.