موكا.. هل خرجت أسماك القرش لتنهشها أم أكلتها أسماك البر؟ بقلم/ محمد عبدالوكيل جازم
بقلم/ محمد عبدالوكيل جازم
ما أكثر المرات التي ذهبت فيها إلى مدينة المخا “MOCHA”، الواقفة على ساحل البحر الأحمر- غرب مدينة تعز بـ98 كم- وما أكثر المرات التي سحرني فيها شاطئ هذه المدينة الغاربة والموغلة في القدم. لقد كنت أظن أحيانًا أن بحرها دواء للعين، وأن زرقته شفاء للروح، وأن ماءها الطهور النقي الساخن أشبه ما يكون بحمام تركي لذيذ. قبل زيارتي الأولى بأيام قال أحد الأكاديميين: “لا أدري لماذا يتباكى بعض اليمنيين على مدينة المخا؟”، وأردف: “إنها مدينة أدت دورها وكفى؛ كل شيء يا صديقي له عمر وتاريخ صلاحية!” قلت له: إلا المدن الخالدة، خذ مثلًا صنعاء والقدس وعدن والإسكندرية وروما؛ هناك مدن قديمة قِدَم التاريخ؛ أما المخا، التي ارتبط اسمها بالبن اليمني الشهير، فلا يمكن أن يأفل نجمها؛ لأنها التحمت وجدانيًّا بالناس والتاريخ وبائعي الفرح من متذوقي البن ومزارعيه وتجاره. وذات يوم كانت هدفًا للسفن الأوروبية العملاقة، ساحة للتباري بالبورصة والمقايضة النفيسة، مدينة من فلٍّ وذهب وأسماك، وأما البن اليمني عالي الجودة فقد كان بترول عصرها؛ تخيل أنه ما من شيء كان يهمي -مختلطًا برذاذ البحر على ذلك الساحل- سوى رائحة البن، وما من شيء كان يسكر الأحياء والبنايات المواجهة للبحر ومقاهي الوافدين غير البن. أعرف بأنك الآن تصفني بالمشدود إلى الماضي، ولكن الخيال مهم يا صديقي؛ وحده من يستطيع إطلاق الأعياد المتجددة، ووحده من يستطيع أن يجعل القلب طريًّا ومكسوًّا بالخضرة، ووحده من يستطيع أن يعيد المخا إلى متعتها المنسية ونهارها المهرجاني الأزرق، ونورها السماوي الذي انقطع عن المجيء وما انقطعت ذبذباته عن التلويح بالمناديل المعطرة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أنه يكاد يكون الفرنسي جيرار نيكو آخر الصحفيين والرحالة الأجانب الذين زاروا المخا وخرج منها بانطباعات عديدة، منها قوله: في المخا تتبادر إلى ذهنك الأغنية الفرنسية “كانت هنا مدينة ولم تعد موجودة”. في مكان آخر من مقالة كتبها عن: طريق البن بين اليمن وأثيوبيا، تساءل جيرار: “ماذا جرى؟ أين هي السفن المحملة بالبهارات والقطن؛ القادمة من الهند التي ترسو لتضيف أكياس البن إلى حمولتها؟ أين ذهب الرخاء الذي لم يكن له نظير؟”. ولا أجد حرجًا من القول إن مثل هذه الكلمات كانت تصيبني بالعمى، وكان يتحول حزني عند سماعها إلى ألم؛ هل حقًّا لم يعد للمدينة أثر؟ وهل حقًّا ليس هناك ما يشير إلى روح تاريخها أو شكل جسدها؟ وأن سفن الرخاء التي كانت تنحني أمام قدميها لم تعد هناك. أعرف أن ما قاله الرحالة فيه الكثير من الصدق، ولكن لا أدري لماذا كنت أحس أن ما يربطني بالمخا أجل وأكبر، وأن ما يحدث لها هو أمر خارج عن إرادتها، وأنها حتمًا ستعود ذات يوم إلى عقدها اللؤلؤي المنضود، وسوف تتقاطر جنبًا إلى جنب بمعية الحديدة وميدي وباب المندب وعدن ونشطون والصليف وبلحاف والمكلا والشحر، وسوف يزدان العقد اليمني الفريد بالجوهرة سقطرى.
تذكرت، وأنا أدور بين البنايات الخربة، إحدى المحاضرات التي سمعتها من عالم الجغرافيا الشهير “شاكر خصباك”، حين تحدث عن المخا بحزن وحزم هذه المرة، قال: “انتبهوا أيها اليمنيين. لن أجاملكم؛ لأن الأمانة العلمية تقتضي قول الحقيقة، أنتم أضعتم أمجادًا كثيرة، وأهمها هذه المدينة المخا”. وأردف: “هل تتصورون بأنه في إحدى رحلاتي إلى أمريكا بحثت عن شيء أفتخر به أمام مجموعة من الأجانب، وهم يسألونني: من أين أنت؟ يومها تبادر إلى ذهني ونحن معًا نرتشف “كوفي موكا” أن أقول لهم: “مِن هذه البلاد التي تصدر هذا البن من “موكا” المخا، وكان أن اتضحت الصورة أمامهم وازداد إعجابهم بي، وهكذا كلما جاء أحدنا بما يفيد البشرية ويعمرها”. إلى هنا وينتهي حديث الدكتور شاكر، وبالمقابل نما في ذاكرتي ذلك الصوت الانهزامي الكسول الذي أراد أن نحفر قبرًا عميقًا لهذا المدينة التاريخية لكي ندفنها، وأراد أن نسحق معلمًا حيويًّا تعلو رائحته الزكية في كل فنادق العالم. لا أدري –حقًّا- كيف غاب عن هذا المتحدث أن السياحة اليوم هي التجارة الرابحة في هذا العالم الفسيح، وأن التنوع الجغرافي الحامل للمغايرة يخفي الكثير من الدهشة للسائح الغريب.
ترد أول إشارة لميناء المخا إلى العصور الغابرة وربما المغرقة في القدم؛ حيث إن النقوش الحميرية تذكرها باسم “مخن” أو “مخان”، ويبدو أنه كان ميناء حربيًّا تابعًا للدولة الحميرية التي اتخذت من ظفار عاصمة لها حيث تعاقبت عليها العديد من الديانات، منها اليهودية والمسيحية والآن الإسلامية. وإبان حكم الحميريين كانت المسيحية هي الديانة الرسمية للبلد، الأمر الذي أغرى أحد العسكريين بدخول المخا وتحطيم كنائسها؛ لأنها ما زالت تدين بالمسيحية لقربها من الحبشة الواقعة على الضفة الأخرى.
ما ذكرته عن جيرار قرأته قبل سنوات، وفي هذه الأثناء تدور رحى حرب طاحنة في هذه المدينة الساحلية المنسية، لتمنحها وجعًا إضافيًّا وهو ما يعني أن الأمر ازداد سوءًا. المخا مدينة نساها الكتاب ونساها الحكام ونساها المؤرخون؛ لكنها صامدة تبحث دائمًا عن أفكار جديدة لاستعادة شجن الماضي. على ساحل البحر الأحمر تقف هذه العروس البحرية منذ بداية التاريخ، تكافح من أجل البهاء والبقاء، وكلما حاولت السير جاءت أسماك القرش من اليابسة وأكلت أجنحتها، وكلما أثخنتها الجراح قشّرت جلدها بملوحة الماء؛ وطفقت تغني بثبات راعية وشوق صياد فكر بالانتحار ذات موجة؛ لكنه عاد إلى الحياة وكأن شيئًا لم يكن.
يزورها الغرقى في الليل فتخرج عارية، حاملة معها أرواح الأجداد؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، جاؤوا إليها منفيين من سواحل إفريقيا الشرقية، وصلوا يقضمهم الجوع والبرد والعطش فاحتضنتهم؛ وأدخلتهم إلى قصور قلبها، وراحت تواسي جراحاتهم المثخنة بالوجع.
في الأزمنة القديمة كانت أصابعها تتلقف العمال والتجار والملوك والرحالة، تبادلهم التحايا وتنحني للوافدين من أوروبا وشمال آسيا؛ فرس وهنود وأفغان وأتراك، برتغاليين وإنجليز، فرنسيين وإسبان وهولنديين، وآخرين تقطعت بهم السبل. لا يمكن أن ترى في وجوه سكانها سوى الخدود الممتلئة بالبشاشة، ولا يمكن أن ترى في عيونهم سوى أجراس كنائس الرحالة الذين مروا من هنا، ولا يمكنك أن ترى في أجسادهم سوى شموخ المآذن، من ملامح قبابها يولد السلام، ومن إيقاع بحرها ترتفع الموسيقى والرقصات، إنها مدينة المخا المتمسكة بملامح مدن القرون الوسطى الملونة كنورس، والمتألبة كنسر يستعد لإعادة بهجته الجديدة.
في المخا تذهب بك السيارة إلى أبعد نقطة على ساحل البحر؛ إنها النقطة التي تطل منها المدينة على جبال إفريقيا؛ التي يقال بأنه يمكن رؤيتها إذا صفت الغيوم. واليوم في هذا المكان لا شيء يقيم سوى الدمار وأشباح الذين عبروا والذين يقفون في الصف ينتظرون مجيئهم؛ على الرغم من أنها مدينة بيضاء ممتلئة بالضوء. هي واحدة من المدن النادرة التي نستطيع الحديث عنها فيما يخص الضوء ومقدار وضوحه وخفوته بسبب وقوفها العالي والأزلي أمام الشمس حين تشرق أو تغيب، لكنها اليوم –ويا للأسف- تبدو وكأنها مدينة بلا لون، مع أنها لمن يسبر غورها بيضاء وشمّاء، أنيقة بما يكفي لأن تعشقها وتتغزل بها. عشرات البيوت وربما المئات ليست سوى هياكل عظمية، تحكي أيام مجد نأى. أنت لا تدري أين أصحاب المنازل المهجورة؛ أمَا زالوا على قيد الحياة أم ماتوا وشبع منهم الموت؟ ترى لماذا هجروا مثل هذه المنازل البديعة التي تعلوها أبهة غابرة. هناك بنايات ذات طابق وطابقين وثلاثة وأربعة، بنايات بواجهات معبأة بالزخارف والأحزمة التي عجنتها أنامل حريرية، ما زال حفيف أصابعها يصل رغم البعد. ثمة قمريات مستديرة وأخرى أسطوانية، ثمة مشربيات؛ يا لجمال المشربيات حين تتوسط الطوابق كلها. النوافذ متوسطة –أيضًا- وتطل على أفق لازوردي.
ألتفتُ إلى قسم آخر من المدينة وواجهات أخرى؛ فكانت المفاجأة ما رأيته. لقد كان ضربًا من اللامعقول، شيئًا ما أبعد من سريالية السرياليين وليس من الواقعية بشيء. كل ما يمت بصلة للتاريخ كان عبارة عن ركام، أشلاء البيوت المرمية بإهمال ندت من كل مكان دماء الأحجار، والأبواب، والنوافذ متروكة أمام الحر، والبرد، والملوحة، وأيادي العابثين، وطنين البعوض، والذباب، كروش الآثار منقوعة على رؤوس الأشهاد…؛ ماذا يمكن أن نفعل للمخا؟ عندها تذكرت معلقة امرؤ القيس وقلت لصحبي: “قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ”، بدت وكأنها فتاة يتيمة، لا أب لها ولا أم ولا إخوة يذودون عنها صلف الشياطين. قال أحد الأصدقاء –أظنه الأكاديمي- ونحن نمر بين خرائبها: كأن بيكاسو استوحى لوحته الشهيرة “صرخة الجورنيكا” من هنا، من هذه الأطلال البائسة، وقال آخر: يبدو أن التتار مرّوا من هنا، وقال ثالث: يبدو أن إعصار كاترين مدّ ألسنته إلى هنا.
ها أنا أودع المدينة التي وُصفت –اليوم- بأنها “كانت ولم تعد”، متذكرًا كتب الرحالة الذين قالوا: في عام 1709، كانت المخا من أشهر موانئ الشرق، ومردّ ذلك يعود إلى أهميتها في تجارة البن اليمني الشهير، ففي هذا العام وصلت البعثة التجارية الفرنسية الأولى إلى اليمن، وكان من أهم أهدافها الوصول إلى المخا؛ حيث رأى الفرنسيون إقامة علاقة مباشرة بين التجار اليمنيين والفرنسيين، بدلًا عن الوسطاء الهولنديين والأتراك والإنجليز، كما ورد في كتاب “اليمن في عيون الرحالة الأجانب”، الذي قال أيضًا: “ظهرت المخا للفرنسيين من على بعد ستة أميال مُشكّلة بأبراجها العالية ومساجدها المطلية من الخارج باللون الأبيض منظرًا بديعًا، ويطل على الميناء حصن يتولى حمايتها، الميناء محاط بلسانين من اليابسة لهما شكل قوس وكأنهما معًا يشكلان هلالًا مكتملًا، وعلى طرف كلٍّ منهما حصن لحماية مدخل الميناء وتفصل بين الحصنين مسافة لا تزيد عن ميل واحد، ترسو فيه السفن الكبيرة”.
دعوني أخيرًا أُطمئن صديقي الأكاديمي وجيرار ورفات الدكتور شاكر خاصباك، دعوني أقول لهم: ما زال هناك بصيصٌ من الأمل ورمق أخير لا يمكن أن ينطفئ أبدًا. وما زال باستطاعتنا الإمساك بقتلة المدينة، وما زال بمقدورنا بعثها من جديد. المخا لم تمت لكنها دخلت محطات جديدة، وربما تموضعت في مكان آخر من هذا الكون الفسيح، لكنها حتمًا تنتظر دورتها القادمة. فقط علينا أن نوثق لحلمها، لعاداتها، وتقاليدها القديمة، لمن نست أسماك القرش نهش أعمارهم.