مقالات

عالمٌ جديد بقلم| قتيبة صالح

بقلم| قتيبة صالح

تعود نشأة النظام الدولي إلى عام 1648، حين أنهت “معاهدة وستفاليا” الحروب الدينية في أوروبا، وأسست لقيام نظام دولي حديث، يعتمد مبدأ توازن القوى وسيلةً لتحقيق السلام، ويعتبر قوة الدولة مرادفاً لقوتها العسكرية.

يمكن تسمية تلك المرحلة مرحلةَ النسق الدولي المتعدد القوى القطبية. وكانت أوروبا خلالها تمثّل مركز الثقل السياسي في النظام الدولي، بسبب تركُّز معظم القوى القطبية في القارة الأوروبية.

امتدت هذه المرحلة حتى عام 1945، حين أسفرت الحرب العالمية الثانية عن تبلور صورة جديدة لتوزع القوى. فبدأت مرحلة جديدة، أخذت طابع الانقسام في المجال الدولي، وأصبح المعسكران الشرقي والغربي، بحكم قدراتهما الفائقة، يقرّران مصير شكل النسق العالمي، من حيث توازنه ونمط التفاعلات فيه.

مع تفكك الاتحاد السوفياتي، وزواله من الخارطة الدولية عام 1991، بدأت المرحلة الثالثة. نظام عالمي جديد، انعدم فيه وجود منافس للقوة الأميركية، وتبوّأت الولايات المتحدة فيه المكانة الكبرى للتفرُّد بقيادة العالم، وفرض نمط الحياة والثقافة الأميركيتين، في كل الطرائق.

وعلى الرغم من الاستئثار الأميركي بالشأن الدولي، فإن صعود بعض القوى العالمية، وظهور التكتلات والأحلاف، سواء الاقتصادية أو العسكرية، وازديادَ عدد الفاعلين الدوليين، أثبتت مجتمعةً وجود نوع من الاختلال في توازن القوى.

يتم التعبير عن هذا الاختلال بالقول إنه مرحلة جديدة، يتأسس فيها نظام دولي جديد، غير أنه لا يشبه سابقيه، ولا محدِّدات واضحةً له بعدُ.

كابوس ماكيندر
بالعودة إلى السرد التاريخي، في عام 1919، أصدر هالفورد جون ماكيندر كتابه “المثل والواقع الديمقراطي”، ويؤكد فيه أهمية الأرض المقدَّسة بالنسبة إلى بريطانيا العظمى، من أجل السيطرة على قناة السويس. ويسلّط الضوء على أن بناء السكك الحديدية عبر سيبيريا يمكن أن يسمح لقوة برية، منفردة أو في إطار تحالف، باستغلال الموارد عبر أوراسيا، وتحدي هيمنة القوة البحرية. حربان عالميتان شُنّتا، بالإضافة إلى حرب باردة، لمنع هيمنة القوى التي هدَّدت بالسيطرة على ما أطلق عليه ماكيندر اسمَ “قلب الأرض”.

يقول الكاتبان ليونارد هوشبرغ وميشال هوشبرغ، في صحيفة “ذا هيل”، إن كابوس ماكيندر الجيوستراتيجي اليوم أصبح حقيقة واقعة. فروسيا والصين وإيران، إلى جانب كوريا الشمالية وغيرها، تحتلّ قلب ماكيندر، وتمارس تأثيراً كبيراً فيه.

ويحذّر الكاتبان من أن القدرة العسكرية الأميركية تدهورت بصورة كبيرة، وأن الولايات المتحدة فقدت قدرتها على المواجهة، مع خصوم باتوا يلحظون هذا التراجع لديها.

يطرح الكاتبان، على خبراء الأمن القومي الأميركي، احتمال مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها حرباً متعددة الجبهات، متسائلين عن قدرة واشنطن على الردّ على هذه التحديات، وعن الصراعات التي ستُعطَى الأولوية في هذه الحالة.

اللانظام العالمي
تفتح عبارة “أولوية الصراعات” الباب واسعاً أمام النقاش اليوم، غير أن هذه النقاشات تتركّز، على نحو أساسي، على ترتيب خصوم الولايات المتحدة من حيث القوة، وعلى ما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله لاستعادة القدرة على ضبط “العالم الجديد”.

في مجلة “ناشيونال إنترست”، يطالب الكاتبان ديفيد كين ودان نجريا، الإدارةَ الأميركية بأن تكون واضحة في توصيفها الصراعَ مع الصين على أنه حرب باردة جديدة، لأن الصين، نتيجة قدراتها، باتت تشكّل اليوم “تهديداً وجودياً للنظام العالمي الحالي”.

أمّا جيسيكا ماثيوز، في مجلة “فورين أفيرز” فتقول إن أقصى ما يمكن للولايات المتحدة فعله هو “إظهار علاقة استراتيجية ثابتة بالصين، وحزم مع روسيا، وممارسة سياسة اقتصادية تضع النمو العالمي في إطار ربح – ربح”، بينما يدعو روبن بريجني إلى “اجتذاب نظريات متعددة لتطوير سيناريوهات لأكثر من مستقبل بديل”.

تبدو تلك التحليلات قاصرة، إلى حدّ كبير، إذ إنها تنطلق من فرضية قدرة الولايات المتحدة على القيادة، وبالتالي تناقش كيفية ذلك. لكنّ المسألة ليست فيما تفعله واشنطن وحدها، فالقوى الأخرى لديها استراتيجيات ونظريات قادرة على إرباك الولايات المتحدة، وهي في مزاج هجومي واستعداد لتحمل التكلفة، في حين تبدو أميركا في مزاج دفاعي تراجعي، وخوف من تكلفة الدور العالمي.

من جانب آخر، يبرز التساؤل عن القدرة الأميركية، أو ما يعبّر عنه مايكل بيمبروك، في كتابه الجديد “أمريكا في تراجع”، بالقول إن “الولايات المتحدة أصبحت عاجزة أكثر من أي وقت مضى على مواجهة القوى العالمية الصاعدة”.

يقودنا هذا السرد إلى محاولة تلمُّس شكل العالم الجديد المتشكِّل. يمكن الحديث اليوم عما بات يسمّيه بعض الدوائر حالةَ اللانظام العالمي، في إشارة إلى نظام متعدّد الأقطاب لم تكتمل صورته وضوابطه بعدُ، لكنه عالم أشد تعقيداً وأكثر تنوعاً من أن تتحكّم فيه قوى كبيرة متنافسة ومتصارعة، ومتعاونة أحياناً.

عالم تعاني فيه الولايات المتحدة انقساماً سياسياً حاداً في الداخل، وتواجه للمرة الأولى ربما أسئلة عن دورها الخارجي. يعبّر عن ذلك جوناثان كيرشنر في مجلة “فورين أفيرز” بالقول إن الولايات المتحدة في حالة من “الهبوط نحو الاسترخاء على نحو يجعلها دولة مستهلكة للصراعات الاجتماعية الداخلية، وليست دولة قادرة على ممارسة سياسة خارجية بنّاءة يمكن التنبؤ بها وتستحق الثقة”.

في كل الأحوال، عندما تتربَّع دولة ما وحدها على عرش القوة، فلا سبيل سوى السقوط. ليس من المبالغة القول إن عصر الإمبراطورية الأميركية، بالصورة التي اعتدنا عليها، آخذٌ في الأفول شيئاً فشيئاً. هنا علينا أن نعي جيداً دورنا، ليس من حيث كوننا متأثّرين فقط، بل فاعلين أيضاً، في عالم يبدو كل ما فيه جديداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى