مقالات

كرامة الإنسان أو شريعة الغاب :موقفنا من واقعة حبان

 

*بقلم أ.محمد البحر المحضار*

في زمنٍ صارت فيه المعلومة تسبق العقل، والمقطع المصور يختصر الحقيقة في ثوانٍ معدودة، نجد أنفسنا أمام معضلة أخلاقية واجتماعية كبرى؛ وهي الاندفاع نحو إصدار الأحكام المطلقة، وإطلاق بيانات الإدانة أو صكوك البراءة، دون وعيٍ بما تخفيه “الكواليس” أو ما يسبق “لقطة الفيديو” من تعقيدات.
إن الحقيقة في القضايا العامة ليست مجرد مشهدٍ نراه، بل هي تراكمات لظروفٍ وخفايا لا يدركها إلا من اكتوى بنارها، فمن كانت “يده في الماء” ليس كمن “يده في النار”؛ ولذا وجب علينا التوقف عند محطات أساسية قبل أن نمنح أنفسنا حق المحاكمة والتقرير:

**فخ العاطفة والارتباط الشخصي:*
يميل الكثيرون للحكم بناءً على صلة القرابة أو الانتماء الجغرافي، فينحاز الأقرب للأقرب بعيداً عن جوهر الحقيقة.
والبعض الآخر يحكم من منظور “الظروف الخاصة”، فيُسقط تجربته الشخصية المريرة على أي حادثة متداولة، ليصدر حكماً يرضي رغباته الذاتية لا مقتضيات الواقع.
وهنالك آخرون يحكمون بحسب عاطفتهم وأحسسهم ومشاعرهم القبلية.

* *سطحية المشهد وعمق الخفاء:* ليس كل ما يُتداول عبر وسائل التواصل هو الحقيقة الكاملة. فخلف كل “حادثة” أطراف وتفاصيل وأسرار لا تتضح إلا بالزمن والتحقق.
إن حشر “الأنف” في كل شاردة وواردة، وإصدار الأحكام القطعية بناءً على “إشاعة” أو “مقطع مبتور”، هو فعلٌ يفتقر للعقلانية ويؤجج الفتن.

**أدب المشاركة وذكاء المسافة:* لا يمنعك أحد من إبداء وجهة نظرك، ولكن الفرق بين “العاقل” و”المندفع” يكمن في الأسلوب.
المشاركة الواعية هي تلك التي تلتزم بالمنطق، وتتحدث بتهذيب، وتناقش الظاهر المشهود دون الغوص في النوايا أو “تلفيق التهم” وتشويه الصور والافتراء على أطراف قد تكون بريئة في صلب الموضوع.

لذا؛ فإن دعوتنا اليوم هي دعوة لـ “التحقق قبل التحقير”، ولـ “التأني قبل التصريح”.
إن من الحكمة ألا نحشر أنفسنا في كل شأن يعنينا ولا يعنينا، وأن نترك للقضاء والزمن فرصة كشف المستور.
فإذا كان لا بد من الحديث، فليكن حديثاً “سطحياً” يلامس المبادئ العامة (كالرفض المطلق للوحشية أو الظلم) دون الغوص في صلب الخصومة التي لا نملك مفاتيحها حتى تتضح الأمور.

ومن هذا المدخل الأخلاقي العادل والمنصف، ندلي بتصريح صحفي بشأن واقعة مديرية حبان (شبوة).
وانطلاقاً من هذه المسؤولية، وبصفتنا جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي والقبلي لمحافظة شبوة، وبما أننا أحد أبناء مديرية حبان، وبحكم مسؤوليتنا الوطنية والأخلاقية، نعلن استنكارنا الشديد وإدانتنا القاطعة للواقعة المؤسفة التي شهدتها مديرية حبان في محافظة شبوة، مؤكدين على ما يلي:
*يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾*
*ويقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾*
*ويقول عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾*

“لعن الله من خان المواثيق، ولعن الله من عاب في الوجه، ولعن الله قبيلياً لا يعرف حدود القبيلة.”

إن ما حدث من إقدام مجموعة مسلحة على تصفية شخص أعزل بعد أن تم تسليمه عبر أهله أو وساطة وأمان ووجه قبلي كما يظهر في الفيديو المتداول، وبدلاً من إيصاله ليد العدالة، تم الغدر به والتكالب عليه وربطه وسحبه وشده وطرحه أرضاً ومعاملته معاملة سيئة، ومن ثم قتله بدم بارد بوابل من الرصاص الكثيف وكأنها معركة، وهو يستغيث ويصرخ: “أنا مظلوم”، ويحاول توضيح شيء وهم يمنعونه ويسكتونه ويمسكون على فمه لكي لا يتكلم، في مشهد بربري يندى له الجبين.
إن هذا الفعل ليس مجرد جريمة قتل، بل هو “عيب أسود” مغلظ، وطعنة في خاصرة القيم والأسلاف والأعراف، واختراق آثم لكل حدود الإنسانية والشرع.
*وهنا نضع علامة استفهام كبرى وتساؤلات مشروعة:*
لماذا تم التصوير والنشر؟
ولماذا رفضوا أن يتركوه يتكلم ورفضوا أن يتيحوا له المجال ليعترف ويوضح ويدلي بما لديه من قول؟
إن الموضوع ليس مجرد حكم ورد اعتبار لآل الحاج (وهو حق عرفي لا غبار عليه)، لكن الموضوع الأهم الذي يجب أن يعرفه الناس هو: من وراء هذه الفتنة؟ ومن دعم؟ ولماذا؟ وعلى ماذا؟ وما المغزى ومن المستفيد؟! لقد لاحظنا في الفيديو أن الضحية كان يصيح “أنا مظلوم” ويسمي أسماء من “دهفوه” والجماعة يحاولون تلجيمه؛ وهذا ما يجب البحث عنه من البداية للنهاية.
وإننا نؤكد على النقاط التالية دون انتقاص:

**أولاً: الحياد المبدئي وفصل “الفعل” عن “الخصومة”:*
نؤكد بوضوحٍ تام يغلق باب التأويل: أننا لسنا في مقام الحديث عن أصل الخصومة، ولا ندعي العلم بما اقترفه المقتول؛ فهذا شأنٌ مرجعه القضاء والشرع.
نحن لا نطالب بالعفو عن المقتول، وفي المقابل لا نبرر قتله.
إدانتنا منصبّة حصراً على “الوحشية في التنكيل”؛ فلو استحق الإنسان القتل شرعاً، فلا يحل قتله غدراً وتمثيلاً.
إننا لا ندافع عن “شخص المقتول”، بل ندافع عن “كرامة الإنسان” وسمعة الأرض.
وكان من المفترض كأقل تقدير قبلي وكأقصى حد للعقوبة هو قتله وتسليم جثته لأهله في وقته احتراماً للقبيلة، وذلك بعد التوضيح والبيان للعوام، ومع ذلك أيضا ما زال هناك اختراق للقبيله والأعراف والأسلاف.

**ثانياً: الإدانة “حماية للقبيلة” وصيانة للأعراف:*
إن استنكارنا هو دفاعٌ عن وجود القبيلة واستمرار أعرافها. إن القبول بـ”خيانة الوجه” يعني تحول مجتمعنا إلى ساحة فوضى.
نحن واثقون من بقاء أسلافنا، ولكننا نرفض هذا السلوك الدخيل الذي لا يمثل إلا فاعليه، ولا يمت لشهامة قبائل شبوة عامة وحبان خاصة بصلة.

**ثالثاً: الإدانة من منظور الشرع، العرف، والإنسانية:*
إن ما حدث هو انتهاكٌ ثلاثي الأبعاد؛
1. شرعاً: الإسلام نهى عن “المُثلة” والتعذيب لقول النبي صلوات الله عليه وعلى آله: “إذا قتلتم فأحسنوا القتلة”. وما رأيناه من ربط وسحب وقتل بدم بارد بعشرات الطلقات لمستسلم يستغيث هو مخالفة صريحة للشرع.
2. عرفاً: تُجمع أسلافنا على أن التنكيل بالمقيد أو من سُلّم في وجه وساطة هو “عيب أسود” مغلظ و”فسلٌ” في المروءة.
3. إنسانياً: الفطرة ترفض معاملة الآدمي كالحيوان الضال؛ فالسحب والربط والاستهتار بالروح هو سقوط أخلاقي مريع.
“ولا يفوتنا هنا أن نستحضر ونستذكر القمة الأخلاقية التي أرساها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في وصيته الخالدة قبيل وفاته بخصوص قاتله، حين قال: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قُتل أمير المؤمنين.. ألا لا تقتلنّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تُمثلوا بالرجل».
إن هذه الوصية لم تكن مجرد تعليمات جنائية، بل هي قاعدة أخلاقية عليا تتبناها مدرسة أهل البيت؛ ومفادها أن ‘العدل’ مهما بلغت درجته لا يبرر أبداً ‘القسوة’ الخارجة عن حدود الله، وأن كرامة الإنسان وحرمة جسده مصونة وخط أحمر حتى وهو ينال عقابه الشرعي. فإذا كان هذا هو التعامل مع قاتل إمام المتقين، فكيف يُبرر لمن يدعي الغيرة على الحق أن يمارس التنكيل والقتل بشكل عنيف وتصوير ذلك بما يخالف صريح هذه الوصية المحمدية العلوية؟”

**رابعاً: شبوة براء من السلوكيات الدخيلة:*
إن هذا الفعل لا يمثل محافظة شبوة وقبائلها عامة، ولا قبائل حبان وما حولها خاصة؛ بل يمثل من ارتكبه فقط.
تاريخ شبوة وحبان ناصع بالأفعال المشرفة، وما حدث هو “نتوء” دخيل يتنافى مع نخوة الشبواني الأصيل.

**خامساً: رفض التوظيف السياسي والطعن في شبوة:*
نحذر المتربصين من استغلال المشهد للطعن في كرامة شبوة. وفي المقابل، ندين وبشدة كل من يقوم بالسب والشتم وتعميم القدح والطعن على قبائل شبوة عامة وحبان خاصة بشكل جماعي بسبب فعل فردي من مجموعة أشخاص يمثلون انفسهم.
فمن يرى في الجريمة مخالفة للعرف، عليه أن يعلم أن السب والشتم وتعميم الحادثة هو أيضاً مخالف للأسلاف والأعراف والقبيلة.

**سادساً: الاستنفار والمحاسبة (المسؤولية المجتمعية والقبلية):*
نضع الجميع أمام مسؤولياتهم القبلية والأخلاقية؛ وندعو قبائل شبوة عامة وحبان خاصة لإعلان موقف حازم يرفض هذه المسالك.
كما نحمّل القوى المسيطرة على الأرض (تحت مسمى الشرعية والانتقالي وغيرها) المسؤولية الكاملة عن هذا الانفلات وتكريس شريعة الغاب، ونطالب بحماية النسيج الاجتماعي من هذه الممارسات التي تُرتكب تحت أنظارهم وهم صامتون وكأنهم يرحبون بمثل هذة الممارسات التي تمس بالقبيلة، مؤكدين أن غياب العدالة لا يبرر شرعنة الغدر والتمثيل بالأرواح.

*ختاماً..*
إن الكلمة أمانة، والموقف مسؤولية. فلنرتقِ بوعينا بعيداً عن ضجيج العاطفة المندفعة، ولنجعل من صمتنا في وقت الغموض حكمة، ومن قولنا في وقت الوضوح عدلاً.
الحقوق لا تُنتزع بالخديعة، والعدالة لا تُقام بالتمثيل، والقبيلة أخلاق أو لا تكون.

*مدير عام مكتب التخطيط – م. شبوة*
16 ديسمبر 2025م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى