هذه أول خطوات مخرج إدارة بايدن من فخ ترامب في اليمن
حيروت- متابعات
لم يعد خافيا على أحد، أن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، ستتبع مقاربة جديدة لملف الأزمة اليمنية، يعاكس إلى حد كبير، ما درجت عليه إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، في سنواتها الأربع الأخيرة وهي مقاربة، وإن احتفظت بـ”ثوابت” الاستراتيجية الأميركية في اليمن، إلا أن الأطراف اليمنية وبعض قادة دول المنطقة، يخطئون إن هم لم يدركوا حجم وطبيعة “المتغيرات” في هذه المقاربة.
يمكن الافتراض أن للولايات المتحدة مصالح “ثابتة” من العالم، حددها تقرير تحليلي في موقع الحرة الأمريكي بقلم عريب الرنتاوي، تتمثل في:
(1) حفظ أمن السعودية واستقرارها الداخلي وعدم تحول منشآتها الحيوية والاستراتيجية إلى أهداف للصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية.
(2) ضمان ألا يكون اليمن، قاعدة ارتكاز لإيران تضغط على خاصرة المملكة الضعيفة، وتتهدد أمن الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب.
(3) ألا يكون اليمن ملاذا آمنا لقوى وجماعات إرهابية متطرفة، مثل القاعدة أو “داعش”.
(4) الوصول إلى حل سياسي متوازن، ينهي أسوأ كارثة إنسانية في تاريخ البشرية، وفقا للتقارير الأممية، ويمكن اليمنيين من إعادة بناء دولتهم ومجتمعهم واقتصادهم، في ظل أية صيغة للحكم يرتضونها.
السياسة الأميركية حيال اليمن، في عهد إدارة ترامب، تعرضت لاختلال شديد، إذ جرى القفز عن جملة هذه المصالح، والنظر إلى اليمن من بوابة “الضغوط القصوى على إيران”…دعمت الإدارة السابقة السعودية و”التحالف العربي” بلا تحفظ، وأدارت ظهرها لكل النداءات الأممية والإنسانية الداعية للإسراع في وقف الحرب ودرء الكارثة المتحققة، حتى أنها أبت أن تغادر البيت الأبيض، قبل أن تزرع آخر “لغم” على طريق الإدارة الجديدة: وضع الحوثيين على قوائم الإرهاب، بالضد من النداءات والتحذيرات الأممية والدولية.
الإدارة الحالية، يبدو أنها قررت النظر للملف اليمني من مختلف جوانبه، بكلتا عينيها وليس بعين واحدة، كما فعلت سابقتها، ودائما بما يخدم لائحة المصالح التي أتينا على ذكرها…ففي شهادته أمام الكونغرس، ومن بعدها في أول مؤتمر صحفي له كوزير للخارجية، وجه، أنتوني بلينيكن، انتقادات لاذعة لجماعة أنصار الله الحوثية، وحملها قسطا وافرا من المسؤولية عن المأساة الإنسانية في اليمن، بيد أنه لم يتردد في تحميل السعودية قسطا مماثلا من المسؤولية عن الكارثة كذلك، بخلاف سلفه مايك بومبيو، الذي لم يسجل ولو مرة واحدة، انتقادا جديا لأداء السعودية و”التحالف العربي” في الحرب على اليمن.
بلينكن، توقف أمام “المأساة الإنسانية المتفاقمة” التي لم تلفت انتباه واهتمام الإدارة السابقة، وتحدث عن حل سياسي، يبدأ بوقف الدعم العسكري الأميركي للسعودية والتحالف في حرب اليمن، وتجميد صفقات الذخائر للسعودية و”إف35″ للإمارات…وهذا بحد ذاته، تطور لافت، يفتح الباب رحبا أمام فرص قيام واشنطن بدور الوسيط الفاعل بين الأطراف المتنازعة.
وفي ظني أن إدارة بايدن ستستأنف جهودها لحل الأزمة اليمنية من النقطة التي انتهى جون كيري في الأشهر الأخيرة لإدارة باراك أوباما 2016، حين تقدم بمبادرة كانت إلى حينه، الأكثر اتزانا وتوازنا من بين مثيلاتها…صحيح أن مياها كثيرة قد جرت في أنهار اليمن والمنطقة، خلال السنوات الأربع الماضية، لكن الصحيح كذلك، أن بعض أسس الحل للأزمة اليمنية، كما وردت في مبادرة كيري، ما زالت تحتفظ بكثير من صلاحيتها في الوقت الحاضر.
حين أقدم كيري على طرح مبادرته وعرض وساطته بين الأطراف، لم تكن الحرب في اليمن قد أكملت عامها الثاني، وكانت السعودية والإمارات، وحلفائهما في اليمن، يحققون تقدما ميدانيا متسارعا في الجنوب والساحل اليمنيين على وجه الخصوص، وكان الحوثيون في وضع دفاعي صعب للغاية…اليوم، وبعد ست سنوات على حرب اليمن، يبدو المشهد معكوسا: فلا السعودية قادرة على إنجاز أهداف هذه الحرب، ودفع الحوثيين خارج صنعاء وإعادة الرئيس “الشرعي” إليها، ولا العلاقات بين أطراف التحالف بقيت على حالها، فقد خرجت قطر من هذا التحالف بعد اندلاع الأزمة الخليجية، فيما السعودية والإمارات تخوضان “حربا بالوكالة” في جنوب اليمن، بين “شرعية” مدعومة من الرياض، ومجلس انتقالي مدعوم من أبو ظبي، فضلا عن انخراط فصائل أخرى، سلفية وإخوانية وقبلية في هذا النزاع بين الدولتين الحليفتين.
الحرب التي قدر ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بضعة أسابيع لانتهائها بهزيمة الحوثيين، تستمر لست سنوات، فيما شوكة الحوثيين تشتد وتقوى، والمملكة تقف عاجزة عن إعادة عبد ربه منصور هادي إلى عدن، وليس إلى صنعاء، وساحة المعارك تمتد إلى الداخل السعودي، وصواريخ الحوثيين وطائراته المسيرة، باتت خبرا يوميا، يقض مضاجع المملكة.
ومما لا شك فيه أن الأطراف المتحاربة في اليمن، قد استنزفت وأنهكت تماما، وأنها اليوم بأمس الحاجة لسلالم لضمان هبوطها الآمن من فوق قمم الأشجار التي صعدت إليها… ولا شك أن ولي العهد السعودي، الذي يخوض حربه “وحيدا” في شمال اليمن ضد الحوثي، بعد انسحاب القوات الإماراتية والسودانية، في أمس الحاجة لـ”مخرج مشرف” من المستنقع اليمني، فهذه الحرب ارتبطت باسمه وبشخصه، وهو بحاجة لصورة “المنتصر” فيها، حتى لا يجد من يخرج له لسانه ساخرا في الرياض أو في عواصم الخليج…تلكم مهمة صعبة، وعلى الوسيط الأممي مارتن جريفت أن يجترح المعجزات، للوصول إلى مخرج كهذا.
ولا شك أن الحوثيين في وضع صعب مع أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب اليمني يقيم في المحافظات التي يسيطرون عليها، فالمرض والجوع والعوز وانهيار المنظومات الصحية والتعليمية، والفقر والبطالة، تتهدد أجيالا من اليمنيين، وتنذر بجيل جديد منهم، نشأ مفقرا ومعتلا وخارج المدرسة أو الجامعة في الغالب الأعم…تلكم تحديات، لن تنفع معها، مظاهر الفخر بقدرة الحوثي على “الصمود” في وجه آلة الحرب السعودية، ولا تفيد في معالجتها ترسانة الصواريخ والطائرات المسيّرة.
عند هذه النقطة بالذات، يبدو أن إدارة بايدن قررت التدخل لوقف الحرب، وسلوك طريق آخر…الاستثناءات التي تمنحها للمنظمات الأممية والإنسانية والقطاع الخاص، لاستمرار تعاملاتهم مع الأطراف اليمنية (بمن فيها الحوثي) ربما تكون توطئة لمراجعة قرار إدارة ترامب إدراج الحوثيين على لائحة الإرهاب، كما وعد بلينكن…التبرير الرسمي للخطوة، إنساني، بيد أن سببها الحقيقي، سياسي بامتياز، فمن يريد حلا سياسيا للأزمة لا يمكنه استثناء فريق أساسي وإخراجه عن مائدة التفاوض ولوائح المفاوضين…ومن يريد أن يلعب دور الوسيط الفاعل، لا يمكنه إطلاق النار على قدميه، وبناء سدود تحول دون تواصله مع فريق أساسي بحجم أنصار الله الحوثيين…لقد أطلق مايك بومبيو النار على أقدام الديبلوماسية الأميركية حين أقدم، إرضاء لحلفائه، على تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية.
لسنا هنا بصدد مناقشة ما إذا كان سلوك الحوثي وممارساته، تكفي لتصنيفه فصيلا إرهابيا أم لا، نحن هنا بصدد الإجابة على سؤال: كيف يمكن حل الأزمة من دون أحد طرفيها الأساسيين؟…والمفارقة، أنه في الوقت في الذي كان فيه بومبيو يفاخر بإضافة الحوثيين على قائمة الإرهاب، كان يفاخر أيضا، وبقدر أكبر، بإنجازه اتفاقاً في الدوحة مع حركة طالبان، حاضنة القاعدة وحليفتها زمن الهجوم على برجي التجارة العالمية والبنتاغون…أية مفارقة هذه، ومن هم الأجدر بالتنصيف كجماعة إرهابية؟…وإذا كان حجم طالبان ونفوذها و”غلبتها” في الداخل الأفغاني، هي الأسباب التي حدت بواشنطن لفتح حوار معها، وتكليف قطر بالتوسط لديها، فإن للحوثيين مكانة مشابهة: فهم حركة قوية ونافذة ولها “الغلبة” على خصومها في الداخل، برغم الدعم الكثيف الذي يتلقونه من قوات التحالف بقيادة الرياض.
لن تكون مهمة بلينكن ومساعديه في اليمن، سهلة أبدا…فثمة لدى الحوثيين تيار يؤمن بأنه “جزء من محور المقاومة بقيادة طهران”، وهو لا يمانع في ربط مصائر اليمنيين بمصير إيران وبرنامجها النووي وعلاقاتها مع واشنطن، بل ولطالما ألمح إلى أنه على استعداد لخوض معارك إيران في المنطقة، غير مكترث بمأساة شعبه ومعاناته…هذا الفريق، سيضعف حتماً، حين تتقدم واشنطن بوساطة جديدة، وحين تقرر شطب اسم الحوثيين من لوائح الإرهاب، وحين تُحرك الإدارة الجديدة، ماكينة الحل السياسي (والإنساني) لليمن.
وفي المقابل، ستصطدم أية محاولة أميركية للحل السياسي، برغبة ولي العهد السعودي في الخروج من المستنقع “منتصراً”، ولو شكلياً وعلى الورق، وفي ظني أن الحوثي ليس بوارد تمكينه من هذه الفرصة من دون ثمن مقابل، ثم أن الخلاف السعودي الإماراتي في اليمن، ودعم أبو ظبي لانفصال جنوبه، ورغبتها في السيطرة على موانئه وجزره، من خلال ميليشيات “العمالقة” و”الانتقالي” و”قوات الحزام” و”قوات طارق” وغيرها من المسميات، ستكون عقبة إضافية في وجه أي مسعى أمريكي جديد وجدي لحل الأزمة.
ثمة فرصة لوضع نهاية لأكبر كارثة إنسانية في عصرنا، ووقف حرب السنوات الست في اليمن، وهي ستتعاظم إن نجحت إدارة بايدن في فتح صفحة جديدة من الحوار والتفاوض مع إيران حول مختلف الملفات العالقة، من برنامجيها النووي والصاروخي وحتى دورها الإقليمي…لكنها فرصة قد تضيع، إن لم تستثمر واشنطن الكثير من الوقت والجهد لحلها، وإن لم تمارس ضغوطا كافية على مختلف الأفرقاء، لإسكات مدافعهم والاستماع إلى أنات وصرخات اليمنيين المعذبين في أرضهم، تماما مثلما تعهد بلينكن بجعل هذه الأزمة في صدارة أولوياته، على أمل أن يستعيد اليمن، وإن بعد حين، بعضا من سعادة اشتهر بها.