بقلم/ عمار الأشول
من يشاهدها للوهلة الأولى يشعر أنه أمام متحف مفتوح، وما إن يقترب منها حتى يتهيأ له بأن الزمن قد عاد به ثلاثة آلاف عام، ليشاهد كيف كانت عظَمة الدولة الحمْيَرية وتجلياتها من خلال هذه القرية، وحينما تصل به قدماه إلى بين أروقتها يجزم أنه يتنقّل في مفاصل مملكة لا في شوارع قرية.
فمن خلال قصورها الشاهقة، وأحجارها الفريدة والمتميزة، كذلك الأشكال والتصميمات الهندسية النموذجية، والمواقع الإستراتيجية التي بُنيت عليها، بالإضافة إلى النقوش والخطوط الحمْيَريّة التي تتزين بها، يؤمن من يراها أنه يعيش في عصر التبابعة، وأنه في حضرة أسعد الكامل، لكنها رغم جمالها الباذخ، لاتزال حتى اللحظة، بعيدة عن مرأى ومسمع منظمة اليونسكو، التي لو اكتشفتها، لما تردّدت لحظة واحدة في تصنيفها ضمن مواقع التراث العالمي.
القصور
هذه القصور الشاهقة ليست في أوروبا أو أمريكا، فقد تم بنائها أيام كانت أوروبا عائمة وسط الظلام، يوم كان البيت الأبيض فكرة تائهة في جينات المهندس جيمس هوبن، في حين كان قصر الاليزيه حلم جميل يراود الكونت هنري لويس، أما برج إيفل فقد كان قالباً واحدا قبل أن يقرر غوستاف إيفل تذويبه في مصنع الحديد والصلب وتحويله إلى رمز يمثل فرنسا، حتى قصر الشتاء في ذلك الوقت، كان مجرد مضغة في أحشاء روسيا، ولم يشهد التاريخ ميلاده بعد.
قصور شامخة تشبه كثيراً شموخ من شيّدوها، ولا تختلف عنهم أيضاً في المصير المشترك، فبعد أن بنوها غادروها، وها هي اليوم تتبعهم حجراً حجر، لنجد بعضاً منها عائم بين الاضرحة.
هل هي علاقة مقدّسة بين البشر والحجر أم أن أمراً ما إلهياً رتّب تفاصيل اللقاء وحدد شكل النهاية، وبما أن للزمن دورته وقانونه في حتمية الفناء، أليس للأجيال المتعاقبة دستورها الخاص في تجديد الحياة، وترميم ما دمره الزمن بفعل دوران عقارب الساعة!
بُنيتْ هذه القصور التاريخية في قرية بيت الأشول التي تقع في محافظة إب جنوب العاصمة صنعاء 150 كم، وقد سُمّيت بهذا الإسم نسبة إلى أسرة آل الأشول، التي تعتبر أكبر الأسر من حيث عدد السكان مقارنة بالأسر والعائلات الأخرى التي تتشارك مع آل الأشول الماء والهواء والانتماء وسحر الطبيعة.
ما يميز هذه القرية ويمنحها التفرّد والجمال، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الرهيب، هي القصور التاريخية التي شيّدها الأجداد وأقحم الدهر نفسه بالصراع معها، ورغم هذا الصراع القديم الجديد، إلا أن الكثير من هذه القصور لا تزال شامخة، غير مكترثة بإنتهاء عمرها الافتراضي الذي حدده المهندسون الجدد، وكأنها تريد أن تخبر من يراها بأن مجداً قد بناها بعد أن دمرها العصر وانتصر عليها بالجولة الأولى في مسقط رأسها بمدينة ظفار التاريخية.
يعود عمر بعض هذه القصور إلى أكثر من أربعمائة عام، وأحجارها ضاربة في عمق التاريخ وليست وليدة الأمس القريب، حيث أنه تم نقلها من مدينة ظفار، تلك المدينة التي كانت في يوماً ما عاصمة الدولة الحمْيَريّة، فبعد أن دفنها الدهر وابتلعها الزمن مع ملوك حمْيَر، قرر آل الأشول إعادة بنائها بهذا الشكل وبهذه الهيبة، لتصبح طاغية بحضورها على الزمان والمكان.
على الأطلال، سور ضخم ابتلعه الوقت، كان يحتضن هذه القصور ويضمها بين جناحيه، وكان له أبواب مُحكمات تُفتح في النهار ويتم اغلاقها بعد الغروب، هي: باب الداير، باب المعاصر، باب المخلولة، وباب المقلوبة، ولكلٌ من هذه الدور والقصور اسم يُعرف به، منها على سبيل المثال: دار الرجبات، قلعة القاهرة ، ودار المكتب، وبعضها سُمّي بإسم من بناها وشيدها، كـ دار الشيخ حزام، دار الشيخ ناجي علي، دار الشيخ علي عبدالله وغيرها، والبعض الآخر سُمّي بأسماء الورثة مثلاً: دار بني حسان، دار بني حسين، دار بني علي ناجي، دار بني مثنّى، دار بني عبدالله صالح، دار بني عبدالعزيز.. الخ. ونظراً للتوسع العمراني الذي حصل داخل القرية القديمة، تم بناء أكثر من قصر خارج أسوارها، ومن أشهرها: قصر الشيخ قايد عبدالله، ويُسمّى دار أو قصر الرجبات، ويعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، وقد بُني في مكان أقل ما يوصف بالإستراتيجي، يحيط به سور واسع ومرتفع تم تصميمه بطريقة عسكرية، حيث يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار تعلوه أحجار كبيرة متراصة وُضعت دون بناء وربط، نصفها فيه ونصفها الآخر بارز إلى الخارج بحيث لا أحد يفكر بالإقتراب منه أو التسلّق عليه، أيضاً تتخلل هذا السور أربع نوَبْ للحراسة وغرف للحرس، ومن الداخل يوجد عدة مبان من بينها سجن واسطبل للخيول.
كل شيء في هذه القصور الجميلة جميلٌ ومختلف، حتى أبوابها الخشبية ضخمة وملفته، ويوجد في كل بوابة مطرقتان، مطرقة كبيرة خاصة بالرجال، ومطرقة صغيرة خاصة بالنساء، بحيث يصدر من كلٌ منها صوت مختلف يميز الرجل عن المرأة ويحدد من الطارق، إن كان رجلٌ يرد عليه ويفتح له رجلٌ مثله، وإن كانت امرأة تفتح لها مثيلاتها من النساء، كما أنه يوجد في هذه البوابات أبيات شعرية تم نحتها بصورة عالية من الدقة، وهي تصف الدار وصاحب الدار.
ما سبق ذكره ما هو إلا تصوير تقريبي لهذه القصور من الخارج، أما من الداخل فالأمر يبدو أكثر دهشة، حيث أن غالبيتها بُنيت من الداخل بنفس نوع الأحجار التي في الخارج، وهذا بحد ذاته يُعتبر بذخ في الجمال والفن المعماري، فالأحجار التي تكسي الصالات والجداريات وتُزين العقود والسلالم في كل قصر كان بإمكانها أن تكفي لبناء قصر آخر أو قلعة فخمة.
رحل ملوك حمْيَر ودُفنت قصورهم معهم، فهل ننتظر اليوم الذي نجد فيه هذه القصور العظيمة قد عانقت التراب متتبعة أثر من أعاد بنائها وشيّد أركانها في قرية بيت الأشول، أم أن للقدر حكايته الخاصة معها، وحكمته، بأن يكتب لها عمراً جديداً، دون أن يلغي شكلها القديم أو يشوه وجهها الكلاسيكي بمكياج الحداثة.
السدود:
يوجد ثلاثة سدود، وهي سد القرية، والسد الأوسط، والعالي.
تم إنشاء السدود بفترات زمنية مختلفة، وقد أعتمد في بناؤها على الأحجار ومادة القظاظ، حيث تم بناء سد القرية في عهد الشيخ ناصر بن صالح الأشول، ولا يوجد في المراجع ما يشير إلى تاريخ بنائه، لكنه قطعاً أقدم من السد الأوسط والعالي، أما السد الأوسط فقد بناه الشيخ علي بن محسن بن أحمد الأشول، عام 1284 هـ، وتاريخه مدوّن على جداره من الجهة الشرقية بأبيات شعرية تؤرّخ لبنائه وتشييده، تقول الأبيات:
“يا حبّذا من محسنة …
أضحت محاسنها تطيب
عذب العيون وجارية …
بعناية الشيخ النجيب
علي الذي يُجزا غداً …
دار النعيم مع الحبيب
أبشر تجد تاريخه …
فتحٌ لجنّات قريب”.
وتترجم هذه الأبيات من خلال أبجد هوز حطي كلمن …الخ، حيث تعطي كل حرف رقم، تبدأ من “1” إلى “10” بعد العشرة عشرون، ثلاثون، أربعون، إلى المائة، بعدها مائتان، ثلاث، أربع، إلى الألف، حتى تعطي التاريخ الذي تم به بناء السد.
في حين تم بناء السد العالي في عهد الشيخ محمد حزام الأشول، بعد ثورة سبتمبر الخالدة، تحديداً في العام 1388 هـ – الموافق 1968م.
المساجد:
توجد أربعة مساجد تاريخية في قرية بيت الأشول وهي:
1-مسجد القرية، أو ما يعرف بمسجد الحاج علي، وهو أقدم مساجد القرية، بناه الشيخ ناصر بن صالح الأشول، سنة 1155 هـ، ثم وسّعه من بعده أبناؤه الشيخ أحمد بن ناصر، وأخيه الشيخ مثنّى بن ناصر، سنة 1199هـ، وهو بذلك يُعتبر أقدم مسجد في القرية من بين المساجد القائمة، ومن أشهر أئمته العالم الزاهد محمد الحاج علي.
2-يأتي بعده من حيث تاريخ الإنشاء مسجد القلعة، وقد بناه الشيخ محسن بن أحمد الأشول، عام 1230هـ.
3- أتى بعده مسجد التبركة، وهو ما يعرف اليوم باسم الجامع الكبير، وقد تم بنائه بمبادرة كريمة من الشيخ علي محسن بن أحمد الأشول، عام 1277هـ، هذا وقد قام بتوسعته الشيخ محمد حزام الأشول، عام 1377هـ، وكانت آخر توسعة له عام 1413هـ على يد الشيخ علي محسن علي الأشول، هذا وقد بُنيت جميع المساجد المذكورة بالأحجار الحمْيَريّة ومادة القظاظ.
الساقية:
إن لم تكن خيال فهي معجزة، والخيال غير وارد في واقعٍ مُعاش وملموس، إذن هي معجزة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ثمانية عشر عاماً من العمل الدؤوب والجاد استمر إنشاء هذه الساقية وبناؤها حتى أنه يقال بأن عمرها يساوي عمر مُحارب. وبدون دراسات هندسية أو أجهزة مسح تم تحقيق هذا الإنجاز الضخم والعملاق، ومع ذلك فإن العشوائية غائبة والتخبط غير موجود، ونسبة النجاح كانت عالية ومُبهرة.
في أعالي جبل المنصورة، ذلك الجبل الأشم المطل على قرية بيت الأشول والمهيمن على كل الجبال المحيطة، وضع الله رزقه بأن أكرم عباده بعين ماء لا تجف ولا تنضب، فما كان من آل الأشول إلا أن قاموا بتسخير الطبيعة لصالحهم بعد أن أعْيتهم الطريق وأرهقتهم المسافة الفاصلة بين القرية وقمّة الجبل، وذلك بإنشاء ممر مائي “ساقية” تربط العين المائية بمركز القرية، ولأن ثلث المسافة تقريباً تقع ضمن هذا الجبل فلم يكن هناك من بُدّ سوى نحته وتعبيد الطريق للماء، وقد كان ذلك، طبعاً، بوسائل تقليدية، في حين تم استكمال بقية المشروع الممتد وسط الأراضي الزراعية ببناء يضمن انسياب المياه بشكل سلس وغير مهرول، بحيث لا يتم اهدارها أو ركودها، وقد تم الإعتماد في هذا البناء على الأحجار ومادة “القظاظ”. وتتوسط الساقية ثلاثة سدود ضخمة هي: السد العالي، الذي يقع في قمة الجبل وتفصله عن عين الماء مسافة غير بعيدة، والسد الأوسط، ويقع تحت جبل المنصورة مباشرة، وأخيراً سد القرية، وهو أقرب السدود إلى القرية، بالإضافة إلى أن هناك بِرَك صغيرة تُسمّى “مِنْقصة” عادةً ما تسبق السدود بمسافة قريبة ومهمتها تنقية الماء وتصفيته.
قطعتْ هذه الساقية طريقها الطويل بمسار واحد إنطلاقاً من جبل المنصورة، مروراً بالوديان والسهول، تتوسطها عدة أبوب للناس وللمواشي، أشهرها “باب العقد”، وقبل أن تصل إلى القرية انفصلت وسارت بإتجاهان مختلفان، مسار واصل طريقه لينتهي به المطاف في “سد القرية”، ومسار آخر اتجه يميناً ليغوص وسط القصور ويخترق أسوارها وحصونها ويتكئ غير مبالياً على جدرانها، ليصل إلى مساجد القرية الثلاثة، ولا يتوقف إلا في بركة الشيخ قايد عبدالله المحاذية لقصره الكبير والواسع، الذي سبق ذكره ويسمى “دار الرجبات”.
يعود عمر هذه الساقية إلى العام 1230هـ، ويبلغ طولها حوالي 7 كيلو متر، وقد بُنيت في عهد وتحت إشراف الشيخ محسن أحمد الأشول، الذي يُعتبر صاحب الفكرة والمنفذ الأول لها، ويروي المؤرخون بأن تنفيذها بدأ عند ميلاد نجله عبدالله، واستمر العمل بها حتى يوم عرسه، مع العلم بأن الشيخ الشاب عبدالله محسن، تزوج عند بلوغه سن الثامنة عشر، وهذا ما جعلنا نقول آنفاً بأن مُدة بنائها تساوي عمر مُحارب، هذا وما تزال الساقية باقية إلى يومنا هذا، ومع ذلك فهي بجاجة إلى ترميم شامل يضمن بقائها كقيمة أثرية وتاريخية تستحق الخلود.
وحتى لا يتم تصنيفنا ضمن الشعوب المتخلّفة التي تقتات من ذاكرتها، لا بد من التنويه إلى أن الفن، وفن الكتابة بالذات، يعرف كيف يمنح الحجر حياة، وأن قرية خالية من الكتّاب، لن تعرف البقاء مهما كان جمالها خرافياً.