مقالات

لافتة الجوع.. ومستقبل الجنوب بقلم/ ناصر توفيق

بقلم/ ناصر توفيق

هي فعلاً المرة الأولى، التي لم يتردد فيها حكّامنا، قبل أن يحكموا الخناق على أفقر شعب في أقصى جنوب جزيرة النفط لتدمير ما تبقى من إمكانية العيش الذي لم يعد كريماً، إلى درجة أن مسؤولاً دولياً ضرب يديه كفاً بكف وهو يقول: “من أين سيأكل اليمنيون خلال الأشهر القادمة”؟

ما كان يمكن المبالغة في السفه وإهدار الأموال العامة، لولا سوء اختيار الممسكين بسلطة الواقع من غير ذوي الكفاءات الإدارية والفنية، واسترخاء أهل القمّة في الشتات اللذيذ، بينما أصحاب الأيادي النظيفة في الداخل. إنه أسوأ نظام فاسد في التاريخ الإنساني، أدمن فيه الساسة الكذب، واشتغلوا بالتجارة وتلاعبوا بأسعار العملة، وشددوا الحبال على اعناق خيول الحكومة (المتقاعدين)، حتى باتوا بانتظار المساواة في أي زيادة قادمة أو رصاصة الرحمة. لقد “جعنا يوم شبعت الكلاب” كما قال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم.

يصعقك بروز عظام الجوعى، وأعداد المتسولين الحفاة من أطفال (يشيبون عند الفجر) كما في الرائعة القصصية للكاتب محمد عبدالولي “شيء أسمه الحنين”، ونساء في جولات المرور وأرصفة الشوارع وبيوت الرحمن. وينخلع القلب من التهافت الكثيف على براميل القمامة ساعة الظهر بما يجسد مشهداً من مشاهد البؤس المرئي الحاد في مدنٍ عديدة.

ولذلك هبّت المظاهرات في كل محافظات الجنوب الذي ينتج ثلثي الثروة، ولا يستفيد منها شيئاً. سار الناس في سيئون في مظاهرة سلمية لا يحملون إلا أحلامهم بالكف عن سياسة الإفقار و التجويع، لتواجههم قوات من الجيش تابعة لحزب “الإصلاح” (المنطقة الأولى)، بالرصاص الحي، أصابت أربعة، اثنان منهم في حالة حرجه. ثم أدّعت قيادة المنطقة أن المتظاهرين اقتحموا مبنى المجمع الحكومي، ونهبوا محتوياته! متى كان الحضارم من رجال الفيد؟! وهم الذين حافظوا على قصر السلطان ومتحف سيئون مثالاً للزهو الحضاري.

تراهن حكومة المناصفة على هدوء الشارع وثقافة الشكوى، واستكانة الجوعى بمرور الوقت. إنه ضرب من الإيهام بالثبات، وإيحاء الزمن بسكون الواقع، فلنجلي النظر في وقائع التاريخ.

في يناير 1977م ارتفع سعر الرغيف قرش فقط فأنتفض الشعب المصري هائجاً ومردداً: “عض قلبي ولا تعض رغيفي”، كما اقتحم منازل الوزراء والمسؤولين ومراكز الشرطة، ورأى بطل العبور قوس النصر يحترق أمام عينيه، ليعدل الرئيس السادات، تحت هذا الضغط، عن الفكرة الشيطانية. وفي منتصف الثمانينيات من القرن الفائت اشتعلت تونس العاصمة بإطارات السيارات و هياج الجوعى وانفلات الأمن. وعز على الحبيب بو رقيبه، رائد تونس الحديثة (كفاح العمر) و(رق الحبيب) حتى كاد يسجد.

في باريس يوليو 1789م طلّت ماريا انطوانيت من شرفة القصر لتهزأ بالعاملين وتسخر من الباحثين عن قطعة خبز، دالة إياهم بالبسكويت. لتنتشر نيران الثورة في كل فرنسا، وأطاحت بالملك، وسلطة الكنيسة (الاكليريك) والنبلاء. وفاقت الثورة توقعات فلاسفة مثل ديدرو، ومونتيسكو، وروسو الذي مات في منفاه بسويسرا، قبل أن يرى نور الثورة التي غيرت مجرى الأحداث في العالم.

أما بعد.. فإن مجلس الإنقاذ الوطني اليمني الجنوبي، الذي ولد من رحم “إعلان المهرة التاريخي”، يطرح مشروع الالتئام في مؤتمر جنوبي – جنوبي لكافة المكونات السياسية، وعلى قاعدة التمثيل المتساوي بين المحافظات السبع، والاتفاق على هيئة لجنة تضمن حق المحافظات في المساواة في لجنة مفاوضات عن مصير الجنوب مع كل الفرقاء من اللاعبين الرئيسين على رقعة الشطرنج في الشمال والجنوب. واستعادة الأموال المنهوبة من ثروات الجنوب (النفط والغاز والأسماك في بحر العرب) من قبل لصوص الأوطان، كذلك الكشف عن أرصدتهم وودائعهم البنكية في أوروبا، وأملاكهم العقارية في القاهرة وإسطنبول، التي بلغت جميعها مليارات الدولارات.

وكما أفترش الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، الحائز على جائزة نوبل للسلام أهم شوارع لندن، في العام 1945م، وأوقف حركة المرور وفي يده لافتة (أوقفوا الحرب)؛ فعلت كذلك فتاة المكلا وافترشت الاسفلت مع أطفالها الأربعة تحمل لافتة (لأننا جائعون)، وكأن لسان حالها يردد بيت الشاعر دعبل الخزاعي: “ولقد جعت حتى حل لي أكل عيالي”، في تماثل مدهش ومكثف بفضاء إنساني فسيح.

ومع ذلك فإن مسؤولينا المتأنقون بملابسهم عبر الفضائيات، جثث لا تخجل، وتنطق بالإطار الذهبي لحكمة الشرق الأثيرة “تموت الحرة.. ولا تأكل بثدييها”، لا أنبت الله لكم لحية.
نحن تحت خط الفقر، وفي الجنوب حصرياً.. إنها أشد الأوقات سوداويةً، تلك التي تسبق الفجر (أليس الصبح بقريب).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى