تَعِزّ.. هل يتعثّر سلام اليمن في منافذ مدينة التِّلال؟
صنعاء – لطف الصراري
تمضي مفاوضات فتح الطرقات المغلقة في تعز ومحافظات أخرى بصعوبة وبطء شديدين. منذ بدأت في الأسبوع الأخير من أيار/ مايو إلى نهاية الأسبوع الأول من حزيران/ يونيو 2022، لم يصل المتفاوضون في العاصمة الأردنية عمّان إلى نتيجة. بالرغم من الضغوط السياسية إقليمياً ودولياً والجولات المكوكية للمبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، بالكاد وافق الطرفان على تمديد الهدنة شهرين إضافيين مع استمرار المفاوضات. يصرّ ممثلو الحكومة المعترف بها دولياً على فتح جميع منافذ وطرقات المدينة ويتمسّكون بأقصرها.
وبالمقابل يعرض ممثلو جماعة الحوثيين “أنصار الله”، فتح ثلاثة منافذ مع إبقاء المنفذ الأقصر والمباشر مغلقاً. أما آخر الأنباء الواردة من عمّان فتفيد بسعي المبعوث هانس جروندبرغ لإقناع الطرفين بمقترح يُقرّب هذا التباعد!
التعقيد الذي تنطوي عليه المفاوضات حول تعز ألقى بظلال قاتمة على قضايا أخرى يُفترَض أن يناقشها الطرفان في سياق التسوية السياسية الشاملة للحرب في اليمن. أول هذه القضايا، فتح الطرقات المغلقة في محافظات أخرى: الحُديدة، البيضاء، مأرب والضالع. وهو ما جعل الحوثيون يتهمون ممثلي الحكومة المعترف بها دولياً بالانتقائية وتجزئة ملف الطرقات المغلقة. ومن جانبها اعتبرت الحكومة فتح طرقات ومنافذ تعز “اختباراً” لجدية الحوثيين “أنصار الله” في تقديم التنازلات من أجل عملية السلام في البلاد وإنهاء الحرب.
لماذا تعز؟
تحضر محافظة تعز في هذه المفاوضات كأولوية لعدة أسباب، أولها المشقة البالغة التي يتكبّدها سكانها في التنقل بين ريفها ومركزها الحضري، وحتى بين المدينة وضواحيها. وإلى كون هذه المشقة مستمرّة منذ النصف الثاني من العام 2015، فتعز خزان بشري هائل، ومعدل الكثافة السكانية فيها، بحسب قاعدة بيانات سنة 2004، يصل إلى 14.544 نسمة في الكلم المربع بالنسبة للمدينة، و223 نسمة في الكلم المربع على مستوى الأرياف. كما أن ملف منافذها المغلقة تمّ ترحيله أكثر من مرة في مفاوضات ومشاورات الطرفين التي رعتها الأمم المتحدة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2018، تمّت إضافته إلى “اتفاق استوكهولم” كبند منفصل صيغ بلغة فضفاضة. لذلك بقيت مشكلة تعز مطمورة بتفريعات أكثر خطورة للمسار العام للحرب. وبعد موافقة الطرفين على الهدنة وفتح مطار صنعاء وميناء الحُديدة، ظهرت المشكلة بحجمها الكارثي الذي كانت تحجبه أولويات أخرى لأطراف الحرب. وبالتداخل مع كل هذه الأسباب، يأتي حجم تعز في المشهد السياسي اليمني ليجعل من أكوام التراب والحواجز في منافذ المدينة عائقاً أمام عجلة السلام المنشود في البلاد عموماً.
كيف يعيش سكان المدينة؟
على الرغم من تركيز الاهتمام مؤخراً على فتح الطرقات في تعز، هناك جانب ديموغرافي يجري تجاهله أو ربما العمل عليه بصمت بما يناسب الطموح السياسي لأطراف الحرب، وكأن التغيّر الديموغرافي صار من المسلّمات في سُنّة الحروب.
في بداية الحرب نزح معظم سكان المدينة إلى الأرياف وإلى محافظات أخرى أبرزها إبّ، صنعاء ومأرب.
مع استمرار الحرب، استمرّت حركة النزوح على إيقاع تطور مساراتها ومنعطفاتها. لكن العمليات القتالية لم تكن وحدها من تُجبر سكان المدينة على النزوح، فالحصار الذي فرضه مقاتلو جماعة الحوثيين (“أنصار الله”) على المدينة منذ أن كانت الجماعة متحالفة مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، كان ضمن أسباب النزوح.
عاش النازحون مرارة الابتعاد عن بيوتهم، وعاش من بقي من سكان المدينة وضواحيها سنوات شديدة القسوة وهم في بيوتهم، سيّما أولئك القريبون من خطوط التّماس. ولأن معظم الريف الجنوبي والجنوبي الغربي بقي تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، اضطر سكان المدينة لسلوك طرق شديدة الوعورة في عرض جبل صَبِر لإدخال الاحتياجات المعيشية، مستخدمين الحَمير والجِمال ضمن وسائل النقل. لاحقاً فتحت القوات الموالية للحكومة أحد المنفذين الغربيين للمدينة عبر مواجهات عسكرية، وهو المنفذ الذي صار يربطها بمدينة عدن، عبر مدينة “التُّرْبة” (1) ومن بعدها طريق “هَيْجَة العبد”، وهو طريق جبلي شديد الخطورة، خاصة على الشاحنات الكبيرة.
تدريجياً، وبفعل جولات الكرّ والفرّ بين الطرفين وتداخلات السياسة الدولية والإقليمية تجاه اليمن، اكتسبت خطوط التّماس بين الطرفين في تعز بعض الثبات، وصولاً إلى ما هي عليه الآن. الشوارع الرابطة بين أحياء المدينة الشرقية والغربية مغلقة بحواجز من الطوب الخرساني أو بأكوام التراب والمخلّفات الصلبة، كما أُغلق المنفذ الشرقي للمدينة عند “جولة القصر”، والمنفذ الغربي عند “مصنع السمن والصابون”. الأول متّصل بـ”مفرق الحوبان” الذي يتفرّع منه الخطّ الرئيسي الرابط بين مدينة تعز وعدن، والخط الرئيسي الرابط بينها وبين صنعاء، أما الثاني فيربطها بميناء المَخا الذي يقع ضمن حدودها الإدارية المطلة على البحر الأحمر بمسافة 110 كيلومترات عن المدينة.
وفق التقسيم الإداري لسنة 2001، تبلغ مساحة محافظة تعز عشرة آلاف كلم مربع، موزّعة على عشرين مديرية، إضافة لمديريات المدينة الثلاث التي لا تتجاوز مساحتها 45 كلم مربع. في الجهة الشمالية المقابلة لجبل صَبِر، تمتد مديرية “التعزّية” من شرق المدينة إلى غربها متداخلة في حدودها الإدارية مع أحياء تابعة لمديريات المدينة، وإلى الشمال يصل عمق امتدادها إلى محاذاة الحدود الإدارية لمديريات محافظة إب.
في الأحداث التي شهدتها المدينة ومحيطها منذ العام 2015، لعبت تضاريس تعز وتركيبتها السكّانية دوراً كبيراً في ما آل إليه وضعها الديموغرافي خلال السنوات السبع الماضية. فإضافة لعدم ترحيب السكان بمحاولة جماعة الحوثيين السيطرة عليها، كان جبل صَبِر بتضاريسه التي تغطي كل الجهة الجنوبية للمدينة، بمثابة حصن عسكري ساعد في بقاء الجزء الأكبر منها تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً. غير أن جبل صَبِر ليس المرتفَع الجبلي الوحيد المحيط بالمدينة وإن كان أعلاها (2)، ناهيك عن أن سيطرة الحوثيين على الجزء الشرقي منه مكّنهم من إبقاء الأحياء الشرقية للمدينة تحت سيطرتهم. وإلى ذلك سيطروا على أجزاء من الريف الغربي وكل مناطق الريف الشرقي للمدينة، بما فيها المرتفعات المطلة على طريق تعز – عدن الرئيسي، مشكّلين طوقاً شبيهاً بفكّي الكماشة حولها.
من قلعة حربية إلى مدينة
بسبب تضاريسها، تركّز عمران مدينة تعز على قمم التلال المنتشرة في السفح الشمالي لجبل صَبِر. بدأ الأمر بإنشاء قلعة حربية على التلّ الصخري الذي يُعرف الآن بـ”قلعة القاهرة”. بناها الأمير عبد الله، شقيق الملك علي محمد الصليحي، مؤسس الدولة الصُّليحية في اليمن (1045 -1138 م)، ثم بدأ العمران يحيط بالقلعة فتطورت إلى حصن ملكي يضمّ عدة قصور. ومع نهاية فترة الدولة الصليحية، كانت ثلاثة أحياء في سفحه تشكل نواة مدينة. وشكّل الحصن بأحيائه الثلاثة رابطاً بين مدينتي “جَبأ” وزبيد غرباً، والجَنَد وعدن شرقاً وجنوباً، كما ربط بين حصن صَبِر وحصن “التَّعْكَر” القريب من مدينة جِبْلة شمالاً، وهو الغرض الأول لبنائه. أُطلق على الحصن اسم “تَعزّ” الذي يقول مؤرّخون إنه كان اسماً مرغوب التداول في تلك الحقبة لإطلاقه على القلاع والحصون في اليمن. لم يحتفظ بهذا الاسم سوى حصن “تعزّ” الذي تجاوزه الاسم ليُطلق على المدينة ولاحقاً على امتدادها الريفي تحت مسمّى “لواء” أو “محافظة”.
وفق المصادر التاريخية، عندما مرض الحاكم الأيوبي لليمن توران شاه، طاف عدة مناطق جبلية برفقة أطبائه لاختيار مكان لإقامته يتوفر فيه المناخ المعتدل ونقاء الماء والهواء، حتى رسى في تعز. صارت المدينة بعد ذلك عاصمة لحكم الأيوبيين (1173-1229م)، لكن ازدهارها العمراني والحضري والمعرفي لم يصل ذروته التي جعلتها معدودة في مصاف العواصم العربية كبغداد وقاهرة المعز، سوى في عصر الدولة الرسولية (1229-1454م) (3).
ساحة حرب مفتوحة
انتهت الدولة الرسولية بانقسامات حادة بين أمراء الأسرة الحاكمة، وكانت تلك بداية لجولات متجددة من الصراع السياسي الذي حوّل تعز إلى ساحة حرب مفتوحة على مدى القرون الستة الماضية.
انكسرت المدينة حيناً وقاومت انكسارها حيناً آخر، لكنها لم تندثر، على الرغم مما شهدته من دورات عنف دموية خلال تاريخ الصراع على السلطة في اليمن، وغالباً ما كان سكانها وقوداً للحروب. يشبّه المؤرخ محمد محمد المجاهد حال سكان مدينة تعز أثناء انقسام الأسرة الرسولية على سكان تعز في القرن الخامس عشر الميلادي، بحال بيروت بين العامين 1976 و1994.
إذ امتد الصراع قرابة ثلاثة عقود انقسمت فيه تعز إلى قسم غربي موالٍ للمسعود أبو القاسم إسماعيل الثاني مدعوماً بفئة كانت تسمى “العبيد” بقيادة عبد الله بن زيتون في زبيد، وقسم شرقي موالٍ للمظفر يوسف الثاني مدعوماً بوجهاء آل طاهر الذين أسسوا دولتهم (1454-1539م) على أنقاض الدولة الرسولية.
وبدورها لم تسْلم الأسرة الطاهرية من الانقسام بين فرعيها: آل طاهر القابضين على السلطة ومنافسوهم عليها من آل عامر. انهزم الطرفان في النهاية مع قدوم الحملة المملوكية التي وسّعت دائرة الصراع الدموي لينضمّ إليه العثمانيون والإمام يحيى بن شرف الدين الذي ما لبث أن أعلن براءته من دموية ابنه المطهر وترك مقاليد الحكم له.
على الرغم من فترات الاستقرار المتقطعة التي عاشتها المدينة لاحقاً، لم تتخلّص من قدرها في أن تبقى ساحة حرب مفتوحة للمتنافسين على الحكم.
في أوقات الهدوء تجتذب رجال الدولة والصنائعيين والعمال والتجار والطلاب والمعلّمين من مختلف المشارب، وفي أوقات الصراع لا يبقى من هؤلاء سوى من ينخرط فيه أو من يغامر بالبقاء محتملاً ما قد يتعرّض له من صنوف الانتهاكات التي تصاحب الحروب وصراعات انتقال السلطة.
أثّر ذلك على التركيبة السكانية لتعز كمدينة مفتوحة للقادمين إليها في السلم وفي الحرب، سواءً من محيطها الريفي أو من اليمن الكبير أو من بلدان أخرى خلال عصر الخلافة الإسلامية.
غير أن تعز احتفظت لنفسها بخاصية واحدة لا يمكن أن يتجاوزها من يختار الإقامة الدائمة فيها، وهي تلك القدرة على صهر الهويات في حيّزها الجغرافي.
قد لا ينسى هويته السابقة، لكن لا يمكنه مقاومة التطبّع بطباع المدينة، ولا يمكن لأبنائه وأحفاده أن يتملّصوا من الشعور العميق بالانتماء لها وتعريف أنفسهم بها، سواءً كانوا من سكان المدينة أو ريفها. وهي خاصية تبدو كأنها دفاع الأرض عن نفسها في وجه القهر المزمن وانتهاك حق ساكنيها الذين طبّعتهم على نبذ العنف واعتناق السلم كثقافة.
الشواهد على ذلك كثيرة، لكن القهر المحتقن في جينات أبنائها يتحول في بعض الحالات إلى نزعة مناطقية مَرضية، كما يتحوّل إصرار أجيال جديدة من المتصارعين على الاقتتال في ساحتها إلى نزعة تسلّطية ناقمة. كلا الأمرين يشوشان بصيرة الإنسان، ولذلك لا بأس في أخذ الشاهد التالي على تلك الخاصية الفريدة التي تؤثر في النفس دون أن تُدرَك:
بعد مغادرة العثمانيين اليمن على إثر هزيمة دول المحور الشرقي في الحرب العالمية الأولى، حاول بعض وجهاء ومشائخ محافظة تعز الاستقلال عن سلطة الإمام يحيى حميد الدين الذي كان يطمح بتوحيد اليمن الكبير على غرار ما فعله أسلافه أئمة الدولة القاسمية (1597-1849م).
أرسل الإمام يحيى قريبه علي الوزير لإعادة تعز إلى سلطته وتولّي منصب الحاكم فيها، فدخلها الوزير بقوة السلاح وفرض على سكان المدينة استضافة مقاتليه وتلبية كل احتياجاتهم في عُرف حينها سُمي بـ”الخَطَاط”.
لم يمنع حاكم المدينة الجديد مقاتليه من النهب والسلب، ويذكر محمد المجاهد أنهم خرّبوا زخارف المساجد بحثاً عن الذهب، كما أتلفوا مئات الكتب المهمة والنادرة. اتّسم حكم علي الوزير في تعز بالتعسّف والاستبداد على مدى لا يقل عن عشر سنوات، وبعدها بدأت رؤيته للحكم تختلف عن رؤية الإمام يحيى، حتى أنه استحدث مجلساً أدبياً في قصره واستقدم عشرات الشعراء والأدباء من عدة محافظات، وبعضهم استطاب الإقامة في المدينة.
ومن مظاهر التحول الثقافي لعلي الوزير أنه صار يخصص أوقاتاً مطوّلة للقراءة في مكتبة جامع المظفّر التي نجت من بطش مقاتليه عند قدومه، كما ألغى بعض الضرائب والمكوس على المنتجات القادمة من ريف المدينة، وكان يرفع مقترحات إلى الإمام يحيى لتحديث أسلوب الإدارة، لكن الأخير كان يرفضها. لا يحتاج الأمر لذكاء خارق لملاحظة هذا التحوّل في تفكير وسلوك الحاكم الذي لم يرغب في مغادرة المدينة إلا بعد أن قدِم إليها ولي العهد أحمد، في إجراء غلب عليه الطابع الاحترازي للإمام يحيى من تحوّلات حاكم اللواء.
في سنوات سابقة على نزول علي الوزير من صنعاء حاكماً لتعز وبالتزامن معه، استقبلت تعز عائلات ضباط وجنود وموظفين كانوا ضمن قوام الإدارة العثمانية لليمن. بعضهم من أصول تركية، ومعظمهم من فلسطين، سوريا، لبنان والعراق. وبحسب المجاهد، وطّنت هذه العائلات نفسها في تعز وانصهر أفرادها ضمن النسيج الاجتماعي للمدينة. وإلى الهجرات الداخلية نحو تعز بعد أن اتخذها الإمام أحمد عاصمة لحكمه منذ 1948-1962، استقبلت المدينة جموع الوافدين إليها من الأرياف والمحافظات الأخرى على إثر التحولات التي أحدثها ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962.
في كتابه، “تعز.. فرادة المكان وعظمة التاريخ”، يذكر فيصل سعيد فارع عن الطبيبة الفرنسية كلودي فايان التي عملت في اليمن، أنه في العام 1950 كان سكان مدينة تعز يقدّرون بخمسة آلاف نسمة. استمرّ وضع تعز كعاصمة سياسية 14 سنة، ويقول فارع إن عدد سكانها بلغ في السنة الأخيرة 20 ألف نسمة. ثم يمضي متتبّعاً زيادة مساحة التوسع العمراني وعدد سكان المدينة، إذ بلغت الزيادة في المساحة بين العامين 1963- 1991، توسع من 350 الى 2575 هكتاراً، وفي 2005، كانت مساحة المدينة بيلغ 4000 هكتار. أما الزيادة السكانية فزادت بين العامين 1975- 2004، من 79720 نسمة إلى 466968 نسمة، بمعدل نمو 7.51 في المئة وهو ضعفي معدل النمو الإجمالي لسكان ريف المدينة الذي كان 2.5 في المئة (4).
عن جغرافيا مدينة تعز يقول فارع، وهو باحث اقتصادي سبق أن أدار مؤسسات حكومية وخاصة: “تبدو الرقعة السكنية في المدينة غير متجانسة على الإطلاق”، بحيث يمكن أن “تكشف رحلة واحدة من شوارع القلب التجاري إلى ضواحي المدينة… أن أية مدينة ليست في التحليل النهائي سوى حزمة من الوظائف، وما المؤسسات والمباني [سوى] أوعية مادية لتلك الوظائف المركزية التي لا تتعايش معاً إلّا بعد صراع على المكان”. يتداخل هذا التحليل الاقتصادي لتضاريس تعز مع وضعها الديموغرافي. وبالنظر إلى التقسيم المكاني الذي فرضته الحرب، صارت “الرحلة” بين قلب المدينة التجاري وضواحيها تستغرق أكثر من ستّ ساعات بدلاً من 15- 30 دقيقة.
وتُضاف إلى مشقة الطرق البديلة مخاطر وعورتها وقربها أحياناً من مناطق التّماس بين جبهات القتال. وضع الحرب تسبب أيضاً في غياب الرصد المنهجي لضحايا الحوادث المرورية في هذه الطرق، والمرضى الذي يفارقون الحياة أثناء الرحلة الطويلة والشاقة. ففي بلد يموت فيه طفل كل عشر دقائق، وتفتك الأمراض المزمنة والموسمية والاكتئاب بعشرات الضحايا يومياً، يتطلّب الرصد المنهجي للمتضررين والوفيات فِرَقاً متخصصة ومكرّسة لهذه المهمة، وهو ما لا يتوفّر في ظل انقسام وتعطيل المؤسسات الرسمية. كذلك يصعب العثور على إحصائيات مماثلة لدى المنظّمات المحلية والدولية التي لا تستطيع تغطية دور الدولة تجاه مواطنيها.
لكن حتى لو توفّرت الإحصائيات وقاعدة البيانات، ما الذي سيغيّر نظرة طرفي الحرب لسكان المدينة وأريافها باعتبارهم نسيجاً اجتماعياً واحداً لا اثنين؟ قد تشبه تعز اليوم برلين عند نقطة التقاء الجنود السوفييت والأمريكيين في اليوم الأخير من الحرب العالمية الثانية، لكن عمّان ليست يالطا وما من “زعماء كبار” هناك ليقرّروا “مصير مساحات شاسعة من أوروبا”. في عمّان مفاوضون يعملون وفقاً لما يمليه عليهم زعماء الحرب القابعون في قصورهم الرئاسية والملكية. والمشترك بين اللحظتين، هي تلك “اللامبالاة المذهلة” – بتعبير الكاتبة الصحافية آن آبلبام – في تقرير مصير الأرض والإنسان.
1- مدينة ثانوية ضمن الريف الجنوبي لمدينة تعز، ومنذ تحوّل الطريق المؤدي إلى عدن عبرها إلى طريق رئيسي وحيد، شهدت مدينة التُّرْبَة توسّعاً عمرانياً وبشرياً لافتاً.
2- يبلغ ارتفاع جبل صَبِر عن سطح البحر 3070 متراً، وعن مدينة تعز حوالي 1500 متر.
3- محمد محمد المجاهد: “مدينة تعز.. غصن نضير في دوحة التاريخ العربي”، ط2، دار عدن للطباعة والنشر.
4- فيصل سعيد فارع: “تعز.. فرادة المكان وعظمة التاريخ”، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، 2012.
بحسب السفير العربي.