“التحالف” يبيد قرية يمنية.. وضابط سعودي “يحكّم” أهالي 53 ضحية
حيروت – متابعات
يوافق يوم أمس 26 مارس 2020، وهي الذكرى السابعة لتدخل التحالف بقيادة السعودية والإمارات، عسكرياً في اليمن. كان الهدف المعلن لهذا التدخل، إنهاء السيطرة الحكرية لجماعة أنصار الله (الحوثيين) على السلطة، وإعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى ترابها الوطني.
ذهبت الحرب إلى سيناريوهات ليس أقلها كارثية تقسيم البلد إلى كنتونات صغيرة، وخلق تكوينات وجماعات مسلحة متعددة المصالح والولاءات. بهذا التقرير، نختبر صدقيّة واحد من المصطلحات التي تلجأ إليها قوات التحالف السعودي الإماراتي لتبرير انتهاكاتها بحق المدنيين اليمنيين: “الأضرار الجانبية”.
في منتصف فبراير من العام المنصرم، أفاقت اليمن على مجزرة بشعة بحق 53مدنياً في محافظة الجوف، شمال شرق البلاد، ارتكبها الطيران الحربي التابع للتحالف السعودي الاماراتي.
خرج الناطق الرسمي للتحالف السعودي، بمؤتمر صحفي، اعترف فيه بمسؤولية التحالف عن الهجمات، واعتبر ما حصل “أضراراً جانبية” شابت عملية البحث والإنقاذ لطيارين اثنين كانا يقودان طائرة حربية تعرضت لهجوم صاروخي في سماء إحدى القرى النائية بالجوف.
الساعة الـ11:15 مساءالـ14 من فبراير 2020، كان أهالي قرية “آل صيدة” بمنطقة الهيجة (على بعد 6 كيلومترات) جنوب غرب مديرية المصلوب، بمحافظة الجوف، يأوون إلى فُرشهم وأسرتهم. وعلى بعد 3 كيلومترات تقريباً، وفي الخلفية إلى جهة الشرق، يحمل إليهم السكون الشفيف صوت اشتباكات متقطعة في جبهات قتال، عندما قطع صمتهم وسكونهم ما لم يكن في الحسبان:
دوّى بالقرب من المنطقة انفجار كبير. كانت طائرة قد تهاوت في سمائهم وسقطت على بعد 800 متر من قريتهم، في الخلاء الصحراوي. جماعة أنصار الله (الحوثيون) قالت بعد ذلك بساعات، إنها استهدفت طائرة “تورنيدو” حربية تابعة للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، بصاروخ أرض-جو وأسقطتها مع طياريها، ونشرت مقطع فيديو للعملية.
لكن أهالي القرية لم يكونوا قد استبانوا بعد ماهية الانفجار الذي أيقظهم وأطفالهم من المنام، عندما تناهى إلى مسامعهم بعد حوالي نصف ساعة من سقوط الطائرة الحربية، صوت مقاتلات تحوّم في سماء المنطقة، ثم انفجار آخر، لكن هذه المرة قريباً منهم؛ بينهم.
خرج بعض أهالي القرية بدافع الذعر والفضول، ليتفاجأوا بضرب طائرة تابعة للتحالف بقيادة السعودية والإمارات لمنزل “غابش العفن” الذي يقطن فيه 13 فرداً من الذكور والإناث؛ قتلت منهم تسعة أفراد وجرحت ثلاثة بينهم طفلان وامرأة. وتضم قرية “آلصيدة” تجمعاً لحوالي 20 مسكناً طينياً من طابق واحد، مبنيًا في سهب منبسط شبه صحراوي ذي تربة صفراء يمكن أن تثير نثارها الزوابع بسهولة.
تجمّع عدد من المسعفين وبعض المتفرجين من أهالي القرية، في محاولة لانتشال جثث الضحايا من تحت ركام المنزل المنهار. كان هناك أنين مكتوم لا يزال يسمع تحت أكوام القش والتراب، لتعود الطائرة بعد 12 دقيقة من الهجوم الأول للتحليق في المكان مرة أخرى، وتلقي صاروخاً على بعد20 متراً فقط من التجمع البشري.
في الجهة الجنوبية الشرقية من منزل “غابش” المستهدف، كانت مجموعة من النسوة والأطفال قد خرجوا من منزل مزارع يدعى “شاجع بن جخرة”، وتجمعوا على دكة ترابية بجانب عتبة الباب، عندما وقعت الهجمة الثانية بالمقابل منهم. تطايرت الشظايا فأصابت بعضهم بخدوش وكدمات. لكن كان الضرر الأكبر الذي أحدثه الصاروخ من نصيب النظارة والمسعفين في الجهة الغربية لمنزل شاجع.
غرق الجميع في الفوضى، واختلط الحابل بالنابل. وحتى السيارة الوحيدة التي قدمت لإسعاف الضحايا غيّر ضغط الهواء موقعها إلى الاتجاه الآخر، وأتلف إطاراتها وجزءًا من هيكلها. سقط ستة قتلى من المسعفين وأقارب الضحايا و14 جريحاً بينهم 7 أطفال و5 نساء. حتى الذين تم انتشالهم من تحت خرائب منزل “غابش” وهم أحياء، أتت عليهم الغارة الثانية وحولتهم إلى أشلاء.
استغرق الطيران ما يقارب 10 دقائق من التحويم، وكأنه كان ينتظر تجمع المزيد من المدنيين لإبادتهم دفعة واحدة، وكان هذا الوقت كافياً للعائلات والأسر للتجمع بجانب جذع الشجرة، قبل أن يلقي طيّار سادي بالصواريخ على رؤوسهم
تحت تأثير الصدمة، هرب كل السكان من منازلهم، ومنهم أسرة (آل خفران) المكونة من 12 من النساء والأطفال، تتزعمهم العجوز “راعية”. حاولت راعية بغريزتها البحث عن مكان يقي أحفادها المصير الذي لاقاه والدهم صالح، والذي قتل في إحدى الجبهات وهو يقاتل في صفوف قوات حكومة هادي المعترف بها دولياً.
وجدت العجوز لأحفادها ملاذاً تحت شجرة “الأراك” (تبعد 200 متر شمال شرق المنزلين المستهدفين)، فتبعهم إلى أسفل الشجرة أطفال ونساء القرية الذين اعتقدوا أن الأوراق الوارفة ستخفي أرواحهم البريئة الفزعة التي حوّلها الخوف إلى ظلال. كان عددهم 20 من النساء والأطفال، لكن القاتل المحلّق في سمائهم، كان لا يزال يترصدهم.
قال أحد الناجين من المجزرة إن الطيران أخذ ما يقارب 10 دقائق من التحويم، وكأنه كان ينتظر تجمع المزيد من المدنيين لإبادتهم دفعة واحدة، وكان هذا الوقت كافياً للعائلات والأسر للتجمع بجانب جذع الشجرة، قبل أن يلقي طيّار سادي، بالصواريخ على رؤوسهم ليحولهم بين غمضة عين وانتباهتها إلى أشلاء. قتل 13 طفلاً و4 نساء، وأصيب 3 أطفال آخرين بجروح خطيرة.
كانت بين الضحايا امرأة حامل في شهرها السابع، دفع ضغط الصاروخ الجنين من بطنها، لتلقي به على الأرض قتيلاً إلى جانبها. قال الشهود أيضاً إنه بعد 10 أيام من هذا الجحيم ظلت بعض الأشلاء متناثرة في المكان. وبالرغم من كل هذا الموت المجاني وغير المبرّر، لم تنتهِ وحشية الإنسان هنا.
تحرك بقية المصابين بجروحهم إلى الوجهة الجنوبية للقرية وهناك، على بعد 50 متراً وجدوا حفريات في أرض فلاة، حفرتها جرافة لغرض ما سابقاً، وتجمعوا هناك؛ أحد الذي نجو قال إنها حفرة صرف صحي.
استمرت الطائرة في التحليق 7 دقائق أخرى. الجمع المرتعش، من نساء وأطفال ورجال، لم يلتقط أنفاسه بعد؛ لم يجد وقتاً كافياً لاستيعاب ما هم عليه، وما الذي فعلوه ليستحقوا كل هذا. قصفت الطائرة للمرة الرابعة، على حافة الحفرة. لكن لحسن حظهم، أو لشيء آخر لا يمكن فهمه ومعرفته، انغرس الصاروخ في الرمال دون أن ينفجر.
بعد يومين من المجزرة، تواصل قائد التحالف السعودي في الجوف (ضابط سعودي) مع وكيل المحافظة واستدعاه إلى مبنى المجمّع الحكومي في الحزم، وهناك قدم له اعتذارًا نيابة عن “التحالف” لضحايا الهجوم، وطلب التحكيم القبلي
سادت الفوضى كل أرجاء القرية، ولم يعرف الناجون بالصدفة أين تكمن الحياة التي أهدرها عليهم قاتل بلا ضمير، خاصة مع استمرار الطيران في التحليق لعدة ساعات توقف خلالها المسعفون عن عملهم للنجاة بحياتهم. لجأ بعضهم إلى منازلهم إذ رأوا في انهيارها على رؤوسهم رحمة على أن يتمزقوا إرباً وتُعجن أشلاؤهم بالتراب.
ومع طلوع الشفق في الصباح الباكر، استخدم بعض الأهالي ما لديهم من أسلحة شخصية لإطلاق النار في الهواء، لدعوة القبائل المجاورة كي تقوم بإسعاف الضحايا، وجمع الأشلاء لدفنها، خاصة أن جماعة أنصار الله (الحوثيين) قد قطعت الاتصالات والإنترنت عن محافظة الجوف، وحرمت آلاف السكان من التواصل فيما بينهم.
وبالفعل دفن القادمون إلى القرية أشلاء 13 شخصاً في مقبرة جماعية، لأنه لم يتم التعرف عليهم بسبب صعوبة فصل الأجزاء البشرية عن بعضها، فيما غادر من تبقى من عائلة “آل خفران” إلى منطقة “العادي” بالمصلوب على بعد 10 كيلو مترات من المنطقة، وأقاموا عند أقاربهم.
مصادر أخرى قالت إنه في صباح الكارثة، قصف الطيران مجموعة من تجار الخردة الذين قدموا إلى مكان تحطم الطائرة، ولم يعرف عدد الضحايا في صفوفهم، غير أن غارة أخرى قتلت اثنين من باعة القات مروا على سيارة هيلوكس من الخط الترابي القريب من مكان سقوط حطام الطائرة.
وفي الـ17 من فبراير من نفس العام 2020، أي بعد يومين من المجزرة، تواصل قائد التحالف في الجوف (ضابط سعودي) مع وكيل محافظة الجوف صالح العوجي (السنتيل)، واستدعاه إلى مبنى المجمّع الحكومي بمديرية الحزم. وهناك قدم له اعتذارًا نيابة عن “التحالف” لضحايا الهجوم، وطلب التحكيم القبلي، وأن المسؤول الحكومي رد للمسؤول السعودي الحكم- حسب الأعراف القبلية.
وقالت مصادر مطلعة أن القائد السعودي “حكّم” بسفر جرحى الهجوم إلى السعودية للعلاج، مقابل تنازلهم عبر المحكمة، وأن يتم هذا الأمر بوثائق رسمية. وتم قطع وعود بمنح أقارب الضحية القتيل 150 ألف ريال سعودي، والجريح 50 ألف ريال سعودي إضافة إلى علاجهم في المشافي السعودية كتعويض.
هذه المجزرة تذكر بأولى المجازر التي ارتكبها التحالف بقيادة السعودية والإمارات في اليمن؛ حيث أفاق أهالي قرية بني حوات بالقرب من مطار صنعاء، فجر الخميس 26 مارس 2015، على دوي انفجارات غير معتادة. أودت تلك الغارات إلى مقتل أكثر من 20 شخصاً، وجرح عشرات آخرين، بينهم نساء وأطفال لم يعرف اليمنيون ساعتئذ ما الذي يحدث، كما لم يعرفوا حينها أن حرباً عبثية بدأت لتوها فوق رؤوسهم ولن تتوقف على مدى السنوات الست القادمة، كما لا تزال تتوالى جرائم تحالف العدوان السعودي الإماراتي في اليمن إلى اليوم، وكل جريمة جديدة تذكّر بكل الجرائم السابقة.