الاستعدادات الوراثيَّة لفيروس كورونا بقلم/ وجيه ريان
بقلم/ وجيه ريان
لا يعاني المصابون بفيروس “كوفيد – 19” الأعراض نفسها. ثمة اختلاف في شدّة الإصابة بين شخص وآخر. لا يظهر هذا الاختلاف في مجموعات بشرية متباينة في العمر وفي خصائص أخرى فحسب، كالإصابة ببعض الأمراض، بل بين أفراد ينتمون إلى مجموعات متشابهة أيضاً. بعضهم لا تظهر عليه أعراض الوباء قط أو يظهر بعضها، بينما يُصاب آخرون بأعراض شديدة الخطورة ربما تؤدي إلى الوفاة.
لا شك في أن التركيبة الجينية للإنسان تؤدي دورها في هذا الشأن، وتؤثر في تفاقم أعراض الفيروس، فهناك استعداد وراثي مختلف من شخص إلى آخر، ليس في القدرة على مقاومة الفيروس فحسب، كما سيُبين هذا المقال، بل ربما أيضاً في الاستجابة للقاحات والشعور بأعراضها الجانبية.
في العام 2017، اكتشف العالم رالف باريك من جامعة نورث كارولينا في تشابل في الولايات المتحدة أن عدم تفعيل جين “2 Tykam” لدى الفئران يؤدي إلى إصابتها بفيروس “كورونا – سارس”. عادةً ما يُنتج هذا الجين بروتيناً خاصاً يؤدي إلى تنشيط مستقبلات خلوية في آليات المناعة الفطرية، حيث تقوم الخلايا المعنية بتنفيذ عملية البلعمة.
في نهاية شهر آذار/مارس المنصرم، قام فريق الباحث في علم الفيروسات، الدكتور وانغ بنغ، من جامعة “العلوم والتكنولوجيا” الصينية في شين زهين بدراسة تأثير المضادات الحيويّة لفصائل الدّم لدى المصابين بـ”كوفيد – 19″، ففصيلة الدم “O” التي تحتوي على المضادين الحيويين “A” و”B” أكثر حماية ضد الفيروس ممن يملكون فصيلة الدم “A”، والذين لا يملكون بطبيعة الحال المضاد الحيوي “A”، وما تزال الدراسات مستمرة.
مؤخراً، بيَّن الفريق العلمي بإشراف العالم ريد تومسون من جامعة “العلوم والصحة” في أوريغون – بورتلاند في الولايات المتحدة الأميركية وجود علاقة بين بعض الفصائل المحمولة على خلايا الدم البيضاء، والتي تسمى “HLA”، وصعوبة المرض. وقد تؤدي في بعض الحالات إلى الوفاة.
وبيَّنت عدّة دراسات حديثة، من مثل الدراسات التي أجرتها جامعة “غنت” البلجيكية تحت إشراف الأستاذ مارك دبيزر، أنَّ وجود بعض النوعيات من جينات المُستقبل الفيروسي المُسبب لـ”كوفيد – 19″ يؤثر في سرعة انتشار الوباء، وخصوصاً في أوروبا وعدّة مناطق أخرى في العالم، فوجود الجين “ACE 1D” يُقلل من محصول الإنتاج البروتيني لجين “2ACE”، ما يؤدي إلى تقليل المستقبلات الفيروسية على سطح الخلية البشرية، وهو ما يقلّل بدوره شدّة العدوى.
وفي هذا السياق، بيَّن الباحثان هوغو زيبرغ واسفنتا بايبو وجود منطقة جينومية موروثة من “الإنسان النياندرتال”، تحمي حاملها من الإصابة الشديدة بوباء “كوفيد – 19”. وقد نُشرت أعمالهما في مجلة “نيتشر”، العدد 587، في شهر كانون الأول/ديسمبر 2020، إذ يحمل “الكروموزوم 12” مجموعة الجينات التي تُدعى “OAS” 1,2,3، والتي تُشفر البروتينات الأنزيمية التي تُحطم الشريط النووي الريبي للفيروس الكوروني وتمنع انتشاره.
ويوجد في “الكروموزوم 19″، قرب الجين الذي يشفر إلى بروتين “تيروسين كناز 2″، الجين الذي يُعطي مادة “DPP9″، وهي تحدّ من شدّة الالتهابات الناتجة من الفيروس. وفي “الكروموزوم 21″، يوجد الجين “IFNAR 2″، وهو يشفر بروتين “مُستقبل الأنترفيرون 2”.
وبيَّنت دراسات إحصائية أن الزيادة في إنتاج “التيروزين كيناز 2” مع هبوط في كمية مستقبل “الأنترفيرون 2″، يؤديان غالباً إلى الوفاة. كما أن ازدياد الاستقبال الكيماوي لخلايا “المونوسايت والمايكروفاج” الرئوية يؤدي إلى صعوبة التخلص من الوباء.
وفي هذا الإطار، تبيَّن أن مجموعة من الجينات بطول 50 ألف وحدة نووية موجودة في “الكروموزوم 3” لها صلة قوية بتفاقم الأعراض الجانبية. هذه الجينات موروثة أيضاً من “الإنسان النياندرتال”، وينقلها الكثير من البشر في شرق آسيا، يقاربون 16% من سكان أوروبا ونسبة قليلة من سكان شمال أفريقيا.
وأخيراً، ليس هناك معلومات تبيّن أنَّ الجلطات التي تحدث بعد اللقاح، وخصوصاً لقاح “أسترازينيكا”، والتي تُسمى “نقص الصفيحات المناعية الناتجة من اللقاح”، لها جذور وراثية أو تحدث نتيجة أسباب أخرى.
في هذه الحالة التي نادراً ما تحصل (1/100000 ملقّح)، يحدث تنشيط غير طبيعي لصفائح الدم – التي تشارك عادة في إغلاق الجرح – وفي أماكن غير ضرورية، ما يؤدي إلى تكوين الكتلة التي تسبب الانسداد أو ما يسمى “الجلطة”. ورغم هذه الأمور الصّعبة، ترى الوكالة الأوروبية للأدوية أنَّ إيجابيات تلقي لقاح أسترازينيكا تتغلب على سلبياته. ولذلك، لم تمنع استعماله.
أود أن أختم مقالي هذا بما أتوقعه في المستقبل القريب بأن الدراسات الجينومية لمن أصيبوا بفيروس كورونا، ستُمكّن العلماء من تحليل الحمض النووي لشخص ما، لمعرفة إذا كان لديه الاستعداد الوراثي أو القابلية ليصاب بحالة وباء صعبة أو إذا كان قادراً على مقاومة الفيروس منذ البداية. وليس من المستحيل أيضاً أن تبدأ بعض الشركات بإنتاج الأدوية المعتمدة على أسس وراثية.