الضالع.. تعليم تحت نيران الحرب
محسن فضل
مع وصول الحرب إلى محافظة الضالع في مارس 2015، تعطل النظام التعليمي بشكل كلي، وتدهورت العملية التعليمية إلى حد كبير جراء الأضرار البالغة التي تعرضت لها البنية التحتية لقطاع التعليم في مختلف مناطق ومديريات المحافظة، فضلًا عن غياب البيئة المناسبة للعملية التعليمية التي دفنت تحت أنقاض الحرب، وتلاشت بين أزيز الرصاص وهدير المدافع.
وعلى مدى خمس سنوات، لا يزال القطاع التعليمي في محافظة الضالع يعاني من شلل شبه كلي في ظل الحرب المستمرة على مساحة واسعة من جغرافيا المحافظة؛ حيث يواجه قطاع التعليم تحديات كبيرة تختلف عن أية تحديات في أي محافظة أخرى.
وحين كان الحديث قبل اندلاع الحرب عن تطوير قطاع التعليم في محافظة الضالع من خلال تحسين وضع المعلمين وزيادة عدد الفصول الدراسية وإنشاء المعامل والمختبرات، فقد أصبح هذا القطاع بعد اندلاع الحرب المستمرة يتطلب النهوض به من الصفر، بدءًا من إعادة بناء المدارس المدمرة كليًّا، وترميم المدارس المتضررة جزئيًّا، ومعالجة العجز الكبير في الكوادر التعليمية الذين وصلت أعمار معظمهم إلى سن التقاعد، وضخ الكوادر التربوية الشابة إلى صفوف الحركة التعليمية الذين حُرموا من التوظيف منذ عام 2012، وكذلك تأهيل الطلاب والمعلمين على حد سواء، تأهيلًا نفسيًّا نتيجة اليأس والإحباط اللذَين تعرضوا له خلال فترة الحرب.
ما زاد من تفاقم التحديات التي تواجه القطاع التعليمي في محافظة الضالع، هو وقوعها تحت سيطرة طرفي النزاع، ما ضاعف من تعقيدات العملية التعليمية بعد أن أصبحت مناطق المحافظة معزولةً عن بعضها.
وعلى الرغم من أن موظفي السلك التربوي في مناطق شمال محافظة الضالع الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، يتسلمون رواتبهم الشهرية من حكومة الشرعية أسوةً بزملائهم، إلا أن ذلك ليس كافيًا للنهوض بالعملية التعليمية، وإن كان يساعد في استمرار سير عملية التعليم بحده الأدنى.
التعليم يُمر بأسوأ حالاته
يصف نائب مدير عام مكتب التربية والتعليم في المحافظة، توفيق مسعد أحمد المريسي، المرحلة التي يمر بها قطاع التعليم في محافظة الضالع، بالأسوأ في تاريخ المحافظة، نظرًا للخسائر التي مُني بها هذا القطاع منذ بداية الحرب التي طالتها منذ العام 2015 حتى اليوم.
وقال نائب مدير عام التربية، إن الحرب أثرت على قطاع التعليم بصورة كبيرة سواءً في بنيته التحتية، كالمدارس والمنشآت التعليمية أو في مدخلات التعليم كالمناهج والمعلم والطالب، أو في سير العملية التعليمية كالتخطيط والتنفيذ والمتابعة والتطوير.
وأضاف إن القطاع التعليمي في محافظة الضالع يواجه اليوم تحديات صعبة تتمثل في تسرب العديد من الطلاب من المدارس، فضلًا عن وجود نسبة كبيرة من الأطفال الذين حُرموا من الالتحاق بالتعليم إما لكونهم نازحين من قراهم ومناطقهم أو بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يواجهونها في ظل استمرار الحرب. كما أشار إلى أن الطلاب الأطفال الذين قدر لهم مواصلة التعليم في مناطق النزوح هم أيضًا بحاجة ماسة إلى التكيف مع الواقع الجديد الذي أصبحوا عليه، وبحاجة إلى الدعم والتشجيع.
وأوضح المريسي أن حجم الضرر الذي أصاب بنية التعليم في المحافظة جراء الحرب، من تدمير للمدارس ونقص في الكادر التعليمي وانعدام الكتاب المدرسي، شكّل إحباطًا كبيرًا لدى الطلاب في المحافظة، وولّد لديهم شعورًا بعدم الرغبة في التعليم، الأمر الذي يقتضي ضرورة تأهيل الطلاب نفسيًّا وتشجعيهم على التعليم وترغيبهم بأهميته حاضرًا ومستقبلًا، مؤكدًا أن التعليم حق لكل طفل، ويجب أن يحصل عليه بكل سهولة ويُسر. وقال إن الحرب المستمرة حولت بيئة المحافظة إلى بيئة عنف وقتل وتدمير، ولذلك حُرم الكثير من أطفال المحافظة من حق التعليم، وهو ما يجعل مستقبل هؤلاء الأطفال على المحك.
ويأمل المريسي “أن يتحسن الوضع في قادم الأيام بما يمكِّن أطفال المحافظة من الالتحاق بالتعليم وممارسة كل حقوقهم المكفولة، في ظل أجواء سليمة وآمنة”.
مدارس في ساحات القتال
وفي مديرية قعطبة، أكثر مديريات محافظة الضالع اكتظاظًا بالسكان، تتضاعف حجم المعاناة على امتداد مساحة المديرية، التي تئن تحت وَطْأَة جبهات القتال الممتدة من الجهة الشرقية وحتى الجهة الغربية للمديرية.
وترتسم حدة المعاناة بشكل ملحوظ على قطاع التعليم في المديرية، الذي بدا واقع التعليم فيها مشتتًا كحال المديرية المشتتة بين أطراف النزاع.
قال مدير مكتب التربية في مديرية قعطبة، عبدالباسط المرح، أن قطاع التعليم في المديرية يواجه تحديات غير مسبوقة بسبب الحرب المستمرة في مناطق متفرقة من المديرية.
وأضاف: “توجد في مديرية قعطبة 91 مدرسة، تقع 35 منها تحت سيطرة الحوثيين، فيما تقع 56 مدرسة تحت سيطرة حكومة الشرعية”. ويتابع: “هناك 9 مدارس تقع ضمن نطاق ساحة الحرب، وهي متوقفة كليًّا عن العملية التعليمية، وهذه المدارس، هي: مدرسة الشهيد محمد ناشر الواقعة بمدينة الفاخر، مدرسة النهضة الواقعة بقرية صبيرة، مدرسة الجب، مدرسة بتار، مدرسة حبيل العبدي، مدرسة مرخزة، مدرسة صولان، مدرسة سون، ومدرسة حجلان. حيث كانت هذه المدارس قبل اندلاع الحرب تضم آلاف الطلاب في صفوفها، أما اليوم فهي متوقفة كليًّا بسبب الحرب الدائرة في هذه المناطق”.
وكشف المرح عن وجود 3 مدارس مدمرة كليًّا، وهي: مدرسة الشهيد محمد محمود الزبيري الواقعة بقرية شخب، مدرسة الشهيد علي النجار قرية المعزوب، ومدرسة الشهيد حمود عباس قرية الريبي. بالإضافة إلى 5 مدارس تعرضت للتدمير الجزئي، وهي: مدرسة فاطمة الزهراء، مجمع السعيد التربوي، مدرسة 26 سبتمبر بقرية سليم، مدرسة الفقيد أحمد قايد الأصهب ومدرسة 14 أكتوبر.
كما أوضح أنه توجد سبع مدراس لإيواء النازحين، وهي: مدرسة الجيل الجديد في المجانح، مدرسة الوحدة في الجبارة، مدرسة الشهيد صالح بن صالح قرية غول الديمة، ومدارس الفلاح والسعيد وبلال بن رباح في مدينة قعطبة.
وقال المرح: “إذا كان هذا العدد الكبير من المدارس لا تعمل، أو القليل منها يعمل بشكل جزئي، فلأي شخص أن يتصور حجم الضرر الذي أصاب العملية التعليمية في المديرية”.
وأضاف، إن التحديات التي تواجه القطاع التعليمي في مديرية قعطبة لا تقف عند هذا الحد وحسب، بل إن قطاع التعليم يعاني أيضًا من عجز في الكادر التعليمي بنحو 600 معلم، ناهيك عن كثافة الطلاب في الفصول الدراسية، حيث يصل عدد الطلاب في الفصل الدراسي الواحد نحو 120 طالبًا كحد أقصى و80 طالبًا كحد أدنى. وأشار إلى أن هناك نحو 200 معلم يعملون على نفقة الأهالي، بالإضافة إلى عجز كبير في الكتاب المدرسي والكراسي، حيث يفترش الكثيرون من الطلبة الأرض في ظل أجواء باردة تؤثر على صحتهم، خاصة طلبة الصفوف الأساسية الأولى.
وأكد المرح أنه “رغم التحديات والمعوقات التي تواجه قطاع التعليم في مديرية قعطبة، إلا أننا في مكتب التربية نبذل قصارى جهدنا لضمان استمرار سير عملية التعليم حرصًا على مستقبل أولادنا”.
مدارس خاوية
شكلت مدرسة الشهيد محمد محمود الزبيري الواقعة في قرية “شخب” عزلة بلاد اليوبي بمديرية قعطبة، صرحًا علميًّا شامخًا على مدار السنوات التي سبقت الحرب؛ وقد مثلت ملتقى لنحو 1500 طالبة وطالبة من أهالي القرية والقرى المجاورة لها، واكتسبت أهميتها هذه، من كونها تضم مختلف الصفوف الدراسية من الأول أساسي حتى ثالث ثانوي، الأمر الذي جعلها في رأس قائمة المدارس ذات الأهمية على مستوى المديرية.
إلا أنه قدر لهذا الصرح العلمي ألا يظل منتصبًا كمنارةً شامخةً تتوقد لتصنع مستقبلًا لأجيال متسلحة بالعلم والنور. ففي فجر أحد أيام شهر مايو/ أيار 2019، أقدم طيران التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، على قصف المدرسة، حيث كانت الحرب تدور على أشدها على مقربة من مركز مديرية قعطبة، ما أسفر عن تدمير المدرسة كليًّا وحولها إلى أطلال تبعثرت معها أحلام أجيال صاعدة.
وكان لتدمير المدرسة أثرًا كبيرًا على الطلاب والأهالي والمعلمين معًا؛ إذ تسبب في جعل الكثير من الطلاب يتسربون من المدرسة ويعزفون عن مواصلة التعليم، فيما الآخرين يفترشون ساحة المدرسة ويتلقون تعليمهم تحت حرارة الشمس وفي مهب رياح محملة بالأتربة في أجواء باردة وممطرة أحيانًا.
يقول كمال الأمير، أحد أهالي قرية شخب: “كانت مدرسة الشهيد الزبيري تستوعب أكثر من 1500 طالب وطالبة، لكن بسبب القصف الجوي دُمر هذا الصرح العلمي الشامخ مخلفًا صدمة كبيرة وحالة من اليأس والإحباط لدى الأهالي والمعلمين والطلاب على حد سواء”.
وأضاف أنه نتج عن تدمير المدرسة انقطاع بعض الطلاب والطالبات عن مواصلة التعليم، أما من لا يزالون يتعلمون، فيتلقون تعليمهم في العراء وتحت الأشجار وفي دور العبادة. وقال الأمير إن مدرسة الشهيد محمد محمود الزبيري كانت وجهة لمئات الطلاب من قرى (القفلة والغشة والريبي ومعزوب عامر).
وفي سياق متصل، يفترش طلاب مدرسة السلام بقرية “الحَقِب” التابعة لمديرية دمت، ساحة المدرسة لتلقي دروسهم منذ خمسة أعوام بعد أن دُمرت مدرستهم مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، جراء غارة جوية لطيران التحالف العربي.
وعبّر أحد الأهالي عن خشيته مما آلت إليه العملية التعليمة نتيجة تدمير المدرسة بشكل كلي، والذي أدى ذلك إلى تلاشي البيئة المناسبة للتعليم. وقال -مفضلًا عدم ذكر اسمه- إنه عقب تدمير المدرسة من قبل طيران التحالف، حرص الأهالي على استمرار عملية التعليم؛ إذ قاموا باستخدام منازل سكنية كفصول دراسية لتعليم الطلاب، كما حاولوا ترميم المدرسة القديمة التي بنيت خلال فترة سبعينيات القرن العشرين الماضي، وهي مدرسة مكونة من 6 فصول وتقع بالقرب من المدرسة الجديدة المدمرة، لكن ذلك لم يكن كافيًا نتيجة الكثافة الطلابية.
وأضاف أن من ضمن الصعوبات التي يواجهها التعليم في القرية إلى جانب تدمير المدرسة، تتمثل في موقع القرية القريب من جبهة القتال على تخوم منطقة مريس، وذلك كما حدث خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، عندما تقدمت القوات الموالية للحكومة المعترف بها دوليًّا إلى مشارف مدينة دمت، حيث تحولت قرية الحقب إلى ساحة حرب بين طرفي النزاع، واستمرت الحرب لمدة خمسة أشهر منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، إلى مارس/ آذار 2019. خلال تلك الأشهر التي تعد من ضمن تقويم العام الدراسي، توقفت العملية التعليمة كليًّا في القرية، وأصبح الطلاب نازحين ومشتتين يتلقون تعليمهم في مدارس متفرقة في كل من دمت ومريس.
وعلى الرغم من ذلك، يقول هذا المواطن: “مهما كانت التحديات التي نواجهها فأننا حريصون على استمرار سير عملية التعليم، معتمدين على إمكانياتنا الشخصية رغم الظروف المادية والاقتصادية الصعبة”.
تعليم هش
ولا تزال المدارس في مناطق سيطرة الحوثيين مرتبطة إداريًّا مع مركز المحافظة الواقع تحت سيطرة حكومة الشرعية والمجلس الانتقالي، حيث تعلن نتائج الامتحانات الوزارية للصف الثالث الثانوي لهذه المدارس ضمن نتائج المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة في عدن.
ونتيجة لهذا الواقع، فقد ضاعف كل ذلك تعقيدات العملية التعليمة، ما جعل الأهالي يتحملون جُل نفقات التعليم بدءًا من توفير الكتب المدرسية لأطفالهم وانتهاءً بتحمل الأهالي أجور المئات من المعلمين الذين تم الاستعانة بهم لتغطية العجز في الكادر التعليمي خلال سنوات الحرب.
نقلاً عن خيوط