قضية فلسطين ومكر التاريخ بقلم| عبدالباري طاهر
بقلم| عبدالباري طاهر
من الخطأ محاولة قراءة الواقع الحالي في الأرض المحتلة (فلسطين) من خلال العودة فقط إلى بدايات القرن الماضي، وبدايات نشأة الحركة الصهيونية، أو العودة إلى منتصف القرن الماضي، وبدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبروز المنظمات العسكرية: “الهاغانه”، و”إتسل”، و”ليحي”؛ فمن الهاغانه، وإتسل نشأت المنظمات الإرهابية: الأراغون، وشترين، وغيرهما، وجلّ قادة دولة إسرائيل آتون من الهاغانه، وإتسل، وليحي، كما أنه من الخطأ أيضًا عدم قراءة وفهم واقع هذه البدايات لهذا الاحتلال الاستيطاني ومكوناته بمفرداتها الدينية، والعلمانية، والعسكرية، وتحالفاتها وتكتيكاتها.
يُشدد المفكرون القوميون: قسطنطين زريق، وساطع الحصري على أهمية دراسة الداخل الإسرائيلي، وقد اهتم مركز الأبحاث الفلسطينية بهذا الجانب، وتأتي موسوعة المفكر العربي الدكتور عبدالوهاب المسيري لتصب في هذا الاتجاه، وتُغطي جوانب مهمة في دراسات مكونات وأُسُس الدولة الإسرائيلية، كما هو الحال بالنسبة للموسوعة الفلسطينية.
الباحث أنيس الصائغ – رئيس ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطينية – كثيرًا ما دعا إلى دراسة الواقع، والفكر الصهيوني، كما أنَّ المفكّر المهم جوني منصور، وهو باحثٌ من فلسطين الداخل قرأ عميقًا، وكرّس أبحاثه ودراساته الضافية في قراءة الداخل الفلسطيني، كما درسَ الاستيطان في عدة مجلدات، وقرأ العسكرية الإسرائيلية بتفاصيل تفاصيلها، وتقتصرُ قراءة المفكر إدوارد سعيد على قراءة الاتفاقيات: أوسلو، ومدريد، وما ترتبَ عليهما ونجَمَ عنهما، كما درسَ الجانب الثقافي.
يهتم مركز الأبحاث الفلسطينية بالتنبيه إلى قصور الأبحاث العربية عن فهم الواقع الإسرائيلي؛ مبينًا مدى اهتمام المفكرين والدارسين الصهاينة والإسرائيليين بالحالة الفلسطينية، والحالة العربية، وكثيرًا ما كتبَ الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل عن الصراع العربي – الإسرائيلي، والترابط العميق بين الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، والحكام والملوك العرب التابعين والمخترقين.
الإعلام العربي، والخطاب السياسي الرسمي والشعبوي لعبَ دورًا سالبًا في قراءة الواقع الإسرائيلي، وشوَّه وأساء إلى طبيعة هذا الصراع المصيري.
ما يجري اليوم في فلسطين بعد أكثر من قرنٍ على بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأكثر من سبعين عامًا على قيام دولة إسرائيل يفرضُ علينا القراءة، وإعادة القراءة والمعرفة العميقة بقراءة مكونات دولة الاحتلال الصهيوني والفصل العنصري، وكلّ مكونات هذه الدولة، وعوامل قوتها، ومنابع هذه القوة وروافدها؛ فالمعرفة قوة كما يقول بيكون، والاستهانة بهذا العدو، وإنكار قوته، ومصادر هذه القوة من أسباب النكبة 48، والهزيمة 67.
إسرائيل كيان استعماري آتٍ من مناطق وبلدان القوى الاستعمارية، فقد وفدَ مئات الآلاف من روسيا، والاتحاد السوفيتي، وأوروبا الشرقية، وأوكرانيا، وبلدان أوروبا الغربية، وأمريكا، والبلدان العربية. صحيح أنهم حتى اليوم، وبعد أكثر من قرنٍ على بداية الاستيطان عاجزون عن تحقيق “أتون الصهر” التي دعا إليها ابن جريون – أحد أهم مؤسسي الهاغاناه، ورئيس أول حكومة إسرائيلية، وأحد أهم بناة الجيش الإسرائيلي.
الانقسام الإسرائيلي بين الاشكناز، وبين السفارديم واقع؛ فالاشكناز هم المتسيدون الآتون من الغرب الاستعماري، أما السفارديم، وهم الآتون من البلدان الإسلامية والعربية، فهم في مرتبة ثانية، وداخل هاتين المفردتين الأساسيتين مفردات أخرى مختلفة ومتباينة. الجماعات الدينية هي الأخرى مختلفة ومتصارعة أيضًا، وليسوا كلاً واحدًا، والعلمانيون الصهاينة أيضًا آتون من منابت ومنابع مختلفة.
كُتُب الباحث جون منصور تدرسُ عميقًا الانقسامات القائمة: جذورها، واتجاهاتها، ومآلاتها؛ الوضع القائم بين اليمين، واليسار، وبين اليمين، واليمين الحاكم، وهما الاتجاهان الأكثر دموية وفاشية، والمسيطران الآن على الحياة السياسية.
الزعيم الصهيوني ابن جريون تبنّى – منذ البدء – دعوة “أتون الصهر”، كما تبنّى قضية اليهود الأمنية، وأنّ قضية أمن إسرائيل ووجودها مهددة بالإبادة والزوال، وكانت أبواق الدعايات الإعلامية العربية الرسمية والسياسية بعامة تؤكدُ الدعاوى الصهيونية شديدة الذكاء، وبالغة القوة، سواء داخل أجهزتها الفتية والعصرية، أو تحالفاتها الدولية مع الاستعمار الغربي وأمريكا.
المفارقة الراعبة أنه بمقدار الضعف والانقسام في الصف العربي الرسمي والشعبي بمقدار التباهي، ودعاوى إبادة إسرائيل، وقذفهم إلى البحر، والتحقير من شأن الدويلة (بالتصغير) كتسمية للكيان الغاصب الفتي والقوي. والمفجع أكثر أنّ الأنظمة الغربية والأمريكية هي من يتحكمُ في مصائر المنطقة العربية، والمتحكمون بقرار الدول العربية حينها 1948.
كانت الحركة الصهيونية جزءًا من تيار الاستعمار العالمي، وولدت منه ومعه منذ العام 1897 إِبّان انعقاد المؤتمر الصهيوني في بازل بسويسرا بزعامة تيودور هرتزل، وبدأت حينها حركة الهجرة اليهودية المنظَّمة والمسيَّسة إلى فلسطين، وهو ما يرصده بدقة الدكتور المسيري في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية”.
كانت المنطقة العربية كلها تغط في نومٍ عميق، وجلّها يرزحُ تحت نير الاحتلال العثماني، أو الاستعمار الفرنسي البريطاني، وحكامها أصدقاء الاستعمار، والحركات اليسارية والقومية العربية نشأت عقب الحربين الكونيّتين، وحملت عيوب وأمراض مجتمعاتهما.
انتفاضة عز الدين القسام كانت بداية المواجهة مع المنظمات الصهيونية، والعصابات المدججة بالسلاح، والمسنودة بقوات الانتداب البريطاني، ومنذ البدء كانت المنظمات الصهيونية شديدة التنظيم والتخطيط والعسكرة أكثر استعدادًا للمعركة القادمة في 1948، أما حرب 1967؛ فقد كان التخطيط والاستعداد لها أوسع وأشمل، وله ارتباط ضدّيّ متين بالثورات العربية والقومية، وبحركات التحرر العالمي، وفي الجزائر، وجنوب اليمن، والحرب في اليمن، ودور السعودية فيها.
كانت المعركة 1967 مواجهة بين الثورة القومية بزعامة القائد العربي جمال عبدالناصر، وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي والامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، والرجعيات العربية، وكانت 5 حزيران بداية الانكسار القومي الممتد حتى اليوم. 5 حزيران 67 بداية الازدهار والانتشار والتمكين لليمين الديني، ليس في إسرائيل وحدها، وإنما في المنطقة العربية والإسلامية.
المواجهات بين الإسلام السياسي، ومنظمة التحرير الفلسطينية واليسار الفلسطيني لم تكن إسرائيلُ بعيدةً عنه، وصعّدت إسرائيل المواجهة والحرب ضد منظمة التحرر واليسار لصالح الإسلام السياسي المهتم حينها بالجوانب الدينية والأخلاقية، والمواجهة مع فتح واليسار.
“في ردّنا على حماس” – هذا اسم الكتيِّب الذي أصدرته منظمة التحرير عام 90 – ترد المنظمة على انتقادات حماس حول احتكار المنظمة للمجلس الوطني الفلسطيني، وهو انتقاد صائب وصحيح، وتشكو منه العديد من المنظمات، ومنها: الشعبية، والجهاد، ومنظمات أخرى؛ وهي معضلة قائمة حتى اليوم. والمأزق أنّ النقد الذي توجهه حماس للمنظمة في جوانب الانفراد صحيح، بينما انتقاد المنظمة لحماس صائب وصحيح أيضًا. تردد حماس في الانضمام للانتفاضة في البداية لوجود يساريين فيها، كما رفض الإخوان المسلمون تأييدها إلا بعد تدخّل الكويت.
شعارات “خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود” لا يختلفُ عن الموت لأمريكا، الموت لليهود، بينما يموت اليمنيون فقط.
إعطاء الأولوية حينها للجهاد الأفغاني، وتصريح فتوى عبدالله عزام بعدم جواز الجهاد في فلسطين إلا بعد قيام الدولة الإسلامية، في حين تركَّز – ولا يزال – نقد حماس على هيمنة السلطة على المجلس الوطني، ونقدهم بحقّ صفقات أوسلو، ومدريد، والتنسيق الأمني مع إسرائيل.
حماس التي أريدَ لها أنْ تكون أداة إماتة مطلب التحرر الوطني، ومصدر صراع وانشقاق وطني، وحركة يسهلُ دوليًّا وصمها بالإرهاب للخلاص منها، ومحاصرتها في غزة.
المنطقة خارج أرض يهود أو السامرة التوراتية تأبى اليوم إلا أنْ تكون جزءًا أساسيًّا من حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ومواجهاتها المستمرة تُعزِّزُ مقاومة شعبها الفلسطيني ضد الاحتلال الاستيطاني والتغول الصهيوني، وهو ما يُجسِّد المعنى العميق لمكر التاريخ ليس بالنسبة لإسرائيل فحسب، وإنما أيضًا لبعض الدول البترولية التي أغدقت عليها الأموال، وحجبته عن المنظمة.
منظمة التحرير منذ ما بعد الخروج من بيروت، والتوقيع على اتفاقيات أوسلو ومدريد، والعودة للضفة تحولت إلى سلطة لا تختلفُ كثيرًا عن الأنظمة العربية، إضافة إلى أنها تحكمُ شعبًا محتلاً ومكبلاً باتفاقيات أمنيّة في خدمة إسرائيل، وحماس التي تحكمُ غزة – الأرض غير الموعودة في التورات في العقل الديني الإسرائيلي، والعلماني الصهيوني – محكومة بأيديولوجية الإخوان المسلمين، ولها ارتباطاتها وتحالفاتها السياسية الملتبسة، ومع ذلك تبقى جزءًا من حركة التحرر الوطني في قضية المقاومة الوطنية التي تخلّت عنها المنظمة، ومطالبة حماس، والجبهة الشعبية، وأطراف فلسطينية أخرى بإعادة صياغة المجلس الوطني الفلسطيني ليستوعب ألوان الطيف الفلسطيني، مطلبٌ وطنيٌّ وديمقراطي، وهو المعني الحقيقي للمصالحة الوطنية، والذهاب إلى انتخابات حرة ومباشرة رغم أنف إسرائيل ومؤيديها، “إنه مكر التاريخ حقًّا”.