قوات سعودية وأعلام إماراتية تغزو سقطرى.. والأخطر: استمالة السكان وخلق اتصال ديمغرافي معهم “تحقيق”
حيروت – متابعات
كنا نتناول العشاء في أحد فنادق مديرية سيئون، محافظة حضرموت (شرق اليمن)، عندما سألت موظف مكتب السفريات السياحي: متى ستكون رحلتنا من مطار سيئون؟
أجاب: لا أعلم. كنّا مسافرين إلى أرخبيل سقطرى اليمني، في الغد، بحسب تذاكر الطيران التي بحوزتنا، مما يعني أنه لم يتبقَ فعليًّا سوى ساعات قليلة على الرحلة، ورد الموظف عليّ هو ما أثار بعض الغموض، فعدت لسؤاله: كيف لا تعلم؟ قال: لأن الأمر بيد التحالف، وهو الذي يأذن للرحلات من عدمها.
رغم ما يقارب ست سنوات، من التدخل المباشر للتحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات في الشأن اليمني، إلا أن وجود هذا النفوذ ليعكر صفو رحلة استجمام ليمنية داخل أراضي بلدها، يشعر الواحدة منا بالغبن، من أننا أصبحنا مرتهنين للوصاية الخارجية أكثر مما يجب.
ومع هذا اللايقين، قالت رفيقتي في الرحلة: “غدًا سنسافر الى أرخبيل سقطرى”، وقد بدت فكرة السفر تصبح واقعية أكثر، رغم أننا، حتى ساعات متأخرة من الليلة الماضية، لم نكن على يقين تام، من أن الأمر سيمر بسلام، لكننا، على أية حال، عازمون، ولدينا موعد إقلاع وهبوط مسجّل على تذاكر رسمية.
عند الساعة الرابعة والنصف فجرًا، رنت الهواتف المكتبية في غرفنا بالفندق، وقد بدأ موظف الاستقبال -بطبيعة عمله- إيقاظنا للرحلة، الواحد تلو الآخر، ويخبرنا بضرورة وجودنا في صالة الاستقبال، بعد أقل من نصف ساعة، لننطلق إلى المطار.
ونقل “خيوط” عن بطلة القصة، قولها: كنّا هناك في الموعد، وتوجهنا بناء على الإجراءات المعروفة، حتى سلم الطائرة. كنت أشعر بالنشوة، لأن البلد لا يزال يقيم رحلات داخلية للمسافرين. عند الساعة الـ08:05 صباحًا، أعلن الكابتن عبر مذياع الطائرة أن الوقت المتوقع للهبوط في مطار أرخبيل سقطرى، ساعة وخمس دقائق. وبالفعل سمعت وشوشات صوته مرة أخرى عند الساعة الـ09:03: “الآن نستعد للهبوط في مطار سقطرى الدولي”. كنت وزميلتي نحدق من النافذة الصغيرة للطائرة بشغف، لنرى أول المطالع البرية لجزيرة الأحلام، التي لطالما تمنينا زيارتها يومًا ما، وها نحن ذا.
بعد هبوطنا في مطار سقطرى الدولي، رأيت العديد من المسافرين والمسافرات. جلستُ إلى جوار إحداهن وتبادلنا الحديث. إنها من أرخبيل سقطرى وقدمت من مدينة عدن التي زارتها خلال الأيام الماضية ومن ثم عادت. سألتها عما لفت انتباهها في عدن، قالت: عدن محافظة كاملة فيها خدمات وإمكانيات، أما سقطرى فهي جزيرة ينقصها الكثير من مقومات المحافظة.
وعندما رأت حماسي لزيارة الجزيرة، اقترحت عليّ الذهاب إلى شاطئ “قلنسية”: “وعليك بالذهاب أيضًا إلى، وإلى، وإلى…”، مواصلة سرد أسماء مناطق عدة لم يعلق في ذاكرتي أيٍّ منها، مثلما علقت بها لمعة عينيها وهي تتحدث بحب عن مسقط رأسها.
بقينا في كراسي الانتظار ننتظر أمتعتنا، وبعد أن غادرت المرأة الأولى جاءت أخرى من محافظة عدن، وسرى حديث آخر، حين قالت: “لنا أربع سنوات ساكنين في سقطرى، زوجي يعمل وأنا أعمل أيضًا معلمة في إحدى مدارس سقطرى، انتقلنا إلى سقطرى لأجل لقمة العيش. بدا لي الأمر غريبًا بعض الشيء، ربما بسبب بعد الجزيرة أو ربما بسبب شحة الخدمات، وربما لأني أعتقد أن الجزر هي عادة للسياحة”.
خرجت من المطار حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحًا، واستقبلنا الفريق السياحي المختص وهم من أبناء المنطقة، وصعدنا السيارة مع سعيد أحد أبناء شرق الجزيرة من محمية “حومهل”. وسعيد شاب في الثلاثين من عمره، أسمر البشرة نحيف الجسد كأغلب الشباب اليمني.
قال: “مرحبًا بكم في سقطرى، هذه السيارة تعتبر ملكًا لكم خلال وجودكم هنا”. غالبًا ما صاحَب كلام سعيد ابتسامة صادقة ودافئة وجدناها عند أغلب أهالي الجزيرة، ربما هي جزء من ثقافتهم.
سعيد درس بكالوريوس آداب إنجليزي، وصقل دراسته عن طريق حصوله على شهادة الماجستير. تحركنا بالسيارة مغادرين المطار (منطقة موري)، لنصل للعاصمة حديبو، وكان هذا أول لقاء بيننا وبين جمال الجزيرة.
كنت أنظر عن يميني فأرى جبالًا خضراء وكثيرًا من الأبقار والماعز، ثم ألتفت يسارًا لأجد بحرًا بلون أزرق غامق تعلوه أشعة الشمس، لتجعل من سطحه جواهر نادرة تجذب أعين الناظرين، إلا عيني سعيد، الذي كان يردد: “أنتم لم تروا شيئًا حتى الآن”. لكننا لم نكن لنجعل من السيارة فاصلًا بيننا وبين الطبيعة الساحرة، فقد أخرجنا رؤوسنا من النوافذ لنعانق ما استطاعتنا من الجزيرة، لعلنا بذلك نطفي ما بداخلنا من فوضى.
كانت الرحلة إلى الأرخبيل قائمة على فكرة التخييم، وكان عدد المسافرين 12 سائح وسائحة، أما عدد فريقنا السياحي فهم ما يقارب 6 أشخاص.
ذهبنا للفندق في حديبو لاستعادة النشاط، ولكن عندما دخلت البهو رأيت موظفي الاستقبال أحدهما من تعز والآخر من صنعاء، اعتقدت أن وجود معلمة من محافظة عدن سيكون وضعًا نادرًا في سقطرى، بينما الحقيقة أن الكثير من أبناء المحافظات اختاروا الأرخبيل بديلًا عن محافظاتهم من أجل كسب لقمة العيش الآمنة. تجسد هذا المشهد الوطني أيضًا، عندما خرجنا في شوارع العاصمة لنجد أن أغلب من يعملون في المطاعم والبقالات وأدوات البناء في المنطقة هم من محافظات شمال اليمن.
من حسن حظنا، أن سائق السيارة سعيد، هو بالأصل مرشد سياحي ويستقبل الأجانب والوفود السياحية بشكل دائم، لكن في الفترة القليلة المنصرمة، توقف نشاطه هذا بسبب (كوفيد-19) فانقطع قدوم الزائرين إلى الجزيرة، يقول: “كان وقع كورونا على سقطرى أكثر بكثير من وقع الحرب”.
شاطئ عرهر
بينما كنا بطريقنا لشاطئ “عرهر”، حدثنا سعيد عن أرخبيل سقطرى، كان سعيد يتحدث الإنجليزية بطلاقة وفخر، فذكر لنا أنها خمس جزر، ثلاث منها مأهولة بالسكان، وهن: سقطرى، عبدالكوري وسمحة، بينما جزيرتا برسة وصيال ليستا مأهولتين.
يقول سعيد: “سقطرى جزيرة فريدة لاحتوائها على العديد من النباتات التي لا يمكن أن نجدها في العالم، كشجرة دم الأخوين وشجرة بازوليا، وكذلك مجموعة من الطيور النادرة، إلى درجة أنه من الصعب حتى على أبناء الجزيرة التمييز بينها؛ لأنها كثيرة ومتشابهة، لكن تأتي بعثات باحثين متخصصين للتعرف على الطيور وتميزها”.
سألنا سعيد ما إذا كان أجدادهم أو أحد أبناء سقطرى شارك في هذه البعثات، قال بحسب علمه لم يكن هناك أحد، إلا أن البعثات قامت بتدريب البعض؛ مما نتج عنه الآن وجود من يفهم بأنواع الطيور من أبناء المنطقة.
من جانبنا، تعرفنا على “النسر المصري”، وهو طائر يوجد فقط في مصر وسقطرى، وله اسم فريد في سقطرى حيث يطلق عليه الأهالي اسم “سعيدو”، وهو صديق للجزيرة وسكانها، إذا يتواجد على مقربة من كل مائدة طعام، وينتظر انتهاء تناول الوجبات، ليشرع بعمله في تنظيف المنطقة. يقول سعيد: “حيوانات سقطرى محترمة لا تؤذي أحد”.
تتميز سقطرى أيضًا بوجود شواطئ ومحميات، يستطيع المرء أن يغوص فيها لرؤية الكثير من الأحياء البحرية المختلفة، مثل الأسماك والسلاحف والشروخ وغيرها من الأحياء والكثير من الشعب المرجانية مختلفة اللون والشكل والحجم.
وصلنا لشاطئ عرهر -شرق شمال سقطرى- وهو شاطئ تلتقي فيه مياه عذبة تخرج من أعين الجبال مع مياه البحر المالحة، إذ يمكنك أن تسند ظهرك على أعين ماء نقية وأرجلك تلامس مياه البحر المالحة، كما يوجد هناك كثبان رملية بيضاء.
كهف حوق
كهف “حوق” معلَم أثري كبير يوجد في قمة جبل “حالة”، للوصول إليه يلزم الصعود لمدة ساعتين، لكن الأمر كان يستحق، إذ لم أتوقع أن أرى كهفًا بهذا الحجم والسعة الكبيرين والظلام الدامس في جوفه.
ظللنا نمشي بداخله أنا ومجموعة الأصدقاء لما يقارب الساعة ولم نصل لنهايته، وفيه وجدنا مياه عذبة. ذُكر في لوحة الإرشادات أن طول الكهف ثلاثة كيلو مترات، إلا أن المرشد ذكر أن نهاية الكهف ليست معلومة.
محمية دي حمري
تقع محمية “دي حمري” شرق العاصمة حديبو، وبحرها مليء بالشعب المرجانية والأسماك المختلفة، وليس من الصعب العثور على السمك فيها، فبمجرد ما يصل الماء لأعلى ساقيك، يمكنك أن تنزل برأسك لترى جمال الكائنات الرشيقة تحت الماء، والسمك أقرب إليك مما تتخيل.
وقفت أرتدي بدلة غوص سوداء وأنظر إلى نسيم؛ مدرب الغوص الذي لا تختفي ابتسامته عن الجميع، وبالذات ضيوف جزيرته. تعلَّمَ نسيم، ابن محمية دي خمري، فنون الغوص عن طريق أخذ العديد من التدريبات الدولية.
كنت مرعوبة لأني لأول مرة في حياتي سأنزل إلى عمق البحر، بدأت بالنزول وبجانبي نسيم، وكان يطمئنني بالقول: “لا تقلقي فأنا معك، وأريدك أن تستمتعي، وأنا سأتولى أخذ الكثير من الصور لك للذكريات”.
وفي اللحظة التي غمست رأسي في الماء، وجدت عالمًا آخر؛ بحرًا مليئًا بالشعب المرجانية والأسماك عديدة الألوان التي لم تستطع عيناي التقاطها من قبل، لم أتردد بعدها للحظة أن أهبط إلى قاع البحر لملاقاة أسراب السمك وأشكالها والجلوس بجانب كل تلك الشعب المرجانية، شعرت حينها بلحظات صفاء، وشكرت حظي لأن أول تجربة لي في الغوص كانت مع صديقي نسيم في جزيرتي سقطرى.
وفي محمية “حمهل”، شرق سقطرى، تميزت الطبيعة هناك بوجود بركة “كبكب”، التي تطل على البحر، وكلما أتذكر محمية “حمهل”، تحضر إلى ذهني صورة لبركة شديدة النقاء، تستطيع أن ترى إلى أعماقها، وحين ترفع رأسك تجد من أعلى قمة الجبل إطلالة لبحر لونه فيروزي، كما أن محمية حمهل هي أحد مواطن شجرة دم الأخوين إلى جانب منطقة دكسم، الأكثر تواجدًا للشجرة الشهيرة. هناك مناطق أخرى، إلى جانب هذه، جديرة بالذكر، مثل شاطئ دليشة الساحر ووادي كليسا.
شاطئ “ديطواح”
يقع شاطئ ديطواح (الساحل الثلجي) في مديرية قلنسية، وهو الشاطئ الأجمل حيث يوجد فيه حزام رملي بلون ثلجي يفصل بين البحر وبحيرة موجودة هناك، لتتجلى فيه إحدى أجمل صور الطبيعة، وهناك الكثير من السقطريين على غير العادة، فمديرية قلنسية تعد المديرية الثانية في سقطرى بعد العاصمة حديبو.
في الساحل نفسه، رأيت ثلاثة جنود سعوديين تابعين للتحالف العربي، ذهبت وسألتهم من باب الفضول: هل أنتم أبناء الخالة سعدية؟ فرد أحدهم: لا، نحن من السعودية، أنا من الشرقية وزميلي من الرياض. وبعد أن انصرف الجنود، أخبرني أحد أنجال الخالة سعدية أن العديد من جنود التحالف يأتون إلى الجزيرة لقضاء فترة خدمتهم في الجيش.
والخالة سعدية مواطنة سقطرية، تمتلك مخيمًا صغيرًا في الشاطئ، وتكاد تكون الوحيدة هناك، وتكن عشقًا خاصًّا للطبيعة التي تعيش فيها، ولذا تعتبر شاطئ قلنسية، على سعته، بيتها الكبير.
تخرج مع ابنها نزهات شهرية لتنظيف الشاطئ؛ لأن بعض الأسر عندما تنزل لقضاء يومها تُهمل رفع المخلفات بعدها. تقول الخالة سعدية: “قلنسية جميلة وبحرها رائع، عندما كنت شابة، كنت أخرج للصيد، وكنت أصطاد الكثير من السمك”.
وتضيف: “قضيت كل حياتي في قلنسية، أحزن عندما أرى الأسر تأتي ولا تهتم بالطبيعة، فترمي بالنفايات في الشاطئ، في الغالب أخرج بالسيارة مع ابني ونمر على كل الشاطئ لتنظيف مخلفات الزوار. في المخيم قضينا سهرة مع فرقة فنية اسمها “فرقة شباب قلنسية للفنون والتراث الشعبي”، علمًا أن الناس في الأرخبيل يحبون الحياة والبساطة والفنون، وأشهر رقصاتهم هي رقصة تسمى “الدبوبة”.
مهن السقطريين
يعمل معظم السقطريين في الصيد وبيع الأغنام والسياحة وبعضهم في الزراعة، وعلاقتهم بكل ما ذكر هي علاقة فريدة من نوعها، فهم لا يخرجون مع الأغنام وإنما تخرج الأغنام بنفسها إلى المرعى، يقول سعيد: “نحن نترك الأغنام ترعى مع بعضها بعضًا، وكل واحد منا يستطيع التفريق بين غنمه وغنم جاره، مثلا غنمي 100 غنمة وجاري معه 200، تخرج كل الأغنام للرعي سويًّا، ونذهب لاستعادتها بالليل عن طريق إصدار صوت معين تفهمه، فتعود إلى المنزل”.
ويمكن للزائر لسقطرى أن يرى قطعان الأغنام منتشرة بكل مكان في سقطرى، حتى في وسط جولات المرور في حديبو، وهي سمة بارزة وذات أهمية لهذه المنطقة المهمة من العالم، وتحظى هذه الحيوانات باحترام وحب كبير لدى النساء والأطفال والرجال في الأرخبيل.
موسم الأعاصير
بالرغم من حالة الصفاء ومظاهر السلام التي تعيشها سقطرى، إلا أنها تتعرض بين وقت وآخر للأعاصير المدمرة، أبرزها إعصارا تشابالا وميج، اللذَين ضربا في 2015، وإعصار مكونو الذي ضرب في 2018. هذه الزوابع المدمرة، على ما تحمله من دمار، مثلت مدخلًا لتدخل بعض دول الإقليم، مثل دولة الإمارات التي أظهرت -وما زالت- مطامعًا بالأرخبيل الاستراتيجي، فزرعت العديد من جمعيات المساعدات الإنسانية. وعادة ما يتم التحذير من شهري يوليو/ حزيران وأغسطس/ آب، بسبب سوء الأحوال الجوية، وعدم استطاعة السفن الاقتراب من شواطئها؛ ما يضطر الأهالي خلال هذه الفترة إلى تخزين المواد الغذائية تجنبًا للوقوع في حالة حصار معيشي.
السياسة وفسادها
في الطرق رأينا نقاط تفتيش، منها واحدة في شرق حديبو، وثانية في غرب المطار والمعسكر، وأخرى توجد قرب منطقة دكسم. ترفع هذه النقاط الأعلام الإماراتية وأعلامًا شطرية، لكن عدد الأعلام الإماراتية أكثر.
حاولنا تقصي أثر التدخل، لدى العامة، إلا أن التقية السياسية التي يبديها أهالي الجزيرة، تحيل إلى شكل العلاقة التي تريدها الإمارات مع سكان الجزيرة، من خلال محاولات استمالتهم، وخلق نوع من الاتصال الديمغرافي معهم.
ويذكر أن شبكات الإنترنت في سقطرى تعتمد على شرائح سعودية وإماراتية، حيث لا توجد شبكة اتصالات في سقطرى، باستثناء شبكة يمن موبايل في حديبو.