ما هي عقدة الخلاف حول “المبادرة” السعودية في اليمن؟ بقلم/ علي ظافر
بقلم/ علي ظافر
يستطيع كلّ متابع التوصّل إلى خلاصة مفادها أنَّ هناك تخادماً وتناوباً وتوزيعاً للأدوار بين واشنطن والرياض، ومعهما الأمم المتحدة، في ما قُدِم ويُقدَم من أفكار أو ما يرونها مشاريع ومبادرات لحل الأزمة اليمنية المعقّدة والمتشابكة إنسانياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وعلى كلّ الصعد.
لا جديد في “المبادرة” السعودية سوى أنها أخرجت من الأدراج، وأعلنت إلى الرأي العام على لسان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، وهي شروط أكثر من كونها مبادرة.
صحيح أنَّ السعودية تدّعي من خلال هذا الإعلان حرصها على “إنهاء الأزمة في اليمن والوصول إلى اتفاق شامل” يتضمن فتحاً مشروطاً لمطار صنعاء المحاصر منذ أكثر من 5 سنوات، وتحديد وجهات الرحلات المدنية إلى 3 دول، هي الأردن ومصر وسلطنة عمان، وإصدار الجوازات عبر حكومة المنفى في الرياض، وإخضاع الرحلات للتفتيش السعودي، كما كان يحصل في مطار “بيشة” السعودي، وبالتالي الاعتقال على الهوية، وتتضمن كذلك فتحاً مشروطاً لميناء الحديدة المغلق منذ سنوات بشكل كلي أمام السفن التجارية، بما فيها سفن المشتقات النفطية، منذ صعود إدارة بايدن، مع الحرص الأميركي السعودي الأممي على تجميد واردات الحديدة في صندوق، بحيث لا تستفيد منه صنعاء في حل أزمة المرتبات التي تسبب بها العدوان منذ قراره نقل صلاحيات البنك المركزي من صنعاء إلى عدن نهاية العام 2016.
وسط كل هذه المعطيات، إنَّ ما يثير السخرية والضحك معاً هو مزاعم السفير السعودي غير المقيم في اليمن، محمد آل جابر، بعدم وجود الحصار والعدوان، وكأن بلاده توزع الورود منذ 6 سنوات، رغم أن ما أعلنته الخارجية السعودية يحمل اعترافاً ضمنياً بوجود العدوان والحصار، كما أنَّ غريفيث وبيانات أممية أكّدت قبل أيام لوكالة “رويترز” أن سفن التحالف الحربية منعت 13 ناقلة وقود على الأقل من دخول ميناء الحديدة بعد انتظارها شهوراً وحصولها على التصاريح من المنظمة الدولية.
في المقابل، لم تعلن صنعاء رفض هذا الإعلان صراحة، بل إنها تتحفَّظ على ذلك، وتطرح كل ما يعلن للنقاش، وخصوصاً أنَّ من يقدّم هذه الأفكار والمشاريع إما أطراف أساسية في العدوان وإما متواطئون معها.
تتمسَّك صنعاء بمقاربتها وقف الحرب ورفع الحصار أولاً، وترى أن لا جديد في ما طرح سعودياً بخصوص ملفات وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة، كما ترفض مقايضة الإنساني بالسياسي، كما يؤكد كبير المفاوضين محمد عبد السلام، الذي أبدى مخاوف صنعاء من عدم جدية السعودية وعملها على “الجرجرة إلى ما لا نهاية” في هذه الملفات، في ظل وقائع لا تشي بصدقية نيات الأطراف الإقليمية والدولية، على الأقل في الملفات الإنسانية، فالسفن ما تزال محتجزة، والمطار ما يزال مغلقاً منذ أكثر من 5 سنوات.
ويضيف عبد السلام أنَّ ما أُعلن سعودياً حول القضايا الثلاث (المطار والميناء ووقف إطلاق النار) مطروح للنقاش، منذ أن تقدَّم المبعوث الدول مارتن غريفيث بالإعلان المشترك قبل عام، ولم يحسم بعد، متمسّكاً بضرورة وقف الحرب ورفع الحصار أولاً، فيما سجّل عضو الوفد الوطني عبد الملك العجري نقطة إضافيَّة، بأنَّ الإعلان السعودي “لم يتطرق إلى أي تفاصيل أو آليات”، وهي عقدة الخلاف، ما يعني أن إعلان السعودية فارغ ولا مفاعيل له على الأرض، بقدر ما يراد منه اللعب على الوقت، وإنقاذ أدواتها المهزومة في الميدان، وترحيل الملفات الإنسانية الملحة إلى طاولة مفاوضات لا تتوفّر أدنى الشروط والفرص لالتئامها. يعزّز ذلك تصريح السفير السعودي غير المقيم في اليمن، محمد آل جابر، حين سئل: “كيف سيفتح المطار؟”، فردَّ بالقول: “الأطراف ستتّفق على ذلك مع الأمم المتحدة”.
تبدو ملاحظات صنعاء عقلانية ومنطقية وجوهرية ومستندة إلى تجربة مريرة مماطلة غير مشجعة من قبل التحالف وحلفائه المحليين والدوليين على مدى السنوات الماضية. أضف إلى ذلك أنّ من يقدم هذه المبادرة ليس حمامة سلام، وليس وسيطاً، وأن دوره السلبي لا يشجّع على الثقة به وبما يطرحه، فالسعودية، على سبيل المثال، تمثل رأس حربة في العدوان على اليمن. وقد شنت بدعم أميركي مباشر وغير مباشر أكثر من ربع مليون غارة منذ العام 2017، كما أنها ما تزال تفرض بدعم أميركي حصاراً شاملاً على اليمن، ما يؤكد حديث عبد السلام عن أنَّ مشكلة اليمن ليست في التئام الأطراف اليمنيين على طاولة المفاوضات، وخصوصاً أنَّ الطرف المقابل لصنعاء (حكومة الفنادق) لا تملك من أمرها شيئاً، فضلاً عن تجردها كلياً من قرار الحرب والسلام.
المشكلة الأساسيَّة تتمثّل في كفّ الأذى السعودي عن اليمن، بوقف القصف الجوي والحصار عليه، وعدم التدخّل في شؤونه الداخليّة، وعدم محاولة فرض الوصاية على بلد ذي سيادة مجدداً. وباتت المبادرة العاجلة من أطراف العدوان للقيام بمعالجات إنسانية تثبت جديتها أمراً ملحاً، بدلاً من مقايضة الإنساني بالسياسي والعسكري، كما طرح في المبادرات الثلاث الأممية والأميركية، ومؤخراً السعودية، التي أعلنت مباشرة عقب اتصال بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونظيره السعودي فيصل بن فرحان، وكأنه أعطاه الضوء الأخضر للإعلان عن التمسّك باشتراطات تبدد فرص السلام.
ورغم أنّ المبادرة الأخيرة ملغومة باشتراطات عدة، فقد سارعت الدول العربية المنضوية في تحالف العدوان، فضلاً عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا ومن لفّ لفّهم، بالترحيب بها، في خطوةٍ توحي بأن ضابط المايسترو السياسي والدبلوماسي واحد، وهو الأميركي (إدارة بايدن)، ويلحظ ذلك من خلال تشابه مضامين الإعلان السعودي مع ما قدمه المبعوث الأميركي تيم ليندر كينغ مطلع الشهر الجاري، وما أسمي بـ”الإعلان المشترك” الذي تقدّم به المبعوث الدولي مارتن غريفيث قبل عام.
الملاحظ أيضاً أن الأمم المتحدة باتت جزءاً من المشكلة، ولم تعد وسيطاً نزيهاً، إذ تتبنى علانيةً، ومن دون مواربة، مقاربة رباعية العدوان للحل في اليمن، وباتت تقايض الإنساني بالعسكري والسياسي، مخالفة بذلك جوهر مهمتها وفقاً للمواثيق التي يفترض أن تحكم عملها بإعلاء الشأن الإنساني على كل الحسابات الأخرى، وأن تقف على مسافة واحدة من كل أطراف الحرب، لوضع حد لأكبر كارثة إنسانية في اليمن، كما وصفتها.
وفي التّحليل، إنَّ تقديم مثل هذه الأفكار المتشابهة والمشتركة (أميركياً وسعودياً وأممياً) في هذا التوقيت يهدف إلى تسجيل نقاط سياسية، أولها كسب الرأي العام وتنفيس الضغط العالمي والمحلي باتجاه ضرورة إنهاء الحرب والمأساة قبيل حلول الذكرى السادسة للعدوان والحصار الأميركي السعودي. كما تهدف هذه المبادرة وما سبقها إلى إظهار صنعاء في موقع أو موقف المعطّل والرافض للسلام.
من جانب آخر، تتزامن هذه المبادرة مع اقتراب الحسم العسكري ميدانياً في مأرب، وفق ما ترجمه بعض المصادر الميدانية، وبالتالي يريد هؤلاء “فرملة” أو تجميد التقدم العسكري لصنعاء لحسم معركة مأرب، آخر معاقل “القاعدة” في المحافظات الشمالية، وآخر معاقل الشرعية المزعومة، كما أنَّ أميركا والسعودية تريدان بعد كلّ ما ارتكبتاه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في اليمن أن تقدّما نفسهما باعتبارهما مجرد وسطاء ورعاة سلام، وإظهار المشكلة في اليمن وكأنها خلاف سياسي وحرب أهلية يمنية يمنية، وهو ما يفسّر غياب “حكومة الفنادق عن هذه المبادرة وظهورها في موقع المرحّب”.
كما أنَّ المبادرة تحاول القفز على الواقع والخارطة السياسية والتحولات الميدانية التي رجَّحت كفة صنعاء خلال السنوات الماضية، على الأقل في المحافظات الشمالية، وتسعى إلى إعادة اليمن مجدداً إلى مربع الوصاية السعودية الأميركية، من خلال التمسّك بصنميات سياسية باتت من الماضي، تتمثل بالمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن وغيرها، وهو ما تحدَّث عنه صراحة نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، حين قال إنَّ ما أعلن عنه يأتي “ضمن المبادرات السابقة منذ المبادرة الخليجية”، مع علمه بأنَّ عودة اليمن إلى ذلك المربع باتت أمراً مستحيلاً بعد تضحيات السنوات الست الماضية، وبات لزاماً على الأطراف المأزومة أن تعترف باستقلالية اليمن وسيادته، وأن ترحل بقواتها الغازية والمحتلة من البلاد وتدع لليمنيين شأنهم، بعد وقف الحرب ورفع الحصار بشكل شامل وكامل وغير مشروط، لتهيئة المناخ السياسي للحل العادل.
لقد قالت صنعاء موقفها الواضح والصريح والحاسم على لسان عبد السلام بأنَّ “أي مواقف أو مبادرات لا تلحظ أنّ اليمن يتعرّض لعدوان وحصار منذ 6 سنوات، وتفصل الجانب الإنساني عن أي مقايضة عسكرية أو سياسية، وترفع الحصار، تعدّ غير جادة”.
لا مؤشرات إذاً على تقارب وجهات النظر بين طرفي الحرب في اليمن. وفي ظلِّ تباين الرؤى والأفكار والطروحات والمقاربات، فإن التشاؤم باقتراب حلّ وشيك للأزمة في اليمن يظلّ سيّد الموقف.