الحروب السيبرانية ومعادلات الصراع بين الكبار والصغار بقلم| عادل الجبوري
بقلم| عادل الجبوري
في العشرين من شهر نيسان/أبريل الماضي، أعلنت هيئة الطيران المدني الإسرائيلية، ووكالة البث الرسمي (كان)، والقناة التلفزيونية التاسعة، تعرُّضَ مواقعها الرسمية، في شبكة الإنترنت، لهجمات سيبرانية إلكترونية، تسبّبت بتعطيل المواقع وإحداث إرباك في منظومة عمل هذه المؤسسات.
وبعد يومين، تعرّضت المواقع الإلكترونية لمؤسسات سياسية وأمنية وإعلامية تركية، مثل رئاسة الجمهورية، وشركة بيرقدار العسكرية المتخصصة بصناعة الطائرات المسيّرة، ووكالة أنباء الأناضول الإخبارية لهجمات سيبرانية مماثلة.
وفي الوقت الذي لم تتأخّر “إسرائيل” في توجيه أصابع الاتهام إلى إيران والجهات التابعة لها والمدعومة منها، في مقابل التزام تركيا الصمتَ حيال ذلك، بادرت جهة غير معروفة، إلى حدّ كبير، وهي “المقاومة الإلكترونية العراقية” إلى إعلان مسؤوليتها عن تنفيذ الهجمات المشار إليها، وأوضحت، في بيانات منفصلة، تفاصيل الهجمات ودوافعها.
وفيما يتعلق بالهجوم السيبراني (Cyber attack) على “إسرائيل”، أوضحت أنه استهدف الموقع الإلكتروني لمطار بن غوريون، ومواقع عدة مصارف رئيسية، ومؤسسات أمنية وإعلامية متعددة.
وبخصوص الهجوم على تركيا، الذي أُطلق عليه “عمليات الشهيد مروان الأيزيدي”، فإنه – بحسب بيان الجهة المنفّذة – جاء رداً على استدعاء القنصل العراقي من جانب الخارجية التركية، واستمرار العدوان التركي على الأراضي العراقية، من خلال ضرب المدن والقصبات المتعددة في محافظات دهوك والسليمانية وأربيل، وعدم التوقف عن انتهاك السيادة الوطنية.
لا شكّ في أن هذه الهجمات تمثّل تطوراً نوعياً، وتحوُّلاً مهماً في طبيعة الصراع والمواجهة وأدواتهما، لا يرتبطان بحسابات القدرات والإمكانات العسكرية الهجومية والدفاعية التقليدية، بقدر ما يرتبطان بتوظيف التقنيات العلمية في إطار ثورة المعلومات والاتصالات لتحقيق أقصى حد ممكن من المكاسب والإنجازات، التي من شأنها إرباك الخصم، إن لم يكن إضعافه.
الملاحَظ والمعروف أنه، خلال الأعوام العشرة الأخيرة، شغل مصطلح “الحرب السيبرانية” حيزاً كبيراً من اهتمامات عدد من الدول – ولاسيما الكبرى -والمنظمات والتيارات الحزبية، ودخل بقوة في معادلات الصراع والمواجهة بين أطراف متعددة، كما هي الحال بالنسبة إلى قيام دولة ما بشن هجمات إلكترونية سيبرانية على المصالح الاقتصادية والأمنية لدولة أخرى، أو من أجل التأثير في نتائج الانتخابات ومعطياتها، والتلاعب بها. ولعلّ ما يشاع عن دور روسيا في توجيه الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، والتي تنافس فيها كل من الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية هيلاري كلينتون، وانتهت لمصلحة الأول، يُعَدّ واحداً من مصاديق تأثير العامل السيبراني في الصراع والتنافس السياسيَّين.
ويقول أحد الباحثين، إنه “فيما يتعلّق بمستوى الأدوات والوسائل المستخدَمة في عملية التدخل، فلقد أظهر الروس فهماً عملياً للتحولات الجارية في مفهوم القوة وتوظيفاتها. فلم تعد القوة تعني امتلاكاً للقدرات العسكرية والاقتصادية، بل تكمن في توظيف الإمكانات المتاحة، وفق استراتيجية فعّالة لتحقيق الأهداف المرجوّة. فالعبرة في النتائج لا في المصادر. وما دام هناك تنوع كبير في هذه المصادر للوصول إلى النتائج المراد تحقيقها، فإن استخدامها، على النحو الملائم، يُعَدّ أحد تمظهرات القوة في العصر الحالي، وربما تُعَدّ وسائل تكنولوجيا المعلومات والإنترنت من أبرزها وأكثرها تنوعاً”.
وبينما كان السياق العام، طوال حقب زمنية متعددة، يتمثّل بأن القوى الكبرى هي التي تؤثّر في سياسات الدول الأخرى الأقل قدرة، بل أكثر من ذلك، تحدّد تلك السياسات وتقرّرها، على نحو ينسجم مع مصالحها وتوجهاتها وحساباتها. لكن أن تصبح القوة العالمية الأولى – الولايات المتحدة الأميركية – عرضة للاختراق والتهديد والتأثّر الكبير، من دون أن تنفعها إمكاناتها العسكرية الهائلة، فهذا بلا شك يُعَدّ تحولاً مهماً جداً في أدوات الصراع ومؤشّراته ومساراته، علماً بأن بعض المصادر يؤكد أن الولايات المتحدة تعرَّضت، في عام 2014 وحده، لأكثر من مئة ألف هجمة إلكترونية، ولاختراقات متعددة، كان القسم الأكبر منها صادراً عن جهات أو مجاميع أو أشخاص تابعين لدول لا تُقارَن إمكاناتها وقدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية بقدرات القوة العالمية الأكبر وإمكاناتها.
ويتمثّل مفهوم الحرب السيبرانية بأنه عبارة عن “هجمات إلكترونية بقيادة عسكرية، تقوم باختراق الأنظمة الإلكترونية العالمية وكل ما يعتمد على التكنولوجيا، لتضرّ بالحواسيب والأجهزة التي تستخدم شبكة الإنترنت العالمية، والتي قد تُفضي إلى نتائج كارثية، مثل سرقة بيانات خاصة، وغيرها من الكوارث التي قد تكون عالمية، مثل الحروب النووية وغيرها”.
أمّا مفهوم الجيوش الإلكترونية أو السيبرانية، فيعرفه المختصون والمهتمون بأنه “عبارة عن مجموعة من الخبراء الإلكترونيين في مجال البرمجة وتكنولوجيا المعلومات”. وتكون تلك المجموعات تابعة لحكومات الدول. ونتيجة ذلك، تكون الجيوش الإلكترونية أُنشِئت لدوافع سياسية، بحيث يكون عملها خفياً وبعيداً عن الأنظار، بسبب حساسيته وخطورته، ويأخذ في بعض الأحيان طابعاً هجومياً، ويأخذ في أحيان أخرى طابعاً دفاعياً.
ولأن القوى الدولية الكبرى، كالولايات المتحدة وغيرها، باتت تدرك أثر العامل السيبراني ودوره وتأثيره في ضمان التفوق وتجنُّب التهديدات والمخاطر المحتملة، فإنها راحت تؤسّس الجيوش الإلكترونية، كمنظومات لا تقلّ أهمية عن أجهزة الاستخبارات والوكالات الأمنية ووسائل الإعلام والنظم المالية المصرفية.
فالولايات المتحدة الأميركية أعلنت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب (2016-2020) رفع مستوى الأمن السيبراني إلى مستوى قيادة قتالية موحَّدة. ونتيجة ذلك، تم إقرار تشكيل وحدة العمليات الإلكترونية الأميركية كوحدة مستقلة بذاتها، وغير مرتبطة بأي قوة أخرى أو تابعة لها.
وقبلها، أقدمت الصين، عام 2015، على تشكيل جيشها الإلكتروني، تحت مسمى “الجيش الصيني الأزرق”.
أمّا روسيا فأعلنت، في عام 2017، امتلاكها جيشاً إلكترونياً بهدف حماية الفضاء الإلكتروني الروسي، من خلال تحديد مصادر الهجمات التي تتعرض لها روسيا، وتحسين قدراتها على تأمين الحماية الإلكترونية للبلاد وتطويرها. والشيء نفسه فعلته بريطانيا في عام 2015، ناهيك بـ”إسرائيل” التي أولت اهتماماً كبيراً جداً لهذا الجانب، بحُكم طبيعة أوضاعها الأمنية الحساسة وكثرة أعدائها وخصومها، وتطور قدرات هؤلاء الخصوم والأعداء، في كلّ الجوانب والمجالات، كما هي الحال بالنسبة إلى إيران وحزب الله اللبناني وحركات المقاومة الفلسطينية، ثم بعض الفصائل العراقية، التي تنضوي، بصورة أو بأخرى، تحت مظلة محور المقاومة.
ولعل الهجمات الإلكترونية الأخيرة للمقاومة العراقية ضد أهداف إسرائيلية وتركية، تنطوي على إشارات ومؤشرات مهمة للغاية، لأن أهدافها تتجاوز نتائجها الآنية، وترتبط بما يمكن أن تقوم به من خطوات أخرى، وفقاً لقدراتها التقنية، مأخوذاً بنظر الاعتبار حقيقة أن ساحة تحركها وفعاليتها لا تبتعد عن ساحة الحراك الإيراني وحراك مجمل عناوين محور المقاومة. وهذا ما يبعث على القلق الكبير لـ”تل أبيب” حيال ذلك، والذي عبّر عنه بوضوح رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي نيفتالي بينيت، في كلمة له خلال مؤتمر السايبر الوطني السنوي في جامعة “تل أبيب”، في الحادي والعشرين من تموز/يوليو 2021، إذ قال “إن الهجمات الإلكترونية هي أحد أكبر التهديدات الوجودية للأمن القومي الإسرائيلي والأمن القومي العالمي.. وإنه إذا كان على دولة شريرة في الماضي إرسال طائرة بجنود وقنابل، فإن أفضل طريقة اليوم هي الهجوم الإلكتروني. وكل ما يتطلبه الأمر هو الأدمغة والمعرفة، وتجربة واتصال جيد بالإنترنت، هذا أمر سهل”، مضيفاً: “نحن، كـ”دولة”، علينا الدفاع عن أنفسنا. لذلك، أنشأنا هيئة إلكترونية وطنية واحدة، يتمثل دورها بمراقبة جميع الصناعات في إسرائيل – المياه والكهرباء وما إلى ذلك ـ وهذه السلطة مسؤولة أيضاً عن السوق الخاصة”.
بعبارة أخرى، أراد بينيت أن يقول إن من يمتلك الترسانة العسكرية الضخمة والمتطورة والجيش القوي المدرَّب تدريباً جيداً، ويحظى بدعم دولي واسع، عليه أن يفكر ألف مرة قبل أن يُقْدِم على أي عمل عسكري ضد كيان صغير لا يمتلك من ذلك شيئاً.
وفي الوقت الذي تذهب “إسرائيل” بعيداً في مخططاتها لاختراق الأنظمة السياسية والمجتمعات العربية والإسلامية، إلكترونياً، وبرنامج بيغاسوس التجسسي أحد الأمثلة والمصاديق الشاخصة على ذلك، إلّا أنها باتت، مع مرور الزمن، عرضة للاستهداف السيبراني، الذي غالباً ما تترتّب عليه تكاليف مالية طائلة. وهناك اليوم كثيرون من الساسة والقادة الأمنيين والخبراء والباحثين، في داخل الأروقة السياسية والمحافل الفكرية الإسرائيلية، يؤكدون أنه يجب التحسب لخطر الهجمات السيبرانية الصادرة عن أعداء “إسرائيل”، أكثر من التفكير والتخطيط لكيفية مواجهة الصواريخ والطائرات!
وعندما يتم الربط بين القلق الإسرائيلي الفاضح، والاهتمام الاستثنائي والكبير جداً، من جانب القوى الدولية الكبرى، ببناء قدراتها السيبرانية وجيوشها الإلكترونية وتطويرها وتفعيلها، وبين الهجمات السيبرانية للمقاومة الإلكترونية العراقية على أطراف تهدّد المنظومات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية العراقية، كـ”تلّ أبيب” وانقرة، حينذاك يكون في الإمكان رسم التصورات والآفاق الأوّلية للطبيعة والأدوات لحروب المرحلة أو المراحل المقبلة، ومدى تأثيرها في موازين القوى ومعادلات الصراع، ولاسيما في ظل التلاشي والانحسار للأطر والتصنيفات التقليدية لمفهوم الكبار والصغار في ساحات التصادم والالتقاء.