الأخبارتقارير وتحليلاتمقالات
القوات الحضرمية وإشكالية الولاء والهوية
حيروت- متابعات
يتكون مجتمع حضرموت من عدد من الشرائح التي تعارف عليها المجتمع منذ عصوره الوسطى، وتأتي القبائل في السلم الاجتماعي بعد السادة والمشايخ، ويتميز المجتمع القبلي بارتباط أعضائه فيما بينهم برابطة النسب والقرابة، ويعيشون غالبًا في منطقة جغرافية محددة، وقد يكونون بدوًا رحلاً، ويحمل أفراد القبائل السلاح مشكلين القوة الفعلية المسيطرة على زمام الأمور بحضرموت.
كانت القبائل تعيش صراعًا مزمنًا فيما بينها حول قضايا متعددة، أبرزها التنافس على موارد الرزق والأخذ بالثأر، وفي مطلع العصر الحديث أخذ ذلك الصراع بعدًا آخر بدخوله معترك السياسة لدى محاولة إقامة دولة في حضرموت تنافس فيها أكثر من طرف سياسي، وكل طرف يستعين بقوة القبيلة في حربه للسيطرة والنفوذ، ثم انحصر ذلك الصراع السياسي بين الطرفين القعيطي والكثيري اللذين تقاسما حضرموت في دولتين، كثيرية تسيطر على مدينتي سيئون وتريم وما جاورهما، وقعيطية تسيطر على ساحل حضرموت، وعلى عدد من مدن الوادي كالقطن وشبام.
ولدى سعي تلكما الدولتين بسط سيطرتهما على مناطق حكمهما اصطدمتا برفض القبائل في الخضوع لأنظمتها ولولاتها، ومن ثم أخذ الصراع في حضرموت بعدين أساسيين، بعد سياسي بين الدولتين بسبب عدم وضوح حدودهما، وبعد قبلي بين كلٍّ من الدولتين وما يقطن في أراضيها من تجمعات قبلية نافرة من فرض الدولة سيطرتها على مناطقها، وعلى ما تحتفظ به من أعراف بعيدًا عن قوانين الدولة، أو ما تتمتع به من موارد ارتزاق تسعى الدولة للهيمنة عليها.
واستمر ذلك الصراع مع عدم قدرة أي من الطرفين على حسمه، سواء سياسيًا أو قبليًا، ومع تطاول أمده تدخلت فيه قوى أخرى إقليمية كاليمن والسعودية، ودولية كتركيا وبريطانيا، وفي النهاية تغلب الحضور البريطاني في المشهد السياسي بحضرموت، وقد اتخذت بريطانيا لذلك التدخل سبيلين، أولهما بعقد المعاهدات مع الحكام المحليين من قعيطيين وكثيريين، والآخر بتأسيس جيش مكون من أبناء القبائل كان له بعد حين حضوره المؤثر في المشهد السياسي الحضرمي.
اهتمت بريطانيا في البداية بحسم الصراع السياسي بين الدولتين القعيطية والكثيرية بتحديد حدودهما، وتنظيم العلاقة بينهما وخلق نوع من التنسيق في السيطرة على مناطق نفوذهما، وبعد أن اطمأنت بريطانيا إلى انتهاء الصراع السياسي، واستقرار العلاقة بين الدولتين الحضرميتين المتنافستين، واكتسابهما لشرعية وجودهما بدأت تعمل على إيجاد حلول لصراعها مع القبائل لتأمين بسط سيطرة كل دولة منهما على التجمع القبلي في مناطق نفوذها، وتوطيد الأمن العام خارج المدن حيث يتزايد النفوذ القبلي.
شكلت بريطانيا لجنة سميت بلجنة أمان حضرموت، مكونة من وجاهات سياسية ومالية وقبلية وروحية من أعيان حضرموت، ومن خلالها أعلن عن مشروع للصلح تكون مدته عشر سنوات، وبعد المداولة مع أعضاء اللجنة وبعض ممثلي القبائل جرى الاتفاق على أن تكون مدته ابتداء لثلاث سنوات، وتكون قابلة للتمديد، يبدأ من بداية عام 1937 وينتهي بنهاية عام 1939.
تلا ذلك سعي حثيث لإقناع كل قبيلة على حدة بالتوقيع على معاهدة الصلح، وأن تتعهد بالالتزام به، وبالاحتكام للحكومة الشرعية التي تقع ضمن أراضيها لحل الإشكاليات الطارئة، والرضا بحكمها الذي تقرره، أو حكم من يمثلها، وكان الضامن لنجاح الصلح وثباته، هو التلويح بالقوة العسكرية عند المخالفة، ولاسيما سلاح الطيران، وقد تم لاحقًا استعمال تلك القوة فعليًا ضد بعض القبائل أو الأطراف المخالفة.
استمر ذلك الصلح مع ما شابه من اختراقات محدودة طيلة السنوات الثلاث، ومع ما صاحب تجربة السلام وفرض الهدن في القبائل من عمليات مسلحة قد تلجأ إليها بريطانيا والحكومة المحلية، إلا أنها أيضًا قد صاحبها تقديم لبعض الخدمات الاجتماعية المحدودة، ولاسيما في المجالين التعليمي والطبي.
ثم برزت الحاجة الماسة لتمديد الصلح القبلي مع نهاية المدة المخصصة للهدنة الأولى باقتراب عام 1940، وعززت تلك الحاجة عوامل داخلية وخارجية مترابطة، ومن بينها اندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت بريطانيا شريكًا أساسيًا فيها، وتعرضت خلالها لضربات موجعة، واحتاجت للهدوء في مناطق نفوذها، ومن بينها حضرموت، ثم ألقت تلك الحرب بثقلها على حضرموت نفسها بالغة ذروتها بالمجاعة التي اجتاحت المناطق الريفية بدرجة أساسية، وهي مواقع حركة القبائل المستفيدة من الصلح، وهي التي شاهدت بل لامست مدى أهمية الصلح والسلام، وذاقت طعم الأمان في السنوات الثلاث السالفة.
استجابت معظم قبائل حضرموت لنداء الصلح العام، سواء بقناعات، لكن كان منها من يتشكك في جدية تلك الخطوة، وفي مدى قدرة الحكومة على تحقيقها وفرضها على الواقع، وذلك من خلال ما تقدم لهم من خبرات الصراع مع الحكومة المحلية قبل التدخل البريطاني بسلاحه المتطور كسلاح المدفعية، وسلاح الطيران على وجه التحديد.
فلم تجد الحكومة وحليفها البريطاني مناصًا من استعمال القوة القاهرة؛ لفرض إدخال تلك القبائل المتمردة في الصلح، وإلزامها بالتوقيع على معاهداته، ويتم استعمال تلك القوة عند شروع القبيلة المتمردة بعمل ما يعكر الأمن في محيطها، سواء كان يتعلق بأمن الحكومة وجنودها، أو بسلامة أفراد القبائل المجاورة لها.
كانت تلك الهجمات، ولاسيما غارات الطيران، تثير نقمة القبائل؛ لما تسببه من رعب وأضرار في أرض القبيلة، وكانت بعض تلك القبائل تحاول مقاومتها والتصدي لها عبر الرمي المباشر على الطائرات المهاجمة، وحدث مرة أن هوت طائرة منها على أراضي إحدى القبائل؛ فسارع أفرادها إلى الفتك براكبيها البريطانيين الذين سلموا من السقوط، ولم يسلموا من قبضة وغضبة رجال القبيلة المتضررة؛ فلم يتركوهم إلا جثثًا هامدة، وحولوا طائرتهم إلى حطام.
هنا ارتأت بريطانيا ضرورة إعادة تنظيم ما يتعلق بالجانب العسكري لإقليم حضرموت، أو ما كان يطلق عليه (المحميات الشرقية)، فأتى تأسيس جيش البادية الحضرمي أواخر سنة 1939؛ كي يساعد على كسر حدة الصراع القبلي ويخفف من احتكاكه بالدولة، فما عادت القبائل تواجه جيشًا غريبًا في عناصره، بل تواجه جيشًا من أبنائها.
ولأن الجيش تتكون عناصره من أبناء القبائل البدوية البسطاء؛ جرى استقدام ثلاثة من القادة العسكريين العرب من الأردن لأداء مهمة تدريب الجيش، بغرض تحقيق مزيد من التجاوب والتفاعل معها، وتسهيل إلقاء التعليمات العسكرية للجيش الحضرمي باللغة العربية، وصار هذا الجيش عامًا لجميع إقليم حضرموت ساحلا وواديًا مع سلطنتي المهري شرقًا، والواحدي غربًا.
هذا الجيش، أو تلك القوات، وإن كان يحمل الصفة الحضرمية إلا أنه ظل تمويله والإشراف عليه من خارج إطار حكومته الشرعية، سواء في المكلا أو سيئون، فكانت بريطانيا هي من تموله، وهي من تلقي إليه التوجيهات في جميع تحركاته بما يخدم الوجود البريطاني ومصالحه بحضرموت، ومن ثم صار ولاؤه الحقيقي لها، كما ظل مستوى تدريبه وتسليحه محدودًا بحيث لا يستغني عن التدخل البريطاني عسكريًا في مهامه التي يكلف بها.
وختامًا صار هذا الجيش الحضرمي بأفراده والأجنبي بولائه أول وبال هدد الحكومة الشرعية وعجل بانهيارها بوقوفه في صف المناوئين لها بإشارة من بريطانيا التي تدفع رواتبه، مع أن هؤلاء المناوئين يوالون هوية مغايرة عن الصفة التي يحملها، ولم يفعل كما فعلت الجيوش العربية الوطنية التي أسقطت العروش في دولها آنذاك، لكنها حافظت على هويتها وصانت مقدراتها.
* د. أحمد باحارثه