بقلم/علي جزيني
“لقد عمل الصاروخ بشكل ممتاز، باستثناء هبوطه على الكوكب الخاطئ”. فيرنر فون براون
“أصوّب نحو النجوم، ولكنَّني أصيب لندن أحياناً”. الأديب التهكّمي مورت سال ساخراً من فون براون
الطوربيد الطائر
إذا ما نظرنا إلى تكنولوجيا الصواريخ الحديثة بعين أيّ إنسانٍ سبق القرن العشرين من دون تبيان تسلسل الرواية، فإنَّ فكرة إيصال الموت بهذه السرعة والحرفيّة والدقّة إلى نقطة خارج مدى البصر، ستبدو ضرباً من الجنون. مثل كلّ التكنولوجيا العسكريّة التي نراها شاخصةً أمامنا أو جاثمة على صدورنا في أحيان أُخرى، للصواريخ الدقيقة رواية طويلة ومثيرة للاهتمام في آن. هذه الرواية تستحقّ الإضاءة على بعض المنعطفات المهمّة أو الاختراقات التكنولوجية فيها لتبيان الخطوط العامّة لهذا التطوّر.
بدأت القصّة في العام 1916 مع الملاح الأميركي لورنس سبيري (Lawrence Sperry)، الذي قام بتصميم وبناء ما أسماه “الطوربيد الجويّ”، الذي كان عبارةً عن طائرة ثنائيّة الجناح تحمل شحنة “تي إن تي”، ويتمّ التحكم بها باستخدام موجات الراديو، بالتوازي مع جهاز ذاتي التوجيه بالقصور.
كان سبيري قد عمل سابقاً على تقنيات لتوجيه مدمرات سلاح البحريّة الأميركي في مسارها، ما أوحى له بالفكرة العبقريّة باستخدام أجهزة التوجيه أو المبدأ ذاته لتوجيه طائرته عبر “طيار آلي”، بما أن توجيهها يدويّاً بالراديو فقط لن يكون كافياً. وكان جهاز التوجيه البدائي في هذا الطوربيد الطائر مكوّناً من بارومتر لقياس الضغط، بغية حساب الارتفاع، ومن “مدوار” أو “جيروسكوب” (Gyroscope) لحساب زاوية الانحراف عن المسار المخطّط.
ليس هناك مهرب من شرح بسيط لماهية هذا “الجيروسكوب” وطريقة عمله، ذلك أنَّ الموضوع سيتكرّر مراراً في سياق المقال. “الجيروسكوب” أو “المدوار” هو جهاز يعود إلى القرن التاسع عشر، يهدف إلى حفظ الزاوية التي أخذها المدوار في الموقع المركزي، بغضّ النظر عن حركة الحلقات التي تحيط به، أي حركة البنية الحاملة له.
خلاصة الحديث من دون الخوض في التفاصيل الفيزيائية تتمثل في أنه يشكل التكنولوجيا المحوريّة في تصميم الصواريخ والطائرات، نظراً إلى قدرته على الحفاظ على “السمت” الأساسي (azimuth)، أي المحافظة على المسار البالستي الرياضي الأصلي للصاروخ أو الطائرة في هذه الحالة من المتغيّرات التي ستؤثّر فيه، كمقاومة الهواء. إذاً، كلّما زادت دقّة هذا الجهاز وتعقيده، زادت دقّة الجسم الطائر نفسه بالنسبة إلى المسار الأصلي.
الحروب الكبرى
طوّر الجيش الأميركي طائرة مشابهة لطوربيد سبيري في السنوات اللاحقة، كما حاولت الإمبراطورية الألمانية في آخر سنوات الحرب العالمية الأولى صناعة منزلقة يتمّ التحكّم بها عن بعد، إلا أن كلّ هذه المحاولات افتقدت عامل الفاعليّة، مقارنة مع الكلفة والجهد المتطلّبين لصناعتها.
خفت بريق هذه الأسلحة في حقبة ما بين الحربين، إلى أن بدأت تُسمع طبول الحرب العالمية الثانية من بعيد. قبلها، حصل الألماني فيرنر فون براون على شهادة الدكتوراه من معهد برلين للعلوم التقنية، بالتزامن مع وصول الحزب النازي إلى الحكم في العام 1933.
المثير للاهتمام هو أن أطروحة فون براون المعنونة “بناء، نظرية، والحلول التجريبية لمشكلة الصواريخ المدفوعة عبر السوائل” لم ترَ النور حتى العام 1960، أي بعد سنوات من نهاية الحرب، نظراً إلى أهميتها. قام فون براون، مستفيداً من بحوث العالم الأميركي روبرت غودارد، بتصميم سلسلة صواريخ “أغريغات” تحت إدارة فالتر دورنبرغر؛ هذه النماذج التي شكلت عماد مشاريع صواريخ “في 2” (Vergeltungswaffe-2) أو “الانتقام-2”.
يخطئ العديد من المعلقين في نسبة صاروخ “في 1” إلى فون براون نفسه، رغم أنه ثمرة جهد المهندسين روبرت لاسّر وفريتز غوسلاو. يمثّل التصميمان، أي “في 1” و”في 2″، أولى تصميمات الصواريخ الموجّهة الناجحة في التاريخ، إلا أنهما ينتميان إلى عائلتين مختلفتين كلياً، فالأول بسرعته الما تحت صوتية وطريقة عمله يشبه الصاروخ الجوال الحديث، مع الاختلاف في الدقّة بالتأكيد، إذ إن دقة النماذج الأولى كانت تصل إلى 30 كيلومتراً. ولاحقاً، تحسّنت لتصل إلى حوالى 10 كيلومترات.
أما الصاروخ الآخر، فهو يشبه الصواريخ البالستية الحديثة، كما نعرفها، من ناحية زاوية الإطلاق شبه العمودية، للاستفادة من الارتفاع في صنع مسار بالستي أكثر انحناء (الأول كان يطلق منحنياً وبمسار أقلّ ارتفاعاً)، ومن ناحية السرعة الما فوق صوتية، الأمر الذي جعل اعتراضه شبه مستحيل آنذاك.
اهتمَّت ألمانيا قبل بداية الحرب ببناء الصواريخ البالستية، ذلك أن اتفاقيّة “فرساي” التي فرضت عقوباتٍ على التسليح الألماني، وخصوصاً المدفعية، لم تذكر شيئاً عن الصواريخ، الأمر الذي سرّع تبني الجيش الألماني سلسلة مشاريع “أغريغات”.
دفع النصر الألماني السريع على بولندا في بداية الحرب باهتمام القيادة العسكرية بعيداً من تصاميم كهذه، ثم عاد الاهتمام بها بعد الاعتقاد القائم بمحدودية نتائج حملات القصف على المدن البريطانية التي تريد حمل بريطانيا على الاستسلام، فبدأ العمل من جديد على هذه التصميمات، وصولاً إلى نجاح أول طيران للنموذج الأول من صواريخ “إي 4” أو “في 2″ في العام 1942.
احتاج فون إلى سنتين تقريباً حتى يتمكَّن من حلّ كلّ المشاكل التي اعترت التصاميم، بدءاً من تجمّد بدن الصاروخ بسبب استعمال الوقود السائل، وصولاً إلى انفجار الصاروخ بسبب ارتفاع الحرارة بعد الإطلاق وضعف البدن، نظراً إلى كمّ الطاقة الدافعة التي كان الإطلاق العمودي يحتاجها واحتكاكه الأعلى بالهواء، بخلاف الـ”في-1”.
لم تتطوّر أنظمة التوجيه بالشكل الكافي الذي يسمح برفع دقّة المقذوفات بشكل جذري، فبقي الاعتماد على “الجيروسكوبات”، وبقي “البارومترات” هو الأساس في عمليّة توجيهها. الإضافة النوعيّة كانت بوصلة مغناطيسيّة منحت الصاروخ دقّة إضافيةً.
النقاش الّذي يمكننا فتحه هنا يدور حول نجاعة هذه الصواريخ في زيادة فاعليّة المجهود الحربي الألماني، إذ إن كلفتها كانت عالية جداً مقارنة مع الضرر المحدود الّذي أحدثته، على فداحته، وكان يقتصر معظمه على البنية التحتية المدنيّة. أما الضرر الذي أحدثته في البنية العسكرية، فقد كان لا يُذكر، فيما كانت الموارد التي استخدمت في صناعة هذه الصواريخ تكفي لصناعة 20 ألف طائرة ألمانيّة.
ثمة مفارقة أخرى تتمثل في أن “في 2” العامل كحول الإيثانول كان يستهلك ثلث إنتاج ألمانيا منها، فضلاً عن تشغيله عشر الطاقة التشغيلية الكليّة لمصانع سلاح الجو الألماني. على غير المتوقع، قام “في 1” الأرخص بحوالى ثلاثين مرّة، والذي كان إسقاطه ممكناً بتقنيات تلك الحقبة، بعكس “في 2” الأسرع، بتقييد العديد من طواقم سلاح الجو والدفاع الجوي في عمليّات الدفاع عنه، بالتالي كان تأثيره في المجهود الحربي ملموساً أكثر.
الحرب الباردة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تسابق ما يسمّى بالمعسكر الغربي والاتحاد السوفياتي على اصطياد الطواقم العلميّة الألمانية العاملة في مجال الصواريخ، بعد أن لفتت الجلبة التي أحدثها قصف بريطانيا أنظار الدول إلى خطر هذا النوع من السلاح.
بالتوازي، نجح مشروع “مانهاتن” في تطوير أول قنبلة ذرية ألقيَت على اليابان قبل نهاية الحرب، ما فتح آفاقاً جديدة حول إمكانيات هذا السلاح. وبذلك، لم تعد دقّة هذه الصواريخ التي تعدّ بالكيلومترات مشكلة، متى ما تم الانتقال إلى تسليحها بالرؤوس النووية، بدلاً من تلك التقليدية.
كانت حصة الأسد من نصيب الولايات المتحدة الأميركية التي تمكَّنت من نقل فون براون وطاقمه المكون من حوالى 500 عالم ومهندس وتقني إلى أراضيها، إذ تنقّلوا بين العديد من القواعد العسكريّة الأميركية، وانتهى معظمهم للعمل لدى الجيش الأميركي أو لدى وكالة الفضاء الأميركية “NASA”، كما حصل مع براون نفسه، الذي كان له يد في عمليّة إطلاق المسبار الأميركي نحو القمر في مهمّة “أبولو”.
شهدت تلك الحقبة تأخراً أميركياً أمام الاتحاد السوفياتي الذي نجح في إطلاق أول قمر صناعي نحو الفضاء باستخدام صاروخ “آر-7″، وبقيادة فريق العالم سيرغي كوروليف، وهو الصاروخ نفسه الذي يعد أول صاروخ عابر للقارات قادر على حمل رؤوس نووية.
سنتجنّب الحديث هنا عن الصواريخ النووية العابرة للقارات، لأنّ ذلك سيضاعف حجم هذا المقال عدة مرّات، وسنكتفي بالحديث عن الصواريخ الدقيقة التوجيه المتوسّطة والقصيرة المدى؛ هذه الصواريخ القادرة على حمل رؤوس تقليدية، إضافة إلى الرؤوس النووية.
بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بدأت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بالعمل على صواريخ مشابهة لـ”في 2” الألماني. وكان أول صاروخ سوفياتي بالستي، أي “آر-1” (R-1)، ترجمة حرفيّة له، فكان نسخة طبق الأصل عن صاروخ “في 2”. أما “آر- 2” المطوّر عنه، فلم يحمل أي تغييرات جذرية في التصميم، باستثناء زيادة الحجم والمدى إلى حوالى 600 كلم، فضلاً عن تحسّن طفيف في الدقة، بسبب استعمال توجيه لاسلكي إلى جانب نظام الملاحة بالقصور الذاتي (تكلّمنا عنه سابقاً).
في الزاوية الأخرى من العالم، قامت الولايات المتحدة بتصميم وصناعة صاروخ “PGM-11 Redstone”. الصاروخ صممه الفريق الألماني نفسه الذي تمّ نقله إلى الولايات المتحدة بعد الحرب. المميز في صاروخ “الريدستون” يتمثل في حواسيب جهاز التوجيه الخاصة الميكانيكية من تصميم شركة “فورد”، والتي منحته دقة دائرة (CEP) تساوي 300 متر، بعد أن كانت بالكيلومترات، في حين أن مدى الصاروخ نفسه لم يزد على 326 كلم.
ركز الاتحاد السوفياتي في تصاميمه على الصواريخ ذات السرعة الفوق صوتية في هذه الحقبة، إلا أن الولايات المتحدة لم تهمل التصاميم الما دون صوتية السرعة والمشابهة لـ”في-1″، إذ خرج إلى الضوء في بداية الخمسينيات صاروخ “الماتادور” المنزلق (MGM-1 Matador) والمنحدر من “Republic-Ford JB-2″، وهو نسخة معدّلة من “في-1”. كانت التعديلات الرئيسية في إضافة أنظمة توجيه أكثر فاعلية تعتمد التوجيه الأرضي عبر محطات راديو منصوبة، فضلاً عن استبدال محرّك الصاروخ الألماني العامل بالنبض بمحركات نفاثة حديثة ذات فاعليّة أكبر.
لاحقاً، طوّرت الولايات المتحدة صاروخ “CGM/MGM-13 Mace”، وهو صاروخ “كروز” تكتيكي يعتمد تصميم “الماتادور” نفسه، مع زيادة في المدى إلى حوالى ألف كيلومتر. بعد هذه التصاميم المستوحاة من سلسلة “Vergeltungswaffe”، ابتعدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تدريجياً عن تقليد هذه التصاميم، واتجهت إلى تصاميم تناسب الحاجات العسكرية في المديات المتوسّطة والقصيرة، أي ما بين 500 و5000 كلم، فدخلت سلسلة صواريخ “سكود” (SCUD)، وهي تسمية حلف الناتو للسلسلة، أو “آر-11″، ثم “17”، بالتسمية الروسية الشهيرة، الخدمة في العام 1959.
التغيير النوعي كان في قدرة المنظومة على الحركة وإطلاق المقذوفات من آلية متحركة، فضلاً عن بساطة التصميم مقارنة مع “آر-1″، وزيادة النوعية في سرعة الصواريخ، رغم أن دقة النماذج الأولى ظلت سيئة (3 كلم نسبة خطأ دائري).
ورغم أن النماذج اللاحقة من “سكود”، وهي “C” و”D”، تميزت بدقة أفضل تراوحت بمئات الأمتار، وبمدى وصل إلى 700 كلم، فإنها خرجت من دائرة اهتمام الجيش السوفياتي، بسبب تطوير منظومات صاروخية تفوقها دقّة وكفاءة، وهي على التوالي: “تي آر 1 تيمب” (TR-1)، و”توتشكا” الشهيرة، و”الأوكا” الأكثر قدرة (سنعود إليها لاحقاً).
توجّه الاتحاد السوفياتي إلى تصدير هذه المنظومات، فشكّلت أساساً لتطوير منظومات صاروخية مختلفة في الصين، وفي جمهورية كوريا الديمقراطية بشكل خاص. أقصد سلسلة “الهواسونغ” التي استورد الإيرانيون بعض نماذجها في التسعينيات. وقد منحت هذه النماذج الحياة للعديد من الصواريخ الإيرانية، مثل “شهاب” و”قيام” لاحقاً.
في المقابل، قامت الولايات بتصميم صواريخ “البرشينغ” ذات القدرة النووية، بنماذجها المختلفة 1 و2. تتميّز هذه الصّواريخ بوزن وكفاءة موازية للنماذج المتقدّمة من أسرة “سكود”، على الرغم من أنها دخلت الخدمة في ستينيات القرن الماضي.
الصاروخ الموازي لها في الجانب السوفياتي من ناحية الدقة والمدى كان “تي بي 1″، الذي وصل مداه إلى 800 كلم. لاحقاً، إضافة إلى سلسلة “البرشينغ” المذكورة سابقاً، والـ”لانس” (وهي صواريخ قصيرة المدى 120 كلم)، اتجه الأميركيون إلى تصميم صواريخ جوالة شديدة البطء مقارنة مع “البرشينغ” أو الصواريخ السوفياتية، ولكنها تتميز بالقدرة على الملاحة وإصابة الهدف بشكل دقيق، فضلاً عن امتلاكها بصمة رادارية منخفضة.
كانت ميزة صواريخ “mgm-109g” تتمثل في استفادتها من التطور الأميركي في مجال الحوسبة، الأمر الذي مكَّن الصاروخ من الحصول على مصدر آخر من المعلومات، إلى جانب أجهزة تصحيح المسار السلبية: القدرة على مسح التضاريس أو مطابقة كفاف التضاريس (tercom).
تتلخّص التقنية بقدرة الصاروخ على مسح التضاريس في المراحل الأخيرة من المسار، باستخدام جهاز راداري في حالتنا (أو بصري)، ومقارنة المعلومات المحصّلة مع تلك المخزنة فيه على شكل خريطة طوبوغرافية في ذاكرة الصاروخ، ليصبح الصاروخ “ذكياً”.
أضاف الأميركيون “برشينغ 2” والسوفيات “Temp-SM and OTR-23 Oka” على السواء هذه التقنية إلى صواريخهم، لتحسين دقّتها، وبالتالي فاعليّتها. لم يطل الوقت بالخصمين حتى أطلقا سباق تسلح في هذا المجال، انتهى مع معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة المدى أو معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى (INF).
كانت المشكلة الرئيسيّة تكمن في أنّ الطرفين تمكّنا من تطوير صواريخ كانت تعدّ “هجومية”، ذلك أنَّ وقت وصولها كان يتجاوز 10-15 دقيقة، بخلاف الصواريخ البعيدة المدى، ما قد يحرم الطرف الآخر من القدرة على الضربة الثانية، الأمر الذي نظر إليه الطرفان كعامل مزعزع للاستقرار في القارة الأوروبية ومقوّض للتوازن النووي أو حالة التدمير المؤكّد المتبادل (MAD)، التي أدت دوراً رئيسياً في ردع أحدهما عن الشروع في الهجوم.
قامت المعاهدة التي وقعها كلّ من الرئيس الأميركي رونالد ريغان والأمين العام السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بمنع تخزين الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و5000 كلم وتطويرها وصناعتها، والتي يتم إطلاقها من المنصات البريّة، مع التحفظ على تلك الجوية والبحرية. لذلك، كان يمكننا أن نرى بوارج الولايات المتحدة أثناء إطلاقها “التوماهوك” (2500 كلم مدى أقصى) من البحر المتوسّط، أو أن نرى روسيا أثناء إطلاقها “الكاليبر” (مدى مشابه) من بوارجها في بحر قزوين في السنوات السابقة.
سرعات ما فوق صوتية
حدّت المعاهدة المذكورة سابقاً من قدرة العملاقين على تطوير الصواريخ البالستية الأرضية الدقيقة المتوسطة والقصيرة، كما دفعتهما إلى إتلاف كل النماذج المذكورة سابقاً، إضافةً إلى الصاروخ السوفياتي “إر إس دي-10” المتوسط المدى، ما عدا “التوتشكا” في حالة أميركا و”اللانس” في حالة الولايات المتحدة.
ميزة صواريخ “التوتشكا”، كما أظهرت حرب اليمن (تعتمد على التوجيه بالقصور الذاتي)، تتمثل في أنها، بدقتها وسرعتها، لا تمثّل خطراً على أنظمة الدفاع ضد المقذوفات البالستية فحسب، بل قد تملك أيضاً تأثيراً مماثلاً للغارة الجوية، في حال تم إقرانها بجهد استخباراتيّ جيد، حتى باستخدام الرؤوس الانفجارية التقليدية.
تميّزت النماذج اللاحقة من صواريخ “mgm-109″ أو ما يُسمى بـ”التوماهوك” بالقدرة على الملاحة بشكل أكثر استقلالاً مع تطوّر تقنيات الحوسبة والتوجيه بالأقمار الصناعية (gps أو glonass الروسي أو BDS الصيني). وقد صار بالإمكان تحميل أكثر من هدف على متتبع الصاروخ وإعطاؤه حريّة تغيير الإحداثيات متى ما تغيّر مكان الهدف.
في المقلب الآخر، طوّر الروس صواريخ “الإسكندر” (9K720 Iskander)، التي تعتمد في نماذجها الأحدث على جميع تقنيات التوجيه المذكورة سابقاً، فيما تعتمد النماذج الأحدث على المسح البصري (DSMAC في إصدار M) أو على الرادارات (إصدار K). إنَّ التكامل بين تقنيات التوجيه منح الصاروخ نسبة خطأ دائري لا يتجاوز الأمتار، وسرعة تمكّنه من تجاوز أنظمة الدفاع الجوي المعروفة حالياً.
بالتزامن مع انتهاء الحرب الباردة، دخلت دول عديدة ميدان تطوير الصواريخ البالستية الدقيقة القصيرة المدى، كالصين وجمهورية كوريا الديمقراطية وإيران، وقامت كلّ منها في البداية بتقليد نماذج الصواريخ السوفياتية المستوردة أثناء الحرب الباردة، مروراً بتطويرها تدريجياً، وصولاً إلى صنع العديد من النماذج الأصيلة، كسلسلة “دونغ فانغ” في حالة الصين وعائلة “هواسونغ” في حالة كوريا.
تتميّز الصواريخ الحديثة منها بتقنيات توجيه متطوّرة عبر “جيروسكوبات” ليزرية دقيقة، مثل “الدونغ فانغ 15″، وبالقدرة على تغيير المسار البالستي للرأس الحربي المنفصل للصاروخ (MARV) بعد دخوله الغلاف الجوي. هذه المناورة تصعّب عملية اعتراض الصاروخ، نظراً إلى أنَّ المعترضات الأرضية تقوم بحساب المسار البالستي الثابت للهدف، وتسمح أيضاً بزيادة سرعة الرأس الحربي بشكل مفاجئ، عبر الانزلاق واستخدام الجاذبية كعامل تسارع.
في حالتي جمهورية كوريا الديمقراطية وجمهورية الصين الشعبية، تدخل هذه التقنيات ضمن إطار الردع النووي الاستراتيجي. أما في الحالة الإيرانية، فهناك ردع من نوع آخر، يتمثّل في الصواريخ ونوع المعركة التقليدي من حيث الذخائر المستخدمة، إذ تمكّنت إيران منذ فترة ليست طويلة من صناعة صواريخ تملك هذه المقدرة، مثل “قيام 1” و”ذو الفقار”، وتتميز بدقة عالية تقدّر بعشرات الأمتار.
إنَّ زيادة دقة الصواريخ البالستية المتوسطة والقصيرة المدى الدقيقة، وإدخال تكنولوجيا مركبة إعادة الدخول المناورة (MARV) في صناعتها، غيّرا هدفها الحربي منذ الحرب العالمية الثانية، فتحوّلت هذه الصواريخ تباعاً من سلاح “انتقام” (Vergeltungswaffe) يستهدف البنية التحتية المدنيّة بهدف تقويض معنويات سكّان دولة ما، إلى سلاح ردع ضمن استراتيجية وطنية للردع النووي، كما في الحرب الباردة، وصولاً إلى تحوّله إلى سلاح عسكري حربي تكتيكي قائم بذاته، قادرٍ على ضرب العمق الاستراتيجي للعدو والمرافق الحيوية التي تخدم جهده العسكري، متى ما توفّرت الكمية الكافية، والقيادة العسكرية القادرة، والجهد الاستخباراتي الفعال.
المثير للاهتمام في المسألة هو أن نقل تكنولوجيا هذه الصواريخ وطريقة تصنيعها أو مكوّناتها لم يعودا أمراً صعباً، كما كان سابقاً، والتطوّر القائم حالياً في منطقة الشرق الأوسط ينبئ بأن أدوات الحرب هذه سيكون لها دور أكبر في رسم معالم السياسة الخارجية وخرائط الصراع في المستقبل؛ فبعد أن قامت الجمهورية الإسلامية بتعلّم تقنيات تصنيع الصواريخ من جمهورية كوريا الديمقراطية، فضلاً عن تطوير صاروخ “سومر” الجوّال الحديث، بناء على نموذج صاروخ سوفياتي من طراز “kh-55” اشترته من أوكرانيا، ها هي تقوم بنقل تقنيات تصنيع/جمع هذه الصواريخ إلى اليمن، إذ أعلنت الولايات المتحدة أن صواريخ “بركان” اليمنية التي ضربت العمق السعوديّة تملك صفات عديدة مشابهة، بل قد تكون مطابقة لصاروخ “قيام 1” الإيراني.
يبدو أنَّ هذا النوع من السّلاح سيكون له دور في الحرب الكلاسيكية بين الدول، وسيكون أداة بيد القوات شبه العسكرية والجهات الفاعلة غير الحكومية في المنطقة، والتي ستستخدمه هذه المرّة في ضرب أهداف عسكريّة ضمن مسرح العمليّات الحربيّة، بهدف تحقيق النصر، لا “الانتقام” فحسب.