حزننا الجمعي الجامح بقلم| نجيب الورافي
بقلم| نجيب الورافي
حين تنكسر الأحلام نتضاءل، نتباطأ، نتوقف، وننكفئ عن رؤية أي بصيص في الأفق فلا شيء بعدها جامح فينا سوى هذا الحزن وحده ما يسكننا ويكبر داخلنا، يصبح الأعلى والأقوى، وحده يصعد على ظهورنا، يطأ الرقاب واقفًا، ووحده يعلو ويجمح بلا انتهاء ولا توقف، مهما حاولنا الانحناء لعاصفة آمالنا المُرّة، وطأطأنا محض فراغ، نبدو لا نشبه حقول السنابل المحنية بالامتلاء.
أحزاننا الفردية ليست ذات شأن قياسًا إلى حزننا الجمعي كأمة انسدت في وجوهنا الأبواب، وضُربت علينا أسوار منيعة أعلى من كل سجون الأرض لنموت داخل بؤسنا الملتوي بصمت. كلما حاولنا الوقوف شعرنا الحزن أيضًا يمتد، يطول، ينفذ من أعماقنا عاليًا صلبًا كأشجار (الطَّنِب) العتيقة، يغدو وارفًا، لا ليظلل شيئًا بل ليثبت، بما لا يدع مجالًا لتفاؤل، أنه حزن شديد المتانة لا تداخله العثة ولا ينهار. مهما انتظرنا ذلك بفارغ الدموع والحنين.
تلك الوجوه المكتظة بها أسواق المدن والجولات والحافلات ومحطات الوقوف، لـ”شقاة (عمّال) الحراج” (محلات بيع الأشياء المستعملة) في قلب المدن، حتى طوابير المدارس، أصوات الصغار، تقاسيم الأناشيد المؤداة من باب إسقاط الواجب، الضوضاء، النساء الذاهبات باكرًا إلى العذاب، ليُعدنَ حاملات فوق الرؤوس “دِبَاب” (جالونات) المتاهة أو “قُطْمَة” ذلّ وكرتونة إهانة، وهبتها يد رمضان العابر الكريم!
أنظر إلى ذلك وسواه، لا سيماء فيه من بكور العصافير ولا رائحة لتغاريد الضوء! حدق مليًّا ترى الوجوه مربوطة بحبال الصبر إلى قعر الهزيمة، العيون ممطوطة بأوتاد القهر، مثل: كائنات “سلفادور دالي” الغارقة في رمزية وطأة العبث والفوضى. لا شيء يَعِد بفرح وأمل وحلم غير الحزن، هذا الكائن الطويل العريض يستوطن النفوس ويمتد في الحواري والأزقة، تصل أذرعه إلى الشرفات والردهات كتنين شديد العدائية والضراوة.
حتى أقدس مناسباتنا الدينية والوطنية لم نعد نعيشها شغفًا وفرحًا قوميًّا، هي حافلة بالوجع كغيرها! قال صديق إن مقولات “رمضان كريم” و”شهر مبارك”، صارت متلازمات اعتيادية، ولم تعد تحمل من الصدق والموثوقية سوى الخيانة لمشاعرنا الموجوعة. بالنقيض تمامًا، يبدو هذا الصديق هو الأكثر قدرة على الصدق والمجاهرة بأوجاعه. فرمضان الكريم والعبرة بفريضة الصوم ذاتها هي لترقية الحس الإنساني وصقل نُبْل النفس وتربيتها على الشعور بمأزق الآخر، لا لاستهلاك ما تبقى من إنسانيته بتحويل الشهر الفضيل إلى بوابة سنوية تتسع بالفقراء وتزدحم بالأيدي الممدودة بالسؤال، غارقة بماء الوجه المفقود إذلالًا وتشهيرًا!
ما من كرم ولا من إحسان يُفقد الإنسان كرامته وآدميته. غدا رمضان أيضًا واحدًا من مواسم أحزاننا الجامحة، ابتداء بمشاهد طوابير المُدقعين أمام بوابات المحسنين وعلى نوافذهم ليل نهار، وانتهاء ببرامج التلفزة الرمضانية التي تحولت إلى دراما مفتوحة تثير شهقاتنا الموجوعة أكثر مما تنال رضانا وإعجابنا. والأقسى من ذلك والأدهى، أن تلك الدراما مفتوحة النهاية للحرمان والفقر، مقفلة التراحم بقية شهور العام. صار رمضان الكريم مثار إحساس الفقير بالحاجة والعوز، وإحساس الغني بالتباهي بعطائه والخيلاء بما سيدر عليه من غنى مضاعف، ومن دخول للجنة من باب شهر الرحمة والإحسان!
تعددت الأوجاع والجرح واحد، لتكون النتيجة هذا الحزن الجامح المتلاطم لأمة بأسرها. حزن يطال المرأة والرجل الشيوخ والشباب والأطفال. نسيجُ أنينٍ لثكالى وأرامل وأيتام ومشردين وضائعين مجهولي المصير، وعراة وجياع!
حين يطال الحزن جبهة أمة وشعب، فذلك يعني ترجيح كفة الضعف على القوة، والقنوط على الأمل والتفاؤل وغلبة الجمود، ولكسادٍ على التطلع والحلم، وحينئذٍ لا منجاة لأحد بأحد، فالكل غارق ومنشغل بهموم الكل، دون ملاذ ولا مأمن!
أمم كثيرة كان لها كبواتها الكبار وخساراتها الفادحة، ولعلها قد غرقت في جراحها وأحزانها ما يفوق ما نحن فيه أضعافًا، ومع ذلك استيقظت من نكباتها ونهضت، تغلبت على هزيمتها وقهرها لتواكب أمم الأرض خلقًا وإبداعًا، وصارت منجزاتها هي أفراحها الجمعية البديلة عن أحزانها البائدة.
لا يعني حزن أمة موتها، بل على النقيض، هو نوع من وحدة المشاعر للتطلع من جديد، تطهير لعمقها الوجداني من وهن اللحظة وانكسارها. أمة تحزن بحدة وعمق، معناها شعور واعد بالخلق والتطلع إلى ما هو أفضل وأجمل.