أطفال “جولات الشوارع” في اليمن
صنعاء – محمد راجح
في سنّ لا يتعدى 12 عامًا، يقف الطفل معاذ مصلح، النازح من محافظة الحُديدة في عدن العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا لبيع الماء في جولة بمنطقة “بئر أحمد” شمال غربي مدينة عدن، بينما يبيع الطفل أسعد عبدالله (9 أعوام)، في إحدى جولات شارع حدة، وسط العاصمة اليمنية صنعاء، لبيع المناديل الورقية.
لاحظت “خيوط” في رصد ميداني، ما يتحمله معاذ من جحيم طقس قاسٍ من الحرّ الشديد والشمس الحارقة طوال ساعات اليوم، وبنسبة لا تختلف كثيرًا يقضي أسعد يومه، في منظر يدعو للأسى على مستقبل الأجيال القادمة التي تواجه ظروفًا صعبة قذفت بهم إلى عالم المجهول.
تكتظ مثل هذه الأماكن في مختلف المدن اليمنية بعشرات الأطفال الذين يعملون كباعة جائلين، في حين تنتشر أعداد أخرى في العمل بمهنة صيد الأسماك وفي الحقول الزراعية وقطف أشجار وأوراق نبتة “القات”، وفي الأسواق للعمل في مهن وأعمال متعددة لا تناسب سنهم على الإطلاق.
يشهد اليمن تزايدًا خطيرًا في أعداد الأطفال المنخرطين في سوق العمل بفعل الحرب والصراع الدائر في البلاد وما تسبب به من نمو كثيرٍ من الآفات والظواهر المجتمعية، وتفجير أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم.
آثار الصدمات الاقتصادية الأخيرة والاضطرابات السياسية والنزاع والحرب، أدّت إلى تفاقم مستويات عمل الأطفال عما كانت عليه في السابق، كما أنّها تسببت بعكس مسار التقدم الذي كانت اليمن كغيرها من البلدان العربية قد أحرزته في مكافحة عمل الأطفال من خلال ما انتهجته من سياسات مكافحة.
طوال السنوات السبع الماضية من عمر الحرب الدائرة في اليمن، عاش حوالي 1.2 مليون طفل في اليمن في 31 منطقة مشتعلة بالنزاع، بما في ذلك الحُديدة وتعز وحجّة وصعدة- في أماكن تشهد عنفًا شديدًا بسبب بالحرب.
ويصل عدد الأطفال العاملين في اليمن، بحسب آخر بيانات مسجلة قبل الحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2015، إلى نحو 1.6 مليون طفل.
ويبلغ عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا، 7.7 مليون نسمة يشكلون 34.3% من إجمالي السكان اليمنيين، في حين أنّ معدل العمل أعلى عند الأطفال الأكبر سنًّا مقارنة مع الأصغر سنًّا حيث يبلغ معدل الأطفال العاملين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و11 عامًا 11%؛ يتوزعون بين 12.3% للفتيات، مقارنة بحوالي 9.8% للذكور، ترتفع هذه النسبة إلى 28.5% بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عامًا وإلى 39.1% لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا.
توقف برامج المكافحة
تحذر منظمات دولية من تنامي ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن- أفقر الدول العربية، والذي يشهد أعلى معدل لعمل الأطفال بأرقام نسبية ومطلقة، إذ أن نحو 14% من أطفال البلاد بعمر (5 – 14) عامًا، ممن يقدر عددهم بحوالي 835 ألف طفل لديهم عمل.
مسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل -فضّل عدم ذكر اسمه- يوضح أنّ الأجهزة والدوائر الحكومية الرسمية فقدت برامجها الخاصة بمكافحة مثل هذه الظواهر، منها: عمالة الأطفال، التي تشهد تناميًا خطيرًا على مستقبل اليمن، وذلك مع توقف الموازنات التشغيلية والمخصصات المالية لمثل هذه البرامج والأنشطة، في ظل تركز الدعم الدولي على الأولويات الإنسانية والبرامج الإغاثية بسبب الحرب الدائرة في البلاد.
أقرّت الحكومة اليمنية في عام 2002 قانون حقوق الطفل في اليمن، الذي يحدد الحد الأدنى لسن العمل القانوني في 14 عامًا. ولكن، في الوقت الذي يحظر فيه القانون تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا في العمل الصناعي، لم يضع أية قيود على عمل الأطفال في الأعمال والأنشطة والمشاريع الأخرى الخاصة.
بينما تعرّف الأمم المتحدة، عمالة الأطفال بأنها: أعمال تضع عبئًا ثقيلًا على الأطفال وتعرّض حياتهم للخطر، ويوجد في ذلك انتهاك للقانون الدولي والتشريعات الوطنية، فهي إمّا تحرم الأطفال من التعليم أو تتطلب منهم تحمل العبء المزدوج المتمثل في الدراسة والعمل. وتشمل عمالة الأطفال التي يجب القضاء عليها مجموعةً فرعية من عمل الأطفال؛ أهمها الأشكال المتعلقة بعمل الأطفال المطلقة التي عرفت دوليًّا بالاستعباد والاتّجار بالبشر وسائر أشكال العمل الجبري، وتوظيف الأطفال جبرًا لاستخدامهم في النزاعات المسلحة وأعمال الدعارة والأعمال الإباحية والأنشطة غير المشروعة، إضافة إلى العمل الذي يؤدّيه طفل دون الحد الأدنى للسن المخول لهذا النوع من العمل وفقًا للتشريعات الوطنية النافذة للدول، وكذا نوعية العمل الذي يهدّد الصحة الجسدية والفكرية والمعنوية للطفل، أكان بسبب طبيعته أو بسبب الظروف التي ينفذ فيها، أي ما يعرف بمصطلح “العمل الخطر”.
يتطرق الخبير الأكاديمي المتخصص في الخدمة الاجتماعية، ناصر حيدر، في حديثه إلى نقطة مهمة في سياق توسع وتمدد ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن فيما يرافقها من انتشار آفات عديدة في المجتمع واستغلال بشع للأطفال يتم بصور مختلفة لا تتوقف عند إطار العمل.
بحسب معلومات خاصة حصلت عليها “خيوط”، فإنّ كثيرًا من المراكز الخاصة برعاية الأيتام في صنعاء ومدن يمنية رئيسية توقفت عن العمل في تقديم الرعاية الخاصة بهذه الفئة التي يغلب عليها الأطفال، بالذات في الجانب التعليمي، وهو ما أدّى إلى تفريغها بنسبة تصل إلى أكثر من 70% من روادها ونزلائها.
يعتقد حيدر أن جزءًا من هذه الفئة انتشرت في الأسواق وأرصفة وجولات الشوارع للتسول والعمل، يرى حيدر أن جزءًا من هذه الفئة انتشرت في الأسواق وأرصفة وجولات الشوارع للتسول والعمل، الأمر الذي يؤدي إلى استقطاب أطراف الحرب لهؤلاء والعمل على تجنيدهم واستغلالهم في المعارك والجبهات العسكرية.
العمل بدلًا عن التجنيد
يتغلغل أثر النزاع عميقًا في اليمن ولم يوفّر ولو طفلًا واحدًا، العنف المهول على مدى السنوات الماضية، وارتفاع مستويات الفقر، إضافة إلى عقود من النزاعات والإهمال والحرمان، كل ذلك يضع عبئًا ثقيلًا على المجتمع اليمني، ويمزق نسيجه الاجتماعي– الذي هو أمر أساسي لأي مجتمع، وخاصة الأطفال الذين تتزايد قسوة تبعات الحرب والصراع عليهم وتحول كثير منهم إلى سوق العمل في أعمال ومهن وأشغال شاقّة ومضنية لا تناسب أعمارهم.
يلفت الباحث الاجتماعي، علي القادري، في حديثه إلى تنامي ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن بصورة أصبح من خلالها مشاهدة أسر بكامل أفرادها، خصوصًا التي يغلب عليها الأطفال، جميعهم في الشوارع وقد اعتادوا على نمط حياتهم الجديد الذي دفعهم إليه الفقر والعوز والحاجة والحرمان والجوع، لذا يلاحظ، وفق هذا الباحث، أنّ المدارس التعليمية تكاد تكون شبه مفرغة من فئة الأطفال من 6 إلى 14 عامًا، وهنا درجة الخطورة التي ستعاني اليمن تبعاتها القاسية مستقبلًا.
يقول المواطن، محمد سالم، يقطن مدينة إب (وسط اليمن)، إنه ليس هناك أي جدوى من إرسال أطفاله الثلاثة الذين يعيلهم إلى المدرسة ما داموا لا يجدون كأسرة ما ينفقونه على قوتهم اليومي الضروري.
فضّل هذا المواطن الذي يعيل أسرة مكونة من 7 أفراد، أن يعمل اثنان من أطفاله، أحدهم بعمر 7 أعوام، والآخر 10 أعوام، معه في بسطة خاصة لبيع الخضروات والفواكه، بينما يعمل طفل ثالث بعمر 15 عامًا في محل تجاري “جملة” لبيع المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية.
بحسب تقرير صادر عن اليونيسف، “منذ اتفاق ستوكهولم في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2018، لم يحدث تغيير كافٍ بالنسبة للأطفال في اليمن. فمنذ ذلك الحين، يُقتل أو يُصاب ثمانية أطفال يوميًّا، “قُتل معظم هؤلاء الأطفال أثناء اللعب مع أصدقائهم خارج منازلهم، أو في طريقهم من وإلى المدرسة”.
يرى الباحث الاجتماعي القادري، أنّ كثيرًا من الأسر في مختلف المدن والمناطق اليمنية عمدت مؤخرًا إلى إرسال أبنائها إلى الأسواق وجولات الشوارع، خوفًا من قيام أطراف الحرب -خصوصًا أنصار الله (الحوثيين)- بتجنيدهم والزج بهم إلى جبهات القتال، لذا يلاحظ هذا التسرب الكبير من التعليم والتنامي الواسع في ظاهرة عمالة الأطفال.
وتؤكّد اليونيسف أنها كثّفت وشركاءها في مجال المساعدات الإنسانية الجهودَ لتلبية الاحتياجات الهائلة للأطفال والعائلات في اليمن، وهي أكبر أزمة إنسانية في العالم. تقوم اليونيسف مع البنك الدولي بتزويد 1.5 مليون عائلة من أفقر العائلات في البلاد بالمساعدات النقدية الطارئة لكي تعين هذه العائلات على تدبير أمورها، وتجنّب اتخاذها لتدابير قصوى من أجل البقاء على قيد الحياة، مثل عمالة الأطفال أو زواج الأطفال أو التجنيد. في أحد الأعوام الماضية تقول “اليونيسف” إنها قدّمت العلاج لأكثر من 345,000 طفل مصاب بسوء التغذية الحادّ جدًّا، في حين تلقّى ما يقرب من 800,000 طفل الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدتهم في التغلب على الصدمات التي عانوا منها.
كما تدعو اليونيسف إلى تقديم المساهمات غير المشروطة لتزويد أطفال اليمن بالمساعدات المنقذة للحياة، وتحثّ على إعادة الاستثمار بشكل مكثف في اليمن، وذلك لمساعدة الأطفال اليمنيين في تحقيق مستقبلهم كما يتمنى أي أبوين في جميع أنحاء العالم من أجل أطفالهم. مؤكدة أن “هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن اليمن من النهوض مجددًا. إن لم يحدث ذلك، فإنّ اليمن سيبقى مهددًا بالعنف ويبقى مصيره في مهبِّ الريح؛ مما سيترك عواقب وخيمة على الأطفال”.
أطفال القطاعات
في حين يشير خبراء في منظمة العمل الدولية إلى أنّ تنفيذ إجراءاتٍ فعالة لمعالجة عمل الأطفال وتوظيف الشباب يستدعي أولًا الإلمام كليًّا بصلاتهما، فهناك من ناحيةٍ أطفالٌ يعملون في وقتٍ ينبغي أن يكونوا به في المدرسة، وهناك من ناحيةٍ أخرى شبانٌ وشابات يكافحون لإيجاد وظائف منتجة.
كما يؤثّر عمل الأطفال على كلٍّ من العرض والطلب في أسواق عمل الشباب، حيث يشوه توفرُ العمالة الرخيصة سوقَ العمل ويحرف الطلب من الشباب إلى الأطفال. كما أنّ عمل الأطفال يمنعهم من الحصول على التعليم الأساسي والمهارات، ما يُسهم في خلق قوة عملٍ شبابية غير ماهرة. وتهيب منظمة العمل الدولية على ضرورة بذل مزيدٍ من الجهود للقضاء على عمل الأطفال وضمان حصول الشباب على فرص عملٍ لائقة.
أحمد عثمان، الخبير في سوق العمل، يؤكد أنّ هناك سلسلة من المتغيرات والاختلالات يشهدها سوق العمل المتوقف عن توليد الفرص المتاحة للتشغيل مع توسع البطالة إلى مستويات خطيرة، خصوصًا من فئة الشباب وخريجي الجامعات والمؤسسات التعليمية التي أصبحت مخرجاتها تتزايد بطريقة غير مدروسة وعشوائية.
يعتبر قطاع الزراعة القطاع الذي يحدث فيه معظم عمل الأطفال بنسبة 70% في مختلف أنحاء العالم. فاليوم، ثمة 112 مليون من الفتيان والفتيات يعملون في مجالات إنتاج المحاصيل أو الثروة الحيوانية أو الغابات أو مصايد الأسماك أو تربية الأحياء المائية، وغالبًا ما يكون ذلك لساعات طويلة وفي ظلّ ظروف محفوفة بالمخاطر.
ويشكّل عمل الأطفال انتهاكًا لحقوق الطفل، كما يشكّل -من خلال تعريض صحة الشباب وتعليمهم للخطر- حجر عثرة أمام تحقيق التنمية الزراعية المستدامة والأمن الغذائي، وهو ما يتطلب وفق منظمات ومؤسسات دولية، معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراء عمل الأطفال في قطاع الزراعة، مثل الفقر في المناطق الريفية والافتقار إلى الحماية الاجتماعية.
يرجح تقييم شامل للمنظمتين الأمميتين (العمل الدولية – اليونيسف) في تقرير مشترك صادر العام الماضي 2021، أنّ عمالة الأطفال تتركز في جميع الدول، بالذات الدول النامية، في قطاع الزراعة 70%، يليه 20% في قطاع الخدمات، ونحو 10% في قطاع الصناعة.
بحسب التقرير أيضًا، فإنّ عمالة الأطفال أكثر انتشارًا بين الفتيان من الفتيات، كما تنتشر عمالة الأطفال في المناطق الريفية (14%)، وهي أعلى بثلاث مرات مما هي عليه في المناطق الحضرية 5%.
ويؤكد التقرير أنّ الأطفال العاملين معرّضون لخطر الأذى الجسدي والعقلي، كما يتعرض تعليمهم للخطر، وتتقيد حقوقهم، وتصبح فرصهم في المستقبل محدودة.
يلتحق الأطفال في جميع أنحاء العالم روتينيًّا بأشكال مختلفة من العمل بأجر وبدون أجر التي لا يترتب عليهم منها ضرر. ومع ذلك، تُصنّف تلك الأعمال ضمن مفهوم “عمالة الأطفال” إذا كان الأطفال أصغر (وأضعف) من أن يمارسوا تلك الأعمال، أو عندما يشاركون في أنشطة خطرة قد تعرض نموهم البدني أو العقلي أو الاجتماعي أو التعليمي للخطر. وفي أقل البلدان نموًّا، يلتحق طفل واحد من بين أربعة أطفال (ممن تتراوح أعمارهم بين 5 و17 سنة) في أعمال تعتبر مضرة بصحتهم ونموهم، بحسب خيوط.