هل انتهت “صفقة القرن” فعلاً؟ بقلم/ نزار عثمان
بقلم/ نزار عثمان
منذ أن أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عزمها على إطلاق ما سُمي بـ”صفقة القرن”، باتت الشغل الشاغل لدوائر السياسات وصناعها، سواء في العالم أو على مستوى الإقليم والمنطقة.
وقد راهن الكثير من “عرب التطبيع” على تجديد ترامب لولايته كي يتابع دعم هذه الصفقة ويمنحها المشروعية المطلوبة، بل أكثر من ذلك، فقد قُرِئت عمليات التطبيع الجديدة بين “إسرائيل” ودول عربية عدة وكأنها حجر الزاوية والركن المتين الذي تبني هذه الصفقة هيكلها عليه، وتتخذ طريقها إلى الحياة من خلاله، غير أن الرياح لم تجرِ كما تشتهي سفن ترامب ونتنياهو والتابعين من “التطبيعيين العرب”، إذ فشل ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية.
وهنا السؤال: هل انتهت “صفقة القرن” فعلاً مع وصول الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن إلى سدة السلطة في البيت الأبيض أم ستتخذ شكلاً آخر أقل فجاجة؟
قد تكون هذه السطور بحاجة إلى تسليط الضوء إلماحاً على نقاط تتمثل في الفائدة التي قد تعود على الولايات المتحدة بالنفع جراء “صفقة القرن” أو غيرها من الخطط والاستراتيجيات التي شهدتها منطقتنا منذ انتهاء الحرب الباردة، فما مخططات “الشرق الأوسط الجديد” أو “الفوضى الخلاقة” إلا عناوين تقضي، لو قُدّر لها أن تتحقق، بتثبيت سيطرة الكيان الصهيوني على المنطقة، وجعل بقية الدول أشبه بالأجرام التي تدور في فلكه.
نأتي هنا إلى ترامب، الذي لم ينل دعم اللوبي الصهيوني في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، ويسعى سعياً دؤوباً لنيل الرئاسة في الولاية الثانية، ونيل رضا هذا اللوبي، والتحدي الصيني الذي يشكل تهديداً للمصالح الأميركية. وقد أعلن باراك أوباما قبل ترامب عن خطورة هذا التحدي وضرورة الجدية في مواجهته.
كلّ هذه الأمور وغيرها شكلت محوراً لصبّ الاهتمام على إنهاء حالة العداء بين العرب و”إسرائيل”، والتفرغ لشؤون وقضايا الشرق الأدنى والبر الصيني، عبر ما شهدناه من اتفاقيات تطبيعية في الآونة الأخيرة من عمر ولاية ترامب.
السياق العام لمسيرة الرؤساء الأميركيين، خالفها ترامب بالكثير من السلوكيات والمواقف، إذ كان الرؤساء الذين سبقوه يمنحون بعض العرب التابعين لأميركا والمنفذين لرغباتها ورقة التوت أو نوعاً من مشجب يعلقون عليه ما فقدوه من ماء وجه، غير أن ترامب عمد بطريقة فظة إلى دعم الكيان الصهيوني، غير عابئ البتة بمواقف حلفائه العرب. وكان من أول الأمور المزدانة بالدعم غير المتناهي “لإسرائيل” ضم الجولان المحتل، ونقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، فضلاً عن اتفاقيات التطبيع التي رعاها بين الكيان الصهيوني ودول عربية أخرى.
يقرأ البعض مواقف ترامب بعنوان السعي لحصد دعم اللوبي الصهيوني في عمله للفوز بولاية ثانية، إضافة إلى عمله على استرضاء الدولة العميقة، من خلال صفقات بيع السلاح للسعودية والإمارات بمليارات الدولارات. وعليه، يطرح السؤال: هل مثلت “صفقة القرن” محوراً ضم ترامب ونتنياهو ومحمداً بن سلمان. وعليه، انتهت بخسارة ترامب للرئاسة، إضافة إلى الأزمات الداخلية التي يعيشها كل من نتنياهو ومحمد بن سلمان أو أن ما يجري على الأرض يعكس بطريقة أو بأخرى دعماً خفياً من الدولة العميقة لهذه الصفقة، ولكن ربما بصيغة أقل فجاجة، يتم تمرير معظم بنودها بشكل غير فاقع، بما يخدم المصلحتين الأميركية والصهيونية؟
من المعلوم في هذا السياق أن “صفقة القرن” وجدت معارضة من قبل السلطة الفلسطينية والفصائل على اختلافها، وقد لا نبالغ في القول إن واحدة من آثارها تتمثل باتجاه الدفع إلى الوحدة ولمّ الشمل، كما وصل الأمر ببعض الأنظمة المطبعة إلى رفض هذه الصفقة، كالأردن على سبيل المثال.
لكن، وبعد أن تولى جو بايدن السلطة في البيت الأبيض، أين محل “صفقة القرن” في هذا الإطار؟ وهل انتهت فعلاً بانتهاء ولاية ترامب؟ وبالتالي هل التصدعات والأزمات التي يمرّ بها نتنياهو ومحمد بن سلمان تمكنهما من تبني هذه الصفقة وطرحها مجدداً؟
في الواقع، يبدو أن “صفقة القرن” بصيغتها التي أعلن عنها منذ أشهر قبل انتهاء ولاية ترامب باتت منحسرة الدور، غير أن طروحات أخرى قد توحي أو تنذر، بأسلوب أو آخر، بأنها ما زالت قيد التنفيذ، إنما بطريقة غير مباشرة أو مواربة، وبطريقة أكثر حدة ووقاحة، وذلك عبر تجميلها وإخراجها بنمط غير مستفزّ.
ومن هذه الطروحات، يظهر أمامنا الشأن الفلسطيني، إذ إنَّ أوضاع الفلسطينيين لم تتغير، فما زال الصهاينة يسيطرون على مساحات كبيرة من الضفة الغربية، وما زالت عمليات الهدم مستمرة، سواء في القدس المحتلة أو في نواحٍ أخرى من الضفة، على الرغم من عدة انتقادات دولية، من بينها انتقادات صادرة عن الاتحاد الأوروبي، لكنها لم تسفر عن أية نتيجة، بل أدارت “إسرائيل” لها أذنها الطرشاء.
وإذا كان الإعلان عن “صفقة القرن” أدى دوراً في دعوة السلطة والفصائل الفلسطينية إلى عقد مؤتمرات تمخضت عن أمور كثيرة، من بينها الإعلان عن انتخابات فلسطينية، فإن أجواء الحديث عن “صفقة القرن”، وتوجيه النظر عنها باعتبارها ماتت، مع ما تشهده الضفة من حراك ومواجهات متفرقة مع العدو الصهيوني، قد يؤدي بطريقة أو بأخرى دوراً سلبياً ربما في إضعاف حالة التماسك الفلسطيني، والاتجاه نحو العمل المقاوم المسلح، وقد يفضي إلى نتائج تخدم المصالح الضيقة لهذا الفصيل أو ذاك، لظن بعضهم أنَّ الخطر الذي تمثله “صفقة القرن” زال بزوالها، مع التركيز على ما قد يبدو موت “صفقة القرن” بدلالتها وصيغتها التي عبر عنها ترامب وشركاؤه، لكن مفاعيلها على أرض الواقع قد تكون في حالة من التحقق.
بالنسبة إلى “إسرائيل”، وعلى الرغم من الانقسامات الحالية في “المجتمع” الصهيوني، والتي تؤدي معارضة نتنياهو وسياساته وكورونا وتداعياتها دوراً أساسياً فيها، فضلاً عن الاقتصاد والعنصرية، فإن نتنياهو الذي يشغل أحد ركائز “صفقة القرن” يبدو فاقداً للكيمياء التي يمكن أن تربطه بالرئيس الأميركي بايدن، على الرغم من مشاكله الداخلية وما سيترتب من نتائج بعد الانتخابات “الإسرائيلية” الأخيرة.
هنا، يكون السؤال: هل يمثل نتنياهو حقاً قطب الرحى في “صفقة القرن” – أو سمِّها ما شئت – أو تستطيع “إسرائيل” الاستمرار في هدم منازل الفلسطينيين، وحجز حرياتهم والاعتداء على أملاكهم، سعياً لإيجاد طريقة تخلصها من الخطر الديموغرافي الذي يمثله الفلسطينيون في الضفة وغزة، فضلاً عن مطامعها بالثروة المائية التي تغتني فيها الضفة، هل بإمكان “إسرائيل” الاستمرار في ذلك مع اختلاف التسميات – “صفقة قرن” أو غيرها – من دون نتنياهو كما معه؟ نعم، تستطيع.
وفي ما لم يعد بالإمكان الإطالة بهذه السطور، قد يبدو الكيان الصهيوني – مع نتنياهو أو من دونه – محوراً لاهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، وبالتالي إن اتفاقيات التطبيع و”صفقة القرن” وغيرها تمثل حجر زاوية في مشروع بعيد المدى تساهم فيه “إسرائيل” بأداء دور الموجه والمسيطر والفاعل الأول في المنطقة، وعلى الساحل الشرقي للمتوسط، تنفيذاً أو على الأقل توافقاً مع سياسات الولايات المتحدة واستراتيجياتها، بمواجهة الأقطاب الكبرى البارزة في آسيا، مانحة بذلك الولايات المتحدة مساحة من التفرغ لمواجهة الأخطار الصينية في الشرق الأدنى.
بهذا، يبدو أن “صفقة القرن” خبت على مستوى الإعلام بنسبة كبيرة، وفي دوائر القرار بنسبة أقل، لكنها لم تمت، وربما العمل جارٍ على إخراج صيغة أقل صدى وفجاجة لرؤوس حلفاء واشنطن ممن يتحسَّسون من نتائج “صفقة القرن” وخطط عملها. وعليه، إن “صفقة القرن”، أو مهما كان مسماها الجديد، تخدم قبل كل شيء مصلحة الدولة العميقة في الولايات المتحدة، كما تساهم في طرح الكيان الصهيوني ككيان ذي تأثير بالغ يرفعه، كما ترغب واشنطن، إلى مصاف الدول الإقليمية العظمى أو ربما أكثر من ذلك. ومن الشواهد السريعة على هذا ما جرى ويجري على بعض الدول المطبعة، مثل السودان والأردن ومصر وغيرها.