السلام في اليمن على الطريقة الأنجلو-أميركية بقلم/ محمد السادة
بقلم/ محمد السادة
مضى أكثر من 6 سنوات على الميكافيلية القذرة لواشنطن ولندن وأدواتهما في تبرير العدوان والحصار على اليمن وشعبه العظيم، مع القدرة على الظهور بالمظهر الإنساني والأخلاقي كدعاة سلام، كلما صرخ النظام السعودي أو أدواته، كما يحصل في مأرب، فمن يزود العدوان بالسلاح، وتشارك طائراته في قصف الأعيان المدنية، وتستهدف الأبرياء في الأسواق والمدارس وصالات العزاء والأفراح، غير جدير بالحديث اليوم عن النازحين والوضع الإنساني في مأرب، فتصريحات وبيانات عواصم العدوان لا تعدو كونها ضجيجاً صادراً عن مخلوقات بلاستيكية متجردة من كل المشاعر والقيم والأخلاق، ولها عين واحدة ترى بها مصالحها فقط.
إنّ الولايات المتحدة التي تتجه إلى محاسبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، “العاهل القاتل” كما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، وربما منعه من الاستمرار في تولي مقاليد حكم المملكة، كعقاب على إعطائه الأمر بقتل الصحافي خاشقجي، هي ذاتها التي تبرّر وتغفر لنفسها ولابن سلمان جرائمهما في اليمن، والتي تستوجب قانوناً الملاحقة الجنائية الدولية وإخضاع المسؤولين عنها لعقوبات مجلس الأمن الدولي، ولكن من يحاسب واشنطن التي تحاسب الجميع، والتي حيثما وجدت مصالحها وجدت وسائل تبريرها وتمريرها، بغض النظر عن مشروعيتها؟!
هل يعرف رسل تحالف العدوان، كالمبعوث الأميركي الخاص إلى اليمن ليندر كينج، والمبعوث الأممي غريفيث والسفير البريطاني مايكل آرن، أن اليمن يشهد أسوأ كارثة إنسانية تسببت بها دولهم، وأن هناك أكثر من 4 مليون نازح جراء العدوان يعيش جزء منهم في مخيمات مأرب، إضافة إلى الملايين ممن يرزحون تحت وطأة الحصار الذي ينتهك ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها منذ العام 2015 ويمنع دخول سفن الغذاء والوقود؟
لذا، إن التظاهر الأخلاقي بالاهتمام بالنازحين في مأرب دون غيرهم والتباكي على ما سيحلّ بهم نتيجة تقدم قوات صنعاء لاستعادة ما تبقى من المدينة، هو تناقض فاضح يعبر عن ازدواجية المعايير وتغليب المصالح وتغليفها إنسانياً.
وبخلاف ما تقوم به عواصم العدوان من خداع وتضليل، إن صنعاء هي الأكثر وضوحاً وقدرة على تسمية الأشياء بمسمياتها، فمعركتها في مأرب ليست وليدة اليوم، وقرارها باستعادة ما تبقى من المحافظة هو قرار سيادي داخلي مدروس بعناية ويمتلك عوامل النجاح. لذا، فإنه ليس قابلاً للمقايضة أو التماهي مع الضغوط، مهما كان سقفها.
وفي الوقت ذاته، تحرص قوات صنعاء في عملية تقدمها صوب مركز المدينة على اتباع تكتيكات عسكرية من شأنها الحفاظ على سلامة مخيمات النازحين والأعيان المدنية، إضافة إلى تكثيف مستويات التواصل مع من ما يزال مغرراً بهم من أبناء اليمن عموماً، وأبناء مأرب خصوصاً، للعودة إلى جادة الصواب، وإفساح الطريق أمام قوات صنعاء لحسم معركتها مع الإرهابيين والتكفيريين والمتطرفين وتطهير مأرب كآخر المحافظات المحررة في الشمال.
لا شكّ في أنّ من يخسر الحرب لا يصنع السلام، ومن يعد طرفاً في عدوان لا يمكن أن يكون وسيطاً أو راعياً للسلام. هذا هو حال واشنطن ولندن اللتين تحاولان تقمّص دور من يقوم بمساعٍ حميدة لإحلال السلام في اليمن، ولكنه، مهما حاول التقمّص، يجد نفسه طرفاً يمثّل مصالح بلاده ويفاوض نيابة عن حلفائه ومرتزقتهم، وهو ما تؤكده تصريحات وأطروحات مايكل آرن وليندركينج، المقرب من الرياض وأبو ظبي، حول رؤية السلام في اليمن.
بشهادة المبعوث الأمميّ الأسبق جمال بن عمر، تمكَّنت الأطراف اليمنية من التوصّل إلى اتفاق يعكس توافق الأطراف، نتيجة لحالة من التقارب والثقة كانت سائدة آنذاك، ولهامش الحرية الذي كان متاحاً للأطراف المرتبطة بالخارج، ولكن الإعلان المفاجئ لما يسمى “التحالف العربي” عن الحرب على اليمن حال دون تنفيذ ذلك الاتفاق.
وقد اعتبر البعض، من مثل الرئيس المنتهية ولايته هادي وحزب “الإصلاح”، ذلك الإعلان بمثابة انتصار مجاني سريع على خصومهم، وفي مقدمتهم ثورة 21 أيلول/سبتمبر ومشروعها للنهوض باليمن. لذا، تحولوا إلى مجرد أدوات طيّعة في يد تحالف العدوان الذي لم يدّخر جهداً في تدمير اليمن وارتكاب أبشع الجرائم، إضافة إلى خلق أزمة ثقة عميقة بين الأطراف اليمنية، مع المضي قدماً في مشروع التقسيم، عبر إيجاد ودعم كيانات متنافرة ذات مصالح سياسية ضيّقة تكرس النزاعات الانفصالية، وصولاً إلى قيام دويلات هزيلة تخضع للوصاية، ولكنَّ صنعاء تمكّنت من إفشال ذلك المشروع على الأقل في الشمال، فيما يمضي تنفيذ المشروع في الجنوب بوتيرة عالية، نتيجةً لحالة سقوط وارتماء حكومة هادي والمجلس الانتقالي. وبذلك، إن شهادة جمال بن عمر، وإن كانت متأخّرة، فإنها توثق حقيقة النيات السيئة المبيّتة لليمن، بعيداً من أضحوكة ما يسمى إعادة الشرعية أو فزاعة المدّ الإيراني.
بخلاف إدارة ترامب التي استغنت عن دعم الحلفاء في سياستها الخارجية، تحرص إدارة بايدن على توظيف حلفائها ودعمهم لتحركاتها الخارجية، فبعد فشل الخيار العسكريّ في اليمن، تقود واشنطن اليوم حراكاً سياسياً ودبلوماسياً بدعم من حلفائها الأوروبيين والخليجيين.
يتضح ذلك من خلال الاتصالات واللقاءات المكثّفة للمبعوث ليندركينج، وكذلك من خلال التحرك الأوروبي، إذ بدأت السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه اليمن تنشط وتتخذ مواقف أكثر وضوحاً، فقد صوَّت البرلمان الأوروبي بالأغلبية على مشروع قرار يدعو إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من اليمن لتسهيل الحوار السياسي بين أطراف النزاع.
كما يأتي قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2564) الصادر قبل يومين في إطار ممارسة سياسة أقصى الضغوط على صنعاء، فمشروع القرار المتطرف الذي تبنّته بريطانيا تجاهل الحقائق والمعطيات الجديدة، وخاطب صنعاء دون غيرها من الأطراف، وحمّلها مسؤولية كل شيء يريده، ولم يتبقَّ من القرار سوى تحميلها مسؤولية إخفاقات دول التحالف ومرتزقتها، وهو يدين حقّها في الدفاع عن نفسها وردها على استمرار العدوان، وهو حقّ مكفول بموجب القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، كما يدين حقّها في استعادة مأرب كآخر محافظاتها في الشمال، كما يحمّلها مسؤولية التقاعس الأممي عن إجراء عملية الصيانة العاجلة لنقالة النفط “صافر”.
ختاماً، إنَّ صراخ حكومة هادي ومشغّلها في الرياض واستجداء المجتمع الدولي لوقف تقدّم قوات صنعاء ومنعها من استكمال استعادة ما تبقى من مأرب، لن يغير من واقع الحسم الميداني للمعركة، ولن يمنع قوات صنعاء من حقها في الرد على استمرار العدوان، ولتنتظر الرياض المزيد من الضربات الموجعة في عمقها الحيوي، فمهما بلغ سقف المواقف الدولية التي ظلَّت عاجزة على مدار 6 سنوات عن إيقاف العدوان ورفع الحصار والمعاناة عن الشعب اليمني العزيز، فإنها لن تتجاوز المواقف المتطرفة لواشنطن ولندن في تبني المطالب غير المشروعة للرياض ومرتزقتها.
على واشنطن أن تدرك أنَّ صنعاء التي دفعت ثمن مشروعها في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال، وصمدت في وجه العدوان، وقدمت التضحيات الجليلة ودماء الشهداء الزكية، لن تقبل بـــــ”سلام الإملاءات” على الطريقة الأميركية – البريطانية، وهي تدعو إلى سلام الشجعان، من خلال وقف العدوان ورفع الحصار، وتحمّل دول التحالف مسؤولية جرائمها التي ارتكبتها في اليمن، إضافةً إلى التزامها بإعادة إعمار ما دمرته وتقديم التعويضات وجبر الضرر، كمدخل عادل لأي مشروع سلام ينعم به اليمن وجيرانه.
أما بريطانيا وسفيرها مايكل آرن الذي ظهر في لقاء على قناة “الجزيرة” كمندوب سامٍ، فما يزال يعيش حقبة الإمبراطورية الاستعمارية، ويتبنّى مخاوف من أسماهم “ناشطين” في اتهام “أنصار الله” التي تقود حكومة صنعاء وتعد أكبر المكونات اليمنية وأكثرها حضوراً بأنها تدفع المجتمع اليمني إلى التطرف، رغم إدراكه زيف تلك المخاوف، فمن يمتلك مشروعاً وطنياً للنهوض والتحرر من الوصاية الخارجية ليس متطرفاً، لكن التطرف يأتي ممن يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ويسعى إلى مصادرة إرادتها، ويفرض وصايته ومشاريعه التخريبية.
لذا، إنّ صنعاء اليوم أكثر عزماً على المضي في مشروعها، مهما كانت التوصيفات والاتهامات، ولا سيما تلك التي تصدر عن خصم يملك تاريخاً استعمارياً قذراً حافلاً بكلّ أشكال التطرف المستمرة حتى اليوم.