الجنوب المحتل : نجح الخليج فيما لم تفلح فيه بريطانيا العظمى “2 – 2 ” بقلم / نصر صالح
بقلم/ نصر صالح
أرجح أن الناس في عدن وتعز، أمام اجتياح قوات الحوثي/ صالح لمدينتيهم كانوا في حالة من الذهول والجزع وفي حيرة مما جرى عليهم بغتتة.. بخاصة وأن الإجتياح تزامن مع استدعاء هادي في 24 مارس 2015 للعدوان الأجنبي على البلد، فيما باشرت السعودية الحرب سريعا في 26 مارس 2015، وكأن الاستدعاء لم يفاجئها، وإنما كانت تستعد للحرب منذ وقت طويل.
ولعل حيرة الناس كانت بين بديهية اتباع فطرتهم ومقاومة الغازي الأجنبي لبلدهم.. وبين أن يستسلموا لـ «توجساتهم» من ذلك «الغزو الداخلي» المباغت، في لحظة ملتبسة، ونماها الإعلام الخليجي والأخواني مع إعلام أحزاب المشترك اليمنية.. وبين البقاء يتفرجون بذهول المشهد الملتبس وحسب.. وأظن ان هذه الحالة هي التي غلبت على كثير من العامة.. واظنها لا زالت كذلك حتى اليوم! [وأنا هنا لا أقلل من قدر العامة. لكن يُخيل إليّ أن هكذا هو الواقع. واعتقد أنها حالة بشرية طبيعية، يُمكن توقع حدوثها في أي بقعة في العالم في هكذا ظرف ملتبس وبهكذا ملابسات. كما انني لا أبرر ولا أدين ما حدث، وازعم أنني أوصف بموضوعية ما حدث].
ووسط معمعة الحرب، كحال كل البشر، ظهر بعض الشباب الغر الذين -لا شك- تغريهم تجربة حمل السلاح واستخدامه لأول مرة في حياتهم، بخاصة وأن السلاح -في عدن مثلا- ظهر فجأة وكان متاحا على نحو مغر لأي فتى غر. وعمدت طائرات «التحالف» على إسقاطه بالبارشوت «بالمجان وبسخاء» على مختلف أحياء عدن.
وحتى هؤلاء الشباب، أظنهم -كذلك- كانوا محتارين: هذا السلاح الذي صار فجأة بأيديهم، هل يستعملونة في وجه هؤلاء اليمنيين الذين نصفهم شعث غبر وحفاة؟!!.. الذين باغتوا الجميع باجتياح مسلح غير مفهوم لمناطقهم؟! فيما كانت سبقتهم شائعات تشيطنهم من قبل الإعلام السعودي والخليجي عموما وذلك على نحو غير مألوف، ووسط عملية تحريض مكثفة منظمة غير مسبوقة على قتالهم «كجهاد فرض عين» باعتبارهم «مجوس» خارجين عن الدين، عبر مكبرات أصوات معظم مساجد عدن، بخاصة المحسوبة على «الإصلاح الأخواني» وعلى «السلفية الوهابية» وتدعوا لمؤازرة عبد ربه منصور هادي، رغم أنه فر مجددا وغادر عدن قبل 24 ساعة من وقوع الحرب.. (علما أن ائمة المساجد كانوا يركزون فقط على مقاتلة الحوثيين دون ذكر العسكريين المحسوبين على الرئيس السابق علي عبد الله صالح والذين كانت نسبتهم تفوق نسبة المسلحين الحوثيين بعدة أضعاف).
ولا ريب في أن كل ذلك الكم من التحريض كان له التأثير النفسي/ المعنوي على الرأي العام المحلي باتجاه معاداة «الحوثة» وجواز مقاتلتهم، الذين، إلى جانب اتهامهم بالخروج عن الدين الإسلامي، وُصفوا بأنهم أناس غلاظ قساة و«همج» وهم أفضع بكثير من قوات صالح التي اجتاحتهم مطلع مايو 1994م ونكلت بهم بعد هزيمة 7 – 7 – 1994.. وإزاء كل ذلك كان من البديهي أن يفضل الشباب الغر، غزاة الخارج (المهندمين الأثرياء)، بخاصة وأن العالم كله -تقريبا- كان مؤيدا لحربهم على اليمن بذريعة إنهاء «إنقلاب الحوثي» و«إستعادة «شرعية هادي».. والحقيقة أن لا ذاك إنقلابا (حيث لم يكن الحوثي في السلطة لينقلب عليها)، ولا هذا شرعيا (حيث ان هادي انتهت ولايته للفترة الانتقالية قبل نشوب الحرب بوقت، وفق «المبادرة الخليجية» التي حددت ولايته لفترة إنتقالية بعامين فقط).
المهم؛ صار ما صار، و«طنش» معظم أهل الجنوب عن غزو بلادهم من قبل تحالف عسكري اجنبي على رأسه السعودية التي كانت حتى ذلك الوقت يعتبرونها عدوهم التاريخي.
ولهذا، عندما يقال كيف انجر كثير من شبابنا في الجنوب اليمني الثائر ضد الإستعمار البريطاني في الستينات إلى صف المحتل الاجنبي، الرجعية العربية؟ .. هذا الجنوب الذي كانت «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» رائدة في دعم حركات التحرر العربية والعالمية من الإستعمار، الداعمة للقضية الفلسطينية وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، والمعادية للإمبريالية الأمريكي، كيف تنشأ فيه تكوينات عميلة للرجعية العربية، بل وتشهر تقاربها من العدو الصهيوني؟.. نقول لهم «لا تغفلوا الأسباب الموضوعية القاهرة والعوامل الضاغطة بشدة التي تسببت في هكذا تحول مؤسف».. وعموما هو تحول مؤقت، وسيعود الجنوب الى موقعه الطبيعي بمجرد زوال المسببات والدوافع الجبرية، وحتى هذا المكون الجنوبي الذي اعلن انه سيتحالف مع العدو الصهيوني سيعود أيضا دون شك، وهو إنما «يتكتتك» ببلاهة على نحو مكلف، ويعلم ذلك داعمه.
أتذكر أن إعلام المسيرة في تلك الأيام العصيبة كان برر دخول قوات الحوثي الجنوب وعدن بداعي محاربة «داعش والقاعدة» في الجنوب. والواقع أنه، برغم إقرارنا بوجود أعداد لا بأس بها من هذه العناصر التكفيرية، لكن الهدف في الحقيقة كان «الفار هادي»، الذي فر من صنعاء وجاء يستنجد بأبناء جلدته الجنوبيين في 20 فبراير 2015. وأمّا عن «داعش والقاعدة» فهم معزولون تقريبا في مناطق جبلية بعيدة، وليست لديهم حاضنة شعبية في الجنوب. كما أنهم لم يكونوا بذلك الحجم وتلك القوة بحيث يعتبرون خطرا كبيرا على الدولة والمواطنين يستوجب أن تُشن عليهم حربا واسعة على ذلك النحو، وبالذات في تلك اللحظات العصيبة التي يتعرض فيها البلد كله لعدوان عسكري غاشم تحالفت عليه فيه جيوش 17 دولة بعضها دول كبرى، وباشرت طائراتهم تدك صنعاء على مدار الساعة، وتقصف البيئة التحتية والمعامل والمصانع اليمنية، ومحطات الكهرباء، ولم تسلم المواقع الأثرية وحتى بيوت المواطنين العاديين من القصف والتدمير.. لاسيما في مناطق الشمال.
..أمّا في مناطق الجنوب، فقد تمكن الإحتلال الخليجي منّا -على نحو ما- وأوقعنا في بعضنا، وأشغلنا بنزاعات وخصومات داخلية، بعضها قديم نجح في إحيائها من جديد، وبعضها آني افتعلها عبر أدواته المحلية.. فيما هو تفرّغ بإطمئنان لترسيخ إغتصاب أرضنا وتنظيم نهب ثرواتنا من نفط وذهب وأحياء بحرية ونباتية (كما هو الحال في سقطرى). كما أنه -للأسف- نجح في إقناع السذج فينا (وهم كثر) بأن إحتلال قواته المسلحة للأراضي والجزر الجنوبية هو «تحرير» لها (وليس إحتلال عسكري أجنبي موصوف). بل ومن فرط ثقته بنجاح مخططه الماكر (فرق تسد) فقد راح يستدعي قوات عسكرية صهيونية (عيني عينك) إلى جزرنا التي تمكن من الاستيلاء عليها بالحيلة والمكر و«بالرشاوي» المجزية، وأنشأ الجماعات المسلحة (المعروفة) لحمايته ولتستخدم سلاحها لإسكات أي معارضة وطنية مقاومة لإحتلاله. علما أن جميع جزرنا كانت خالية من أي وجود حوثي أو إيراني (شماعته وذريعته في حربه على اليمن) كما كانت خالية من أي وجود مسلح يذكر، يمكن أن يمثل تهديدا لأمن دولهم القومي.
.. كذلك نجح الخليجي في إشغال كافة الأطياف والأحزاب والجماعات بمحاربة بعضها البعض، وسلّح ومول بعضها لمقاتلة بعضها الآخر. ونجح في إغراق بقية المواطنين بأزمات الغلاء الفاحش وانقطاعات الماء والكهرباء المتواصلة، واللعب برواتب العمال والموظفين. وشجع المسلحين (المتنفذين الجدد) على نهب أراضي الدولة في عدن وتخريب معالمها التاريخية، وعلى افتعال الإختلالات الأمنية.. وجعل كل مواطن مكبلا بهمومه ومعاناته الخاصة، منصرفا عن ما يقوم به الإحتلال الخليجي بأرضه وثرواته. بل ونجح الخليجي في أستغفال السذج (وهم كثر) فأوهم هذا الطرف بأنه سيدعمه لتحقيق قيام الدولة الإتحادية (الأقلمة) التي يرفع شعارها هادي، وأوهم ذاك الطرف بأن يعيد له نظام حكم السلاطين، وبذات الوقت أوهم الحراك الجنوبي بتمكين الجنوبيين من إستعادة دولتهم العتيدة (التي -لا شك- يتوق إليها كثير من الجنوبين، بسبب ما عانوا من ضيم خلال فترة ما بعد 1994).
والخليجي -حتى الآن- لم يف بأي وعد وعده.. وأعتقد أنه لن يفي -مطلقا- بشيء مما وعد، بخاصة وقد بدأت الحرب تلفظ انفاسها الأخيرة، ولا مؤشرات ظهرت على شيء مما وعد.
والخليجي لن يفي بوعوده، ليس لأنه غير راغب، ولكن لأنه غير مسموح له بذلك من قبل مشغله العالمي.
فمن ناحية، يعتبر المشغل العالمي أن إستقرار اليمن واستعادة عافيته يشكل خطرا محتملا على أمن «إسرائيل» وهذا «بيت قصيد مخطط الشرق الأوسط الكبير/ الجديد». ومن ناحية أخرى يعتقد الخليجي أن قيام دولة يمنية قوية مستقرة يشكل خطرا على وجود دويلاته وعلى إقتصاده في المقام الأول، ذلك أنه يخشى من أن اليمنيين ككل، عندما تستقر أحوالهم وتقوى شوكتهم، فهم لن يلتزموا مجددا بالحظر (غير المعلن) على استثمار نفطهم المدفون في حوض «الجوف – مأرب – شبوة – حضرموت» وحوض «خليج عدن – سقطرى»..
كما أن الخليجي ضد قيام دولة جنوبية على نمط «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» التي كانت ترعبه في السابق، فكيف لو عادت مجددا، واعادت ترميم توجهها السياسي والاقتصادي، مستفيدة من تجاربها المتراكمة دون ريب، وصارت أكثر قوة وثبات مما كانت عليه في السابق؟.