معركة مأرب.. “ستالينغراد اليمن”
بقلم/ عمار الأشول
ليست هذه المعركة الأولى في مأرب، لكنها الأعنف، وتكاد أن تكون الفاصلة. معركة يستحيل التكهّن بهوية المنتصر فيها، نظراً للرمال المتحركة هناك، والبراغماتية التي تتمتع بها القبيلة اليمنية، فضلاً عن تناقض المواقف الدولية، لكن ما يمكن الاتفاق عليه هو أهمية هذه المعركة ومركزيتها في تغيير مسار الحرب، وشكل التحالفات، ووجه البلاد.
بدأت هذه الحرب في مأرب منذ مطلع 2015، ولأنها لم تُحسم بعد؛ فإن جولاتها لاتزال تتابع، تارةً تتقدّم فيها جماعة الحوثي وفي أحيان أخرى تتراجع، ومع ذلك، لاتزال هذه الجماعة تنتهز الفرص قبل كل جولة جديدة، وتستغل لحظات استرخاء الخصم. في المقابل، يقف على الطرف الآخر لفيف من الفاعلين المنضويين تحت مظلة حكومة الشرعية (برئاسة عبدربه منصور هادي)، يجمعهم عداء الحوثي، وبوصلة واحدة، يقولون انهم حددوا وجهتا نحو صنعاء.
بعد سيطرت جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) على العاصمة صنعاء ومحيطها في أيلول/ سبتمبر 2014، هدّد زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، في مطلع كانون الثاني/ يناير 2015 باجتياح محافظة مأرب، بمبرّر أن هناك مؤامرة لإسقاطها بيد من وصفهم بـ”التكفيريين” و”القاعدة”، ليتجه أنصاره بالفعل نحو محافظة مأرب شمال شرقي صنعاء (170 كم). وعلى إثر سلسلة من الهجمات الواسعة، وصل الحوثيون في مطلع آذار/ مارس من العام نفسه إلى غربي وشمال غربي المحافظة، لكنهم بعد ستة أشهر من القاتل الدامي، فشلوا في الدخول إلى مدينة مأرب، بعد أن تصدت لهم قوات عسكرية، وقبلية، وأخرى عقائدية تتبع حزب “الإصلاح” (الإخوان المسلمين)، وهذا الثلاثي، هو نفسه الذي يستمر بخوض المعارك ضد الحوثيين في مأرب حتى يومنا هذا، مسنوداً بدعم عسكري من “التحالف” بقيادة السعودية.
مأرب قبلياً وتاريخياً
وقبل التعليق على المعركة الدائرة في مأرب ومآلاتها، لا بد من التعريج على خصوصية هذه المحافظة، سيّما من زاوية الصراع مع الحوثيين. إذ أنه لدى مأرب مزاج قبلي وخلفية ثقافية وتاريخية تختلف نسبياً عن باقي محافظات الجمهورية اليمنية، حيث ظلّت لقرون طويلة غير مرتبطة بالدولة المركزية في مرتفعات الشمال وبعيدة كل البعد عن الصراع على السلطة، حتى أنه لم يطلها حكم العثمانيين، كما لم تخضع لحكم الأئمة الزيديين (الشيعة) الذين حكموا شمال اليمن على فترات متعددة آخرها من 1918 – 1962، بل لقد وصل الأمر بأن قام شيخ مشائخ قبيلة مراد، علي بن ناصر القردعي، في شباط/ فبراير 1948 بإغتيال الإمام يحيى حميد الدين، مؤسس وإمام المملكة المتوكلية الهاشمية.
اليوم تنطلق معظم قبائل مأرب في مواجهتها مع الحوثيين باعتبارهم يشكلون إمتداداً لحكم الأئمة الزيديين، كون أبرز القبائل فيها، مثل مراد، عبيدة، الجدعان، وبني عبد، تتبع المذهب الشافعي (السني)، بالإضافة إلى قبيلة بني جبر التي هي (زيدية) وتتفق معها في المذهب والموقف من الحرب ثمة شريحة سكانية أخرى غير قبلية لكنها مؤثرة تُعرف بعائلة الأشراف الهاشمية، وهذا لا ينفي وجود شخصيات أو شرائح اجتماعية من هذه القبائل أو تلك تقف في هذه الحرب مع هذا الطرف أو ذاك برغم اختلافها معه من الناحية المذهبية، لكنها لا تعدو عن كونها شاذة أو أقلّية.
لكل هذه الأسباب وغيرها، يمكن القول إن غالبية محافظة مأرب بيئة غير حاضنة للحوثيين، وهو ما يفسّر بطء دوران عجلتهم هناك برغم كثافة الهجمات التي يشنونها، بعكس هرولتهم في محافظات شمال الشمال.
مفاوضات سرية ولكن
لم يعد سراً القول إن إصرار الحوثيين منذ 7 شباط/ فبراير الماضي على اقتحام مأرب يهدف إلى فرض أمر واقع قبل أي محادثات سلام، سيّما بعد أن ظهرت مؤشرات دولية بإتجاه إنها الحرب في اليمن، أبرزها موقف الإدارة الأمريكية الجديدة التي أعلنت ضرورة إنها الصراع في هذا البلد، واتخذت العديد من الإجراءات تمهيداً للعب دور رئيسي في عملية السلام، والتي كان أبرزها شطب جماعة “أنصار الله” من قائمة الإرهاب، وتعيين مبعوث أمريكي إلى اليمن تيموثي ليندركينغ، وصولاً إلى خوض أول جولة مفاوضات سرية، غداة الإنتخابات الأمريكية، كشفت وكالة “رويترز” أنها جرت في مسقط، في 26 شياط/ فبراير الماضي، وجمعت المبعوث الأمريكي ليندركينغ وكبير المفاوضين الحوثيين محمد عبدالسلام.
نجاح أية محادثات جديدة غير مضمون بالنسبة للحوثيين، سيّما وقد سبقتها محادثات سابقة كان مصيرها الفشل، وبالتالي، فإن فرض أمر واقع قبل أي محادثات، ليس الهدف الرئيس أو الوحيد من سعيهم الحثيث وراء اقتحام مأرب. كما أن قيمة مأرب لا تقتصر على كونها غنية بالثروة النفطية، برغم أهميتها، إنما تتمثّل أيضاً في مكانتها التاريخية، فهي لم تكن عاصمة سياسية لمملكة سبأ، فحسب، بل وقبلة للعديد من الديانات القديمة، فضلاً عن احتوائها على نسبة كبيرة من الآثار اليمنية، سواء تلك المحصورة أو المطمورة، وبشكل عام، فإنها متحف مفتوح تُعرض فيه العديد من الآثار والمعالم التاريخية في الهواء الطلق.
ومن الناحية السياسية والعسكرية، تكمن أهمية مأرب في كونها الملاذ الأخير للحكومة المعترف بها دولياً، وباعتبارها المقر الرئيسي لعمليات “التحالف” بقيادة السعودية. ما يعني أن السيطرة على مأرب، تُحصّن الحوثيين من الخطر الذي كاد أن يطرق أبوابهم في صنعاء خلال جولات الحرب السابقة، ويوفر لهم سيطرة على كل المحافظات في شمال اليمن، ولهذا فإن جماعة الحوثي ترى في مأرب صيداً ثميناً وهدفاً استراتيجياً متعدد الأبعاد.
واشنطن من النقيض إلى النقيض!
وبالرغم من الكلفة البشرية والمادية الكبيرة التي يقدمها الحوثيون، إلا أنهم لا زالوا يهاجمون مأرب بضراوة، لكنهم في مقابل ذلك، يواجهون مقاومة مستميتة من خصم يرى أن هذه المعركة وجودية، وبخسارتها لن يجد له موطئ قدم في شمال اليمن، ولا “مرحباً” في الجنوب، خاصة في ظل سوء العلاقات بين الحكومة الشرعية ودولة الإمارات التي لها أذرع طويلة في المحافظات الجنوبية، كذلك الخلاف الكبير بين حزب “الإصلاح” والكثير من القادة الشماليين من جهة، والمجلس الإننتقالي الجنوبي المدعوم اماراتياً من جهة ثانية، وأخيراً فإن خيار النزوح غير وارد لدى أغلب قبائل مأرب.
كل هذه التعقيدات، تقلّل من نسبة استشراف ما ستؤول اليه المعركة في مأرب، لكن الثابت هو أن الفرص تتزاحم أمام الحوثي وتتضاءل أمام خصومها، بدءاً بالفرصة المجانية التي حصل عليها الحوثيون في بداية مشوارهم نحو السلطة، والتي ما زالوا يستغلونها حتى اليوم، وهي غياب القائد في معسكر الشرعية وتعدد الأجنحة فيه، أما أحدث الفرص، فتتمثل بخروج الجمهوري دونالد ترامب من البيت الأبيض ودخول الديموقراطي جو بايدن محله، وبهذا التغيّر، تغيّرت ملامح السياسة الأمريكية من النقيض إلى النقيض تجاه اليمن وإزاء الفاعلين الإقليميين المؤثرين فيه كإيران والسعودية، وهو ما شكّل فرصة ذهبية للحوثيين، استغلوها بتكثيف هجماتهم على مأرب، سيّما بعد تعليق الدعم الجوي الأمريكي، ما انعكس بدوره على تقليص طلعات سلاح الجو السعودي على اليمن.
لقد سبق ان شهدت مأرب منذ مطلع 2015 معارك عدة على أسوارها، تشابهت جميعها من حيث الهجوم والهجوم المضاد، وما يترتب عليه من استنزاف للمقاتلين، لتكون النتيجة في نهاية كل جولة: لا نصر ولا هزيمة، لكن المشهد في هذه المعركة مختلف، حيث لا يرى الحوثيون سوى مواصلة الزحف حتى إسقاط مأرب، أو على الأقل السيطرة على منابع النفط والغاز فيها، تتفق معها التشكيلات المنضوية تحت مظلة حكومة الشرعية، التي لا ترى غير استمرار القتال حتى قلب المعادلة، لذلك يبدو المشهد في مأرب كمعركة صفرية لا نية لطرفيها بالتراجع مهما بلغت الخسائر المادية والبشرية.
سيناريوهات الحرب
في كل يوم يمر تتضاءل فرص السلام ويتعزز خيار الحرب لدى أطراف الصراع في اليمن، خاصة بعد التطورات الميدانية التي صبت في صالح الحوثيين خلال الفترات الماضية، حيث باتوا يسيطرون على أغلب المحافظات الشمالية، كما أنهم يرون، بناء على تجارب سابقة، أن ما يحققونه في الحرب لا يطالونه بالسلام، وبالتالي فإن سقف مطالبهم قد ارتفع عمّا كان عليه قبل حصولهم على العديد من المكاسب، بل لقد وصل بهم الامر إلى تقديم أنفسهم كممثل رئيسي إن لم يكن الوحيد للبلاد، وفق ما جاء في رؤيتهم للسلام. وهو ما لا يقبله خصومهم الذين لا زالوا متمسكين بالمرجعيات الثلاث المتمثلة في قرار مجلس الأمن رقم (2216)، والمبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني. فضلا عن ذلك، هناك مطبات إقليمية تعيق رمي السلاح والتوجه نحو المباحثات، أبرزها ارتباط جماعة الحوثي بطهران ومصادرة قرار حكومة الشرعية من قبل الرياض، ما يعني أن أي حل في اليمن لا بد أن يرتبط بملفات إيران المعقّدة، واجندات السعودية المتعددة، وقبل ذلك انخفاض درجة التوتر في علاقة هاتين الدولتين. لهذا فإن وقف القتال والذهاب إلى محادثات السلام قبل تحقيق أي انجاز عسكري نوعي لصالح أحد الأطراف، يظل سيناريو مستبعداً حتى الآن.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل باستمرار حالة اللا حرب واللا سلم، من خلال استنساخ اتفاق “ستوكهولم” الخاص بمحافظة الحديدة وتطبيقه على مأرب، بحيث تراقب الأمم المتحدة عبر قوات دولية نقاط التّماس، وتشرف على توزيع الثروة بين الأطراف. لكن نسبة تحقق هذا السيناريو تبدو ضئيلة، وذلك لعدة أسباب، أبرزها وجود رغبة مشتركة لدى العديد من الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين في استنزاف وانهاك حركات الإسلام السياسي ممثلة بحزب “الإصلاح” وجماعة “أنصار الله”.
وبحسب الكثير من المؤشرات، فإن ثمّة سيناريو ثالث يبدو أكثر ترجيحاً من سابقه، وهو استمرار المعركة في مأرب إلى أن يتم حسمها لمصلحة أحد الأطراف، ومن ثم يتم رسم مستقبل الأحداث في اليمن وتحديد وجهتها بما يتوافق وينسجم مع حجم المكاسب التي سيحصدها المنتصر. يعزز هذا السيناريو موقف المجتمع الدولي، الذي بدا متراخياً بالرغم من المخاطر الإنسانية التي تهدد ما يناهز مليوني نازح يتوزعون على مدينة مأرب والمخيمات القريبة منها.
في مأرب، نحن أمام معركة ستغيّر وجه اليمن كما غيّرت “ستالينغراد” وجه العالم، ويأتي هذا التشبيه انطلاقاً من شدّة المواجهة، والتهامها للمقاتلين، والاستعداد للسير فيها حتى النهاية، والأهم، من حيث التحوّل في المشهد اليمني الذي سيترتب على نتائجها.
*موقع “180post”