ماذا يريد ماكرون من لبنان والعراق ؟؟
في غضون شهر واحد، زار ماكرون لبنان مرتين والعراق لأول مرة، مبدياً اهتماماً شديداً بالبلدين ومطلقاً تصريحات تخرج عن إطار اللغة الدبلوماسية الاعتيادية الجافة، ما يطرح تساؤلات من قبيل: ما الذي يريده من لبنان والعراق؟ وهل يسطّر سياسة خارجية فرنسية جديدة؟
قادماً من بيروت، وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بغداد في زيارة لساعات معدودات، قال خلالها إن “باريس تدعم بغداد حكومة وشعباً” مضيفاً: “فرنسا ستكون إلى جانبكم”، في تصريح يبدو شبيهاً -مع اختلاف اللهجة- بتغريدته بعد زيارته الثانية إلى لبنان خلال أقل من شهر حينما قال الأربعاء: “في لحظة مغادرتي بيروت، أود القول مجدداً وبقناعة: لن أتخلى عنكم”.
تفاصيل زيارتَي لبنان وزيارة العراق والتصريحات التي رافقتها، ألقت الضوء على جزءٍ من نوايا ماكرون الذي يبدو أنه يريد عودة فرنسا إلى الشرق مجدداً، منزاحاً قليلاً عن سياسة سابقيه الذين اختاروا تأطير مصالحهم داخل الاتحاد الأوروبي من جهة، وبما لا يتعارض مع اصطفافات الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، في ما يبدو أنه إعادة تسيطر لسياسة خارجية فرنسية جديدة.
ماذا يريد ماكرون من لبنان والعراق؟
حينما وصل ماكرون إلى بيروت ساعاتٍ بين انفجار مرفأ العاصمة، معزّياً ومتضامناً، كانت التفاصيل والتصريحات التي أحاطت بالزيارة تُشير إلى أبعد من التعزية والتضامن والدعم، من قبيل تشديده على ضرورة “إعادة بناء نظام سياسي جديد في لبنان” وتأكيده أن بلاده “لن تعطي شيكاً على بياض لسلطة فقدت ثقة شعبها”، داعياً إلى “إعادة بناء ميثاق لبناني جديد”.
في الزيارة الثانية قبل أيام، لم يغادر ماكرون بيروت إلا بعد أن جرى الإعلان عن التوافق مع القوى السياسية اللبنانية على خارطة طريق تتضمن تشكيل حكومة بمهمة محددة مؤلفة من “شخصيات ذات كفاءة” تلقى دعم الأطراف السياسية وتنكب على إجراء إصلاحات عاجلة مقابل حصولها على دعم دولي، وقال خلال مؤتمر صحفي عقده ليل الثلاثاء بعد لقائه تسعة من ممثلي أبرز القوى السياسية في مقر السفارة الفرنسية في بيروت، إن “الأطراف السياسية كافة من دون استثناء التزمت هذا المساء ألا يستغرق تشكيل الحكومة أكثر من 15 يوماً”.
من جهة أخرى وخلال الأشهر الأخيرة، ضاعفت فرنسا إشارات الدعم للعراق عبر زيارة من وزير خارجيتها جان إيف لودريان في يوليو/تموز، أكد خلالها “أهمية النأي بالنفس عن توترات المحيط”، فيما زارت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي بغداد وأربيل في 27 أغسطس/آب، مشددة على ضرورة مواصلة مكافحة تنظيم داعش الإرهابي، حسب وكالة الصحافة الفرنسية.
هذه الزيارات قد تبدو روتينية واعتيادية، لكن تفاصيل زيارة ماكرون التي لحقتها تشير إلى أبعد من ذلك، إذ إن ماكرون حرص خلال زيارته الأخيرة على لقاء من يسمّون الرؤساء الثلاثة: نظيره برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، بدل الاكتفاء بلقاء الرئيس فقط.
خلال الزيارة أطلق ماكرون عدداً من التصريحات اللافتة، التي من بينها أن “التدخلات الخارجية في شأن العراق تمثل التحدي الأكبر أمام بغداد وحكومتها”، متوجهاً إلى المسؤولين بالقول: “عليكم أن تقودوا مرحلة انتقالية… فرنسا ستكون إلى جانبكم حتى يتمكن المجتمع الدولي من دعمكم”.
في الزيارات جميعها، بدا ماكرون كأنه يقدّم ملفات واضحة ومبادرات جاهزة، فخلال مؤتمر صحفي الثلاثاء، في ختام زيارته الثانية للبنان، قال: “أؤكّد لكم أنني سأكون غداً صباحاً في العراق، لكي أطلق بالتعاون مع الأمم المتحدة، مبادرة لدعم مسيرة السيادة” في هذا البلد.
مبادرة تبدو شبيهة بتلك التي جاء بها إلى لبنان أول مرة في 6 أغسطس/آب، حينما حمل معه مبادرة تدعو لبناء نظام سياسي جديد في البلاد، لفّ بها على القيادات السياسية اللبنانية، متوجهاً إليهم بلغة قاسية وآمرة بدت كأنها وصاية تعيد عهد الحماية.
في هذا الصدد، قال أستاذ العلوم السياسية كريم بيطار إن “ماكرون يحاول بالتأكيد، الدفع باتجاه شرق أوسط يتطلّع نحو فرنسا”، مضيفاً أن الرئيس الفرنسي كان يركز على لبنان والعراق، وكلاهما له علاقات مع إيران والسعودية، لأنه يعتقد أن باريس يمكن أن تلعب دور الوسيط إذا تصاعدت التوترات الإقليمية.
من جهته، يدرك ماكرون جيداً صعوبة عودة دبلوماسية بلاده وقوتها الناعمة -حتى الآن- إلى الشرق الأوسط، ففي سياق حديثه عن زيارته الثانية إلى لبنان، قال في حوار أجراه معه موقع بوليتيكو إن “ما أقوم به في لبنان هو رهانٌ فيه مخاطرة. أنا مدرك لهذا الأمر… إنني بهذا أضع الشيء الوحيد الذي أملك على الطاولة: رأسمالي السياسي”.
وفي تأكيد لتفكير الوصاية على لبنان الذي يهيمن عليه، استدعى ماكرون المُنظّر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، قائلاً: “إن الجديد يجد صعوبة شديدة كي يظهر ويطفو على السطح، فيما يستمر القديم في عناده، علينا أن نجد طريقاً لتخطي هذا الوضع، وهذا ما أحاول فعله”.
سياسة خارجية فرنسية جديدة؟
قالت صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية الشهرية إن الجنرال شارل ديغول خطّ “طريقاً دبلوماسياً فرنسياً متفرداً يتمثّل في احترام التحالفات من دون التماهي مع الولايات المتحدة”، مشيرة إلى أن هذا النهج استمر مع جميع الرؤساء الفرنسيين وصولاً إلى جاك شيراك.
وأضافت الصحيفة أن كلّاً من الرئيسين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند ابتعدا عن هذا النهج بعد سيطرة عدد من الدبلوماسيين الذين يصنّفون على أنهم من المحافظين الجدد على الدبلوماسية الفرنسية في العشرين سنة الماضية، في حين يريد ماكرون بسياسته الخارجية الجديدة إعادة إحياء إرث الجنرال ديغول، خصوصاً في ملفات روسيا وإيران، بعيداً عن الولايات المتحدة التي تعيش أضعف حالاتها خارجياً.
وبعيداً عن إيران وروسيا، تتجلى هذه السياسة الجديدة أيضاً، في الدور الفرنسي في ليبيا، بدعمها للجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وإعلان باريس عداء صريحاً ورفضاً قاطعاً لأي دور تركي في طرابلس، وأي سعي من أنقرة للحفاظ على/حماية حقوقها في شرق المتوسط، وتحريض حلف شمال الأطلسي (الناتو) على تركيا في هذا الموضوع بالذات.
في هذا الصدد، قال إيلتار طوران أستاذ العلوم السياسية في جامعة “إسطنبول بيلغه” إن فرنسا ترغب في رؤية نفسها على أنها القوة العسكرية لأوروبا، مضيفاً أن “فرنسا لا تزال تعتقد أنها إمبراطورية ولا تريد تقبُّل حقيقة أنها دولة عادية كسائر دول العالم، وبالتالي لا تعطي قيمة لحلف الناتو”، حسب وكالة الأناضول.
وأردف الأكاديمي التركي: “فرنسا تعمل على تقويض حلف شمال الأطلسي، لعدم سماح الأخير لها باتباع سياسة “أنا المسؤول الوحيد عن أوروبا”. وتحاول تحقيق هدفها هذا عبر مطالبة الناتو مؤخراً، بالتصدي لتركيا شرقي المتوسط”.
من جانبه، قال مصطفى نائل ألقان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة “أنقرة حجي بيرم ولي” إن فرنسا تسعى مؤخراً لنيل دور قيادي داخل الاتحاد الأوروبي، وتضر عبر ممارساتها بالتضامن والتحالف المتمثّل في حلف الناتو منذ 77 عاماً، حسب وكالة الأناضول.
وأضاف الأكاديمي التركي أن هذه الممارسات الفرنسية تُظهر رغبة حقيقية لديها في تحقيق “الموت الدماغي” للناتو، موضحاً أن ماكرون يرغب في تأسيس جيش أوروبي يحلّ محل حلف الشمال الأطلسي، في خطوة لجعل فرنسا قوية على الصعيد الدولي.
المصدر: TRT