حسابات القوّة والمتغيّرات بين إيران والولايات المتّحدة بقلم/ عبدالجليل الزبيدي
بقلم/ عبدالجليل الزبيدي
بدأت مقالات وتغريدات لمسؤولين سابقين وكتّاب مقربين إلى مراكز القرار في عدد من الدول الخليجية بطرح تساؤلات حول وجهة الإدارة الأميركية المقبلة، وما إذا كانت تنوي اتخاذ خطوات استراتيجية تتمرّد على العلاقة التقليدية بين واشنطن ودول الخليج.
وذهب بعض الخليجيين إلى الربط بين المتغير الأميركي والعامل الإيراني، إذ تساءل أحدهم عما إذا بلغت إيران مستوى من التحدي يجعلها أقوى من الولايات المتحدة في المحيط الإقليمي، وذلك في ضوء ما حصلت عليه طهران من أوراق استراتيجية مؤثرة في السنوات العشر الأخيرة، بحيث دفعت إدارتي ترامب وبايدن إلى الركض خلفها لإقناعها بقبول التفاوض، وبأية صيغة كانت.
وإلى جانب هاجس المخاوف والتنافس التقليدي لدى بعض القيادات الخليجية تجاه إيران، تولَّد هاجس أكثر حدة لدى بعضهم، تمظهر في طرح احتمالات انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الخليج، على غرار انسحاب النفوذ البريطاني من المنطقة في بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم.
وحين يتساءل أحدهم: هل تعدّ إيران أقوى من أميركا؟ ينطوي هذا التساؤل في ظاهرهِ على قدر من البساطة إذا ما قرأنا حجم التأثير العالمي للولايات المتحدة واقتصادها العظيم، فضلاً عن تأثيرها في القرارات الدولية، وفي العشرات من الدول التي تدور في الفلك الغربي، ولكن هذا السؤال بات يطرح بقوة مع ما يشاهده العالم من لهاث أميركي للتفاوض مع طهران، ولو بالواسطة وتقديم العروض لها لتفكيك أزمة الاتفاق النووي.
كيف تكون إيران أقوى من أميركا؟!
دعونا نبدأ بتقصي الإجابة في الداخل الإيراني، إذ يقول رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية المشتركة، اللواء محمد حسين باقري، إنَّ الولايات المتحدة فقدت خيار العمل المسلّح ضد إيران، وإنها تبنَّت منذ سنوات أسلوب الحروب الناعمة وغير المباشرة، وذلك لعدم قدرتها على خوض الحرب المسلحة المباشرة، بحكم تاريخ طويل من الصمود وتفعيل مصادر القوة الإيرانية.
في هذا السياق، يواصل قائد حرس الثورة اللواء حسين سلامي، وهو رجل إيراني مثقّف وقارئ نهم للكتب ويتقن عدّة لغات، الحديث عن نهاية الحروب العسكرية في غرب آسيا، وأن الولايات المتحدة فقدت منهج التهديد بالرعب والترهيب بالقوة المسلّحة، وأن ترسانتها العسكرية خرجت من حساب العناصر الاستراتيجية إلى ميزان القوة بالنسبة إلى الشعوب الحرة.
ولكي لا يبالغ في القول، يشير الدكتور حسين سلامي إلى تجارب الصراع الأميركي مع شعوب وأنظمة منذ أكثر من نصف قرن، مثل كوريا الشمالية والصين وفنزويلا وكوبا وبوليفيا، إضافة إلى إيران، ويشرح كيف فشلت الولايات المتحدة، رغم أخطبوطات القوة الموجودة لديها، في إخضاع تلك الشعوب وهزيمتها.
أيضاً، ومن خلال تحليل سلسلة محاضرات هذا القائد العسكري الأخيرة، لاحظنا أن الإشارة إلى اسم الولايات المتحدة أو أميركا أو واشنطن، كخصم رئيسي، انخفضت في أحاديثه، فيما ارتفعت مقابلها نسبة الإشارة إلى ركائز الفوز والانتصار التي ستبني عليها إيران خلال الأعوام الأربعين التالية لعصر الثورة. ولعل أبرز مواقف السيد سلامي في المرحلة التالية هو دعوته إلى ثقافة ثورية وعقائدية وسياسية تحذف فيها أيّ إشارة إلى القوة الأميركية أو تأثير أميركا في العالم مستقبلاً.
إيران وأرقام القوة
صحيح أننا استعرضنا أحاديث قادة عسكريين إيرانيين ووجهات نظرهم، لكن قوّة إيران في الحقيقة ليست في تعاظم ترسانتها الحربية فحسب، وإنما أيضاً بما حققته من تقدم علمي وتكنولوجي وضعها في مصاف الدول المتقدمة، وإليكم الأرقام: إيران السابعة في تكنولوجيا النانو عالمياً، والسابعة في الصناعات النووية، والخامسة في صناعة المفاعلات. أنتجت 14 ألف بحث علمي في العلوم التطبيقية في غضون الأعوام الثلاثة الأخيرة، وهي الأولى أيضاً على مستوى آسيا والشرق الأوسط في نسبة النمو المعرفي في مراكز البحوث والجامعات، والسادسة عشرة في المزاوجة بين الاقتصاد والمعرفة. وقد أعادت تحديث أسلحتها، وأدخلت إليها التكنولوجيا الرقمية، وكان آخرها توصلها إلى تكنولوجيا توجيه الصواريخ وتغيير مساراتها وارتفاعاتها عبر أزرار دقيقة في مركز قيادة المعركة.
اقتصادياً، نشير اختصاراً إلى أنّ اعتماد إيران على الموارد النفطيّة تراجع من 65% في العام 2005 إلى 18% فقط العام الماضي، إذ بلغ إجمالي صادراتها من السلع غير البترولية حوالى 70 مليار دولار.
مؤشرات المتغيّر في المعادلات الإقليميّة
منذ أسابيع، تشهد منطقتنا اتصالات مكثّفة، ولا سيما بين الدول ذات الأوزان الكبيرة. ويتصدّر التقرب التركي من مصر قائمة هذه المتغيرات، وذلك في تحول ينطوي على استشعار مبكر من قبل القادة الأتراك لآفاق الوضع في الشرق الأوسط، وتحديداً في منطقة المشرق العربي.
إنَّ التحول التركي أعمق بكثير من أن ينظر إليه بوصفه وليد مصالح آنية أو مواقف استعراضية وشعاراتية يحبذها كثيراً الرئيس إردوغان، إذ يقول مقربون من الرئاسة التركية إنّ أهمية المتغير في الموقف التركي ودلالته تكمن في أنه يكشف عن إدراك لحقائق الوقائع، وعلى قادة أنقرة التراجع عن طموحات القيادة الإسلامية وإعادة بناء الإمبراطورية والانتقال إلى تجسير العلاقات والتنسيق مع دول المنطقة كأولوية قصوى استدعتها قراءة دقيقة لآفاق الوضع في المنطقة، في ظل تنامي التنافس والصراع بين الأقطاب العالمية.
وإضافةً إلى إبرام إيران اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين، سجلت العلاقات الثلاثية، التركية الروسية الإيرانية، نقلة كبيرة، وفتحت الآفاق نحو شراكات للقوى الكبيرة، نظراً إلى ضرورة التنسيق والتعاون الأمني والسياسي والاقتصادي. وهنا، نشير إلى خرق كلّ من موسكو وأنقرة حزم العقوبات الأميركية ضد طهران في مواضع عديدة، من دون أي رد فعل أميركي.
السعودية واستشعار المتغيّر الأميركيّ
تعتبر القيادة السّعودية الأكثر إدراكاً للمتغيّرات القادمة نحو المنطقة، في ضوء ما يعتقد أنّه تبدّل في الاهتمامات والأولويات الأميركية بدأ في عهد إدارة ترامب، ومن الواضح أنه سيتواصل في عهد إدارة الديمقراطيين للبيت الأبيض، فالسعودية واجهت خيبات من قبل الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي ركّز على بقائها ضعيفة، لكي تدفع أكثر لحساب أمنها ولمصلحة سياسات ولي العهد محمد بن سلمان وطموحاته.
كما أن إدارة بايدن باشرت في اليوم الأول بنوع من المحاسبة لتصرفات القادة السعوديين في مجالات حقوق الإنسان وملف الإرهاب، وأيضاً في الحرب على اليمن، فالمبادرة السعودية لوقف القتال فيه تعدّ مؤشراً واضحاً من قبل الأمير محمد بن سلمان إلى أن الولايات المتحدة ترغب في تهدئة الأزمات في الشرق الأوسط أو إنهائها، بما في ذلك الحرب في اليمن.
وسواء كان ذلك في إدارة ترامب أو بايدن، فقد ثبت فشل رهان القيادة السعودية على استدعاء الموقف الأميركي واستفزازه حيال مصادر الطاقة العالمية، بعد أن استهدفت قوات صنعاء منشآت نفطية وحقولاً بترولية سعودية استراتيجية، وتسببت بخفض إنتاج النفط وارتفاع أسعاره.
في الحقيقة، استشعرت القيادة السعودية آفاق التغير في الموقف الأميركي قبل نحو عامين على وجه التحديد، حين أبرمت سلسلة عقود تجارية وعسكرية ونووية مع فرنسا وروسيا والصين، كما أنَّها شرعت آنذاك بحوار غير رسمي مع إيران سنعرض تفاصيله في قراءة سنؤجّل الحديث عنها الآن.
العامل الصيني في تفكّك الزعامة الأميركيّة
في العدد الأخير من مجلة “فورين بوليسي” للعام 2000، كتبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس مقالاً ذكرت فيه أنَّ الاستراتيجية الأميركية خلال القرن الحادي والعشرين ستقوم على أساس ضمان أمن المصالح الأميركية على امتداد المسار الممتدّ من جنوب شرق آسيا وحلقة أورو-آسيا إلى أوروبا الشرقية.
وكثيراً ما فسّرت معاهد الدراسات الأميركية “حلقة أورو-آسيا” بمعنى عدائي، واعتبرت أن المقصود بها هو محيط النفوذ المتنامي لكل من الصين وروسيا في الجزء الشرقي والشمال الشرقي من الكرة الأرضية، وتمدده نحو قلب آسيا وشرق أوروبا.
الرئيس السابق دونالد ترامب كان أوَّل من حذر، وبجملة مباشرة وواضحة، من واقعية المنافسة الصينية، واتهم بكين بأنها تسعى إلى تفكيك الزعامة الأميركية الأحادية للعالم. حينها، وسع ترامب معركته الدبلوماسية والاقتصادية ضد بكين، وأصدر سلسلة قرارات كان هدفها وضع الحواجز أمام التمدد الصيني في الاقتصاد والسياسة العالمية، كما اضطر إلى مهادنة روسيا وتهدئة الرئيس فلاديمير بوتين، على أمل الاستفراد بالتنين الصيني.
وفي عهد الإدارة الديمقراطية الجديدة، أضحى التحدي الصيني والصيني الروسي أولوية قصوى. ومن اليوم الأول، لم يتوقف تدفّق المواقف الهجومية الأميركية ضد الصين تحديداً.
وبعد أن ظهر أن الرئيس بايدن “يجمع بين نصف أوباما ونصف ترامب” بشكل جلي، لم يتردّد في تبني السياسة نفسها التي اتّبعها الرئيس السابق ترامب ضد الصين، بل يسود اعتقاد بأن إدارته ستمنح المزيد من التركيز على الصين، مقابل تراجع الأولويات بشأن المصالح في مناطق أخرى، من بينها الشرق الأوسط.
وإذا كان الرئيس ترامب أعلن صراحة بدء الانسحاب من الشرق الأوسط، بما في ذلك سحب القوات العسكرية، يتوقع للإدارة الديمقراطية أن تكون أكثر جدية في هذا الملف، لجهة الانشغالات بالتحدي الحقيقي الصيني، وأيضاً الإيديولوجيا الديمقراطية الأميركية التي تقوم على أساس إدارة الأزمات، وليس وضع الحلول والمعالجات لها.
وفي الخاتمة، نجمل ما عرضناه من أسباب قوة إيران المتنامية مقابل الولايات المتحدة، إذ تبيَّن أنّ إيران، وبحكمتها، استثمرت عواملها الوطنية ونجاح ثورتها المعرفية، وأيضاً صمودها لأكثر من 4 عقود أمام أعدائها، ما أدى إلى إسقاط ما في أيدي الخصوم من أوراق، بما فيها ورقة القوة العسكرية والتآمر من الداخل.
وإلى جانب العوامل الوطنية، هبّت رياح التغيير العالمية والإقليمية لصالح سفن الجمهورية الإيرانية، فإضافة إلى صعود المارد الصيني، حصلت إيران على اعتراف من دول كبيرة، مثل روسيا ودول إقليمية، بأنها جزء ضروري في تأمين مصالح شعوب المنطقة واستقرارها، بعد دورها المشهود والسخي في التصدي لموجة الإرهاب التي ضربت المشرق العربي قبل 5 أعوام.
إننا نفهم من الإلحاح الأميركيّ على التهدئة مع إيران السرّ الكامن خلف خذلان الأميركيين لحلفائهم في الخليج، الّذين خيّبوا آمال الغرب في التصدي للنموذج الإيراني لأكثر من 4 عقود، ما يعني أن طهران تقترب من نيل اعتراف آخر، أميركي وغربيّ وعالميّ، بأنها قوّة حقيقيّة وطبيعيّة في المنطقة، وقوة عظمى في هذا الإقليم على الأقل.