أسطورة الخمر في اليمن القديم… من هنا جاءت قصة الآلهة!
حيروت – متابعات
ليست القهوة (موكا)، لمشروب الأشهر عالميًا، هي الرمز الوحيد لليمن ولكن لليمن أيضًا ارتباطٌ عميقٌ بـ”العنب” يتعدى آلاف السنين، تجسده آلهة الخمرة “ذات مزر” و”ترنيمة الشمس الحميرية”.
يقول الباحث في النقوش والآثار، مهيب زوى، إن العام 1973 كان مختلفاً في تاريخ النقوش اليمنية، إذ قاد الدكتور عبد الله يوسف فريقًا في رحلة بحثية إلى منطقة قانية بالسوادية في البيضاء – 268 كم جنوب شرق صنعاء – و في ضاحة الجذمة ( الضاحة: منحدر صخري حلوق يصعب الصعود إليه) كانت الدهشة: صخرتين عليهما نقوش ورسوم آدمية وحيوانية كصورة الوعل وشخص يحمل رمحًا.. إلا أن نقشًا يتألف من 27 سطراً على الصخرة الجنوبية للضَّاحة “كان ملفتًا للنظر، وينتهي كل شطرٍ منه بحرفي الحاء والكاف”.
يقول يوسف، أستاذ الساميات في جامعة صنعاء: “لقد كان ذلك النقش كشفًا مثيرًا منذ اللحظة الأولى، إذ ليس في مادة النقوش اليمنية القديمة ما يشبهه، برسمه الصارم والدقيق على تلك الصخرة العاتية، فسمَّيته منذ الوهلة الأولى: نقش القصيدة الحميرية“.
وأضاف في دراسته (صورة من الأدب اليمني) التي نشرها في مجلة ريدان العدد الخامس: ” رغم أن النقش مكتوب بالخط المسند كغيره من آلاف النقوش التي عثرنا عليها في المنطقة نفسها إلا أن معظم مفرداته وتراكيبه غير معهودة لدارسي النقوش اليمنية القديمة”.
وظهرت لفظة “كرم” في العديد من النقوش المُكتشفة، إلا أنه في هذا النقش – الذي لم يظهر للعلن إلا في 1988 – ظهرت في الشطر الـ 13 لفظة “وين” وتعني باللسان اليمني القديم “عنب/ كرم” وهي ذات اللفظة “WINE” التي انتقلت إلى اللاتينية ثم الإنجليزية ومازالت تُستخدم إلى يومنا هذا بمعنى “نبيذ العنب”.
وفي النقش “الترنيمة” الذي استغرق 10 سنوات من الدراسة والترجمة ليصل إلينا، جاءت لفظة “وين” مقرونة بلفظة “مزْر” التي تعني باللسان اليمني القديم “خمرة” وفي المعجم السبئي تعني: نبيذ، إذ يقول شطر الترنيمة في القصيدة التي غدت تُعرف بـ ترنيمة الشمس الحميرية: “وين مَزْر كن كشقحك” وترجمته تعني “والعنب صار خمرًا عندما سطعت“.
وتعد ترنيمة الشمس صورة من الأدب الديني في اليمن القديم، “فالترنيمة تضعنا من أول وهلة في جو طقوسي تعبدي ملؤه الابتهال والضراعة إلى المعبود”- بحسب دراسة في مجلة نزوى العُمانية- وكما يبدو فإن شراب العنب أيضًا كان ضمن الطقوس التعبدية في الابتهال للإله الشمس.
المتحف البريطاني: ذات مزر تعود لمنتصف القرن الثاني الميلادي وكانت ضمن متحف قلعة مأرب حتى العام 1962
آلهة الخمرة
كثيرة هي النقوش والتماثيل والأعمدة التي نُحتت عليها أغصان وثمار العنب، إلا أن لوحة تمثال “ذات مزر” أي “الهة الخمرة” يعد من روائع القطع والآثار اليمنية في المتاحف العالمية وهي لوح من المرمر منحوت عليه رسوم بشرية وحيوانية ونباتية، وكانت صورة هذا التمثال (اللوحة) تتصدر العملة النقدية الورقية في اليمن فئة 20 ريالاً.
وتظهر القطعة الأكبر والرئيسية من تمثال ذات مزر في متحف والترز في بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية، فيما تظهر القطعة اليمنى الصغيرة لرأس الأسد المجنح في المتحف البريطاني.
وبحسب ما جاء في وصف المتحف البريطاني للقطعة، فإن القِطع يعود تاريخها إلى منتصف القرن الثاني الميلادي وأنها كانت ضمن متحف قلعة مأرب – شرق اليمن- حتى العام 1962 قبل أن تُنقل إلى متحف مدينة عدن – جنوب اليمن -، وأنه تم عرض هذه القطعة لأول مرة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 في متحف باورز كاليفورنيا واستمر المعرض إلى 13 مارس/ آذار 2005 تحت اسم:” ملكة سبأ الواقع والأسطورة“، ومن 5 يونيو/ حزيران إلى 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 عُرضت في معرض: “ملكة سبأ كنوز من اليمن القديم“.
وذكر المتحف البريطاني أنه اقتنى القطعة الصغيرة للجزء الأيمن للتمثال “ذات مزر” من مزاد سوثبي Sotheby’s في 26 أبريل/نيسان 1996، ولكنه لم يذكر متى وكيف خرجت القطعة من متحف عدن، إلا أن مهتمون بالآثار يرجحون أنها خرجت من اليمن بعد حرب 1994 الأهلية، إذ تنشط مافيا الآثار في اليمن منذ زمن طويل وزادت الأوضاع غير المستقرة والحروب من رواج هذه التجارة، إلا أن مهتمون يسعون إلى استعادة الآثار المنهوبة والمهربة إلى خارج اليمن و أعلنوا في يوليو الماضي تشكيل لجنة وطنية لاستعادتها.
ذات مزر… النحت ”الأثر“
صوَّر النحات اليمني “ذات مزر” بتمثال إمرأة نصف عارية و يغطي نصفها الآخر وريقات وعناقيد العنب التي تخرج من بطنها رمزًا للخصوبة، تحتويها قاعدة مثلثة مزينة بمخطوطات، وفي زوايا المنحوث زوج من الوحوش الأسطورية المجنحة “رمزًا للانتصارات” وشاب – وقيل طفل – يحمل سيفًا غير مصقول “رمزًا للحماية”.
وجاء في وصف المتحف البريطاني للقطعة، أنه من التفاصيل البسيطة التي يبدو أنها غير معتادة في المنحوتات العربية الجنوبية القديمة هي أن آثار صبغة حمراء ساطعة موجودة داخل فوهة الوحوش على هذه القطعة، بالتحليل العلمي يظهر أنه الكبريتيد الزئبقي الذي يعرف في حالته الطبيعية باسم “سينابار” والذي يوجد بشكل طبيعي في معظم أنحاء العالم، ويُعرف بأنه استخدم كصباغ من الألفية الثانية قبل الميلاد في الصين، وقد تم ذكره في منتصف القرن الأول الميلادي Periplus على أنه يتم إنتاجه في جزيرة سقطرى، حيث يتم جمعه من الأشجار قطرة قطرة، ما يعني أن الحرفيين اليمنيين استخدموا أصباغًا ساطعة لتسليط الضوء على التفاصيل المتعلقة بالنحت، ولكن على عكس نظرائهم في مصر أو الشرق الأدنى والعالم، لا يبدو أنهم استخدموا بشكل واسع الأصباغ واعتمدوا أكثر على تأثير الضوء على التفاصيل المنحوتة الصلبة والجمال الطبيعي للمرمر.