السلام أولاً وأخيرًا بقلم/ عبدالباري طاهر
بقلم/ عبدالباري طاهر
التاريخ اليمني زاخر بالمآسي ومعجون بالنكبات ومطحون، بل منكوب بالحروب. إنه “التاريخ الآثم” كتوصيف الآباء الأحرار اليمنيين. وعبْر تاريخٍ دامٍ ومرير كانت اليمن المنهوبة المنكوبة كتوصيف الأحرار أيضًا، ولكنها لم تتحول أو تصبح أسوأ كارثة يشهدها العصر إلا في ظل الحرب الحالية. فهذه الحرب – ولأول مرة في التاريخ – تمتد حرائقها في اليمن من أقصاه إلى أقصاه، ويتداخل فيها الأهلي بالإقليمي بالدولي، وتتعدد أطراف الصراع فيها بصورة غير مسبوقة لتكون ما يشبه حرب الكل ضد الكل. فهناك أكثر من ربع مليون هم القتلى، وبالتأكيد فإنّ الجرحى والمعاقين أضعافًا مضاعفة، والمشردون داخل وطنهم يصلون إلى ثلاثة ملايين، والجوعى أكثر من ثلثي السكان، والأوبئة الفتاكة تحصدُ مئات الآلاف، والبنية التحتية تتعرضُ للدمار، والعملة منهارة، والرواتب موقوفة، والأعمال مشلولة ما عدا الحرب والعاملون الوحيدون تجار هذه الحرب.
الأعمال التجارية والزراعية والإدارية شبه معطلة، والبلاد محاصرة برًّا وبحرًا وجوًّا، إضافة إلى الحصار الداخلي. فالمدن محاصرة بالمليشيات المتقاتلة، والقرية معزولة عن القرية، وحالة التفكك في المناطق والجهات، وحتى داخل القبيلة الواحدة وداخل الأسرة، والفساد والاستبداد هما السائدان، ويصلان حدّ الهمجية والتوحش.
المجاعة المفروضة والحرب المعطِّلة لكلّ وسائل وسبُل العيش الكريم تعمّ وتشمل مختلف جوانب الحياة. فالتجار هربوا بأموالهم وأنفسهم بعد أنْ تعرضت شركاتهم ومؤسساتهم ومصالحهم للخراب، وملايين المزارعين، وهم الغالبية العظمى، مدمرة مزارعهم وقاحلة بسبب الحرب والحصار، وانعدام المشتقات النفطية والارتفاع الجنوني في الأسعار، والعمال وأصحاب المهن والحرف وأصحاب الدكاكين وحتى الباعة المتجولون يتعرضون للنهب والابتزاز، أما الصيادون، وهم مئات الآلاف، لا يستطيعون الاقتراب من البحر بسبب الحصار والخوف من إغراق قواربهم. تشير التقارير الأممية إلى أنّ نصف مليون طفل يمني معرضون للموت جوعًا، وأنّ ثلاثة ملايين امرأة على حافة الهاوية منذ بدء النزاع، وبالأخص في مناطق سيطرة الحوثي.
الحرب والمجاعة، أو بالأحرى التجويع ليس موجهًا ضد اليمن وحدها، وإنما موجه ضد الأمة العربية كلها، وتتجلى البشاعة أكثر في العراق وسوريا ولبنان والسودان والعديد من البلدان العربية الأخرى. فقانون قيصر الذي سنّه الكونجرس الأميركي باسم حماية المدنيين السوريين وضدًّا على الحكم تؤكد المجاعة الفاشية في سوريا أنه موجه بالأساس ضد الشعب السوري أكثر من أيّ شيء آخر.
الأزمة الشاملة في النظام العربي مترابطة وصنّاعها كثُر، ولا مخرج إلا بالانتفاضة الشاملة من الماء إلى الماء، ومؤشرات هذه الانتفاضة حاضرة بقوة في غير بلد؛ ففي اليمن ومنذ أسبوع تشهد حضرموت انتفاضة، ودائمًا البداية تأتي من حضرموت؛ فحضرموت كانت هبّتها في 1995 ضد حرب وطغيان وغزو علي عبدالله صالح. منذ أسبوع حسب صحيفة الأيام نفّذ طلاب جامعيون ومواطنون في المكلا وقفة احتجاجية أمام ديوان المحافظة رفضًا لرفع أجرة المواصلات الناتج عن الجرعة الجديدة بالمشتقات النفطية، وتردّي الأوضاع والغلاء المعيشي، مطالبين السلطة المحلية بوضع حلول مناسبة لارتفاع أسعار المشتقات النفطية. تضيف الصحيفة الأشهر في اليمن كلها: “ولليوم الخامس على التوالي ندد المحتجون بجرعة المشتقات النفطية، وتردي الأوضاع والغلاء المعيشي التي أثرت في مستوى دراستهم الجامعية”.
ويعود الخبر الذي نشرته الأيام إلى الحادي عشر من مارس، وقد أيدتْ الهيئة التنفيذية للقيادة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي بمحافظة حضرموت الاحتجاج، متضامنة مع طلاب المحافظة محذرةً من ثورة جياع. وفي السياق نشر الصحفي عوض كشميم في صحفته نقلاً عن صفحة وردة النقيب الآتي: “الشحر تلحق أختها المكلا في الوقفات الاحتجاجية على رفع تسعيرة المشتقات النفطية التي انتهجتها حكومة المناصفة الفاشلة ونفذتها سلطاتنا المحلية دون إدراكٍ لِما يلحق من ضرر بها”.
استعصاء الحسم العسكري إنْ لم يكن مستحيلاً، والنتائج الكارثية في مارب تفرض على كلّ الأطراف الوارطة في الحرب التخلي عن أوهام الحسم العسكري، والاحتكام إلى المنطق والعقل، والعودة للحول السلمية، والحوار والتفاوض السياسي الخيار الوحيد الآمن والممكن للخروج من الكارثة التي تهدد اليمن كلها. فوضع اليمن شديد التعقيد والخطورة.
يرى عالِم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون ذو الأصول الحضرمية أنّ البلد الذي توجد فيه قبائل كثيرة وقوية يصعب قيام الدولة فيه، وهذا ما هو موجود في اليمن. ويضاف إلى هذه المصيبة الموروثة قيام مليشيات متعددة قوية ومتحاربة في عموم الوطن اليمني تلقى الدعم والمساندة من قوى إقليمية ودولية لا تتيح التوافق على وقف الحرب، ومن باب أولى التوافق على بناء الدولة التي كانت حلم الحركة الوطنية منذ الأربعينيات، وكانت حلم الأحرار والحركة الوطنية الحديثة، واستشهد في سبيلها المئات والآلاف، من أهمهم الزعيمان سالم ربيّع علي وإبراهيم الحمدي.
في الفترة من 2 مارس وحتى الرابع منه قامت منظمة Promediation الفرنسية بتنظيم ورشة بدعم من مركز الأزمات والمساندة التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية على مدار ثلاثة أيام حول كيفية توظيف مخرجات الحوار الوطني الشامل في عملية بناء السلام، وبحث وتحديد مجالات تُدخل المجتمع المدني في عملية السلام.
ناقش المجتمِعون إعاقة نشاط المجتمع المدني، والظروف القاسية التي يعيشها المواطن اليمني، وغياب الخدمات الأساسية، وتأثير الحرب على مختلف جوانب الحياة، وتوافقَ المجتمعون على تشجيع المبادرات السلامية الأهلية والمدنية، والدعوة لاستقلال القضاء، ودعم الحوار المجتمعي، ودعم الجهود التعاونية، والحفاظ على التراث والآثار، وكان الحضور للشابات والشباب من عدن وحضرموت وتعز وصنعاء وأبين وإب فاعلاً وحيًّا، وصوْت الفتيات كان هو الأجلى والأقوى.