يوم الصحافة اليمني والمآل الفاجع هل نحتفي أم نحزن ونبكي؟ بقلم| عبدالباري طاهر
بقلم| عبدالباري طاهر
هل نحتفي أم نحزن ونبكي؟ المعنى واحد تعلمناه من هرقليطس: “الموت والحياة معناهما واحد”، ومن حكمة أبي العلاء المعري: “أبَكَت تلكم الحمامة أم غَنَّت؟!”، فلحظة الميلاد لحظة الموت عند الحكيم المعري.
نحتفي اليوم بالذكرى الـ31 ليوم الصحافة اليمني، والكارثة مُحدقة؛ ففي اليوم التاسع من يونيو 1990؛ أي بعد تسعة عشر يومًا من قيام الوحدة اليمنية، انعقد المؤتمر التوحيدي الأول بصنعاء. كان توحد الصحفيين أيضًا بداية توحد الأطباء، والمحامين، واتحاد نساء اليمن، والمهندسين، وغيرهم، أما اتحاد العمال، والطلاب، والشباب، والأدباء، فيسبق قيام الوحدة.
كان التوحيد ثمرة إصرار الصحفيين على التوحد منذ تأسيس جمعية الصحفيين في صنعاء 22 أبريل 1976، ومنظمة الصحفيين الديمقراطيين في عدن في 5 مايو 1976 تأسّيًا بتأسيس البرافدا، ومولد كارل ماركس، ومعطى من معطيات الوحدة. وقد انعقد المؤتمر التوحيدي الذي حضره مئة وواحدٌ وثلاثون مندوبًا من الشمال والجنوب، تحت شعار (نحو تعزيز دور الصحافيين اليمنيين في حماية الجمهورية وترسيخ الوحدة الوطنية والديمقراطية وتحديث المجتمع).
لأول مرة بعد قيام الثورة اليمنية سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963 تُطلق الحريات العامة والديمقراطية، ويعترف دستور دولة الوحدة بالتعددية السياسية والحزبية، وتعلن الأحزاب السرية المحظورة عن نفسها، وتشكل أحزابًا جديدة، ويسن قانون صحافة يقر حرية الرأي والتعبير، ورفع الرقابة السابقة واللاحقة، وإن كان قد وضع قيودًا على الترخيص، وأعطى البطاقة الصحفية لوزارة الإعلام؛ وهو ما رفضه الصحفيون منذ البداية، وتوصلوا إلى حل توفيقي في البطاقة، بينما بقيت القيود المفروضة على الترخيص قائمة، كما رفض الصحفيون المواد السالبة للحرية، والمُقيِّدة للحق في الحصول على المعلومات، وعقوبات السجن، والتغريم، والإيقاف عن مزاولة المهنة، ومضاعفة العقوبات الكاثرة، ورغم التفتح النسبي والهامشي الديمقراطي إلا أنّ المكايدات، وصراع طرفي الحكم: المؤتمر، والاشتراكي، ونفوذ القوى التقليدية والإسلام السياسي- كان يحرّض ويدفع للمواجهة، وضيَّقَ انفلات العنف والاغتيالات السياسية، والتحشيد لحرب 1994 على الحريات السياسية، وخنق أكثر فأكثر حرية الرأي والتعبير.
ترصد نقابة الصحفيين الانتهاكات خلال الخمسة الأشهر الأخيرة، 35 حالة انتهاك؛ منها إغلاق ست إذاعات محلية لأسباب إدارية لها علاقة بالتصريح والرسوم غير القانونية، ولا تزال إذاعة “صوت اليمن” متوقفة بسبب تعنّت وزارة الإعلام
كانت الكارثة على اليمن واليمنيين حرب 1994، وفيما بعد حروب صعدة الستة التي همشت الحريات، وجرّمت الحريات الصحفية، وأعادت التشطير، وما هو أبشع من التشطير.
رفضنا في النقابة فصل زملائنا في الأمانة العامة والمجلس المركزي للنقابة الذين التجؤوا من الحرب إلى غير بلد. الزملاء الذين دانوا الحرب، وكشفوا جرائمها حوكموا بتهم الخيانة العظمى، وجرت محاكمات جائرة ضد العديد من الصحف والصحفيين، ونُهبت مقرات الصحف، واعتُدي على الصحفيين بالضرب، والطرد من الوظيفة، والمنع من مزاولة العمل، وكان الصحفيون المعارضون والمستقلون إلى جانب الصحافة الحزبية المعارضة والأهلية المستقلة الضحايا الأوائل، كصوت العمال، والوحدوي، والشورى، والأيام، والمستقبل، والثوري، والنداء، والأسبوع، وحديث المدينة، والأولى، والشارع، ويمن تايمز، والأمة، والوسط، والمصير، والجماهير، والإحياء العربي، وقد كان نصيب “الأيام” الصحيفة الأهلية المستقلة وافرًا؛ فقد شُنّت ضدها حربان، وسُجن بعض محرريها، وحكم على حارسها بالإعدام، وتعرض الصحفيون لألوان من العقوبات القاسية وغير المسبوقة، ونهبت معداتها وإرشيفها.
المأساة أنّ القمع والتنكيل الشامل الذي تعرض له الصحفيون والصحافة يبدو رحيمًا إذا ما قيس بما حصل بعد حرب انقلاب صالح وأنصار الله وعدوان التحالف.
أوردت بعض أسماء الصحف التي تعرضت للمضايقة والعقاب؛ لِأصل إلى الفاجعة؛ وهي أنّ كل هذه الصحف وغيرها، وحتى صحف رسمية في تعز وعدن، تعرضت للتوقف بسبب الحرب، أما رؤساء وطواقم هذه الصحف، فقد غادر بعضهم البلاد طلبًا للسلامة، وترك العديدون المهنة، وفُصل واعتُقل وقُتل الكثير، وهربت القنوات، ولم يبقَ في اليمن غير أدوات دعاية الحرب، والتحريض على الكراهية والعنف المحسوبة على الميليشيات، وكان قطع المرتبات، والطرد والاستغناء من أقسى العقوبات.
ترصد نقابة الصحفيين الانتهاكات خلال الخمسة الأشهر الأخيرة، 35 حالة انتهاك؛ منها إغلاق ست إذاعات محلية لأسباب إدارية لها علاقة بالتصريح والرسوم غير القانونية، ولا تزال إذاعة “صوت اليمن” متوقفة بسبب تعنت وزارة الإعلام.
سجّلت النقابة خمس حالات تعذيب ضد الصحفيين المختطفين المحكومين بالإعدام، وهناك تسعة صحفيين مختطفين لدى أطراف مختلفة، ثمانية منهم لدى أنصار الله (الحوثيين)، وهم: وحيد الصوفي، وعبدالخالق عمران، وتوفيق المنصوري، وأكرم الوليدي، وحارث حميد، ومحمد عبده الصلاحي، ومحمد علي الجنيد، ويونس عبد السلام- كلهم مختفون قسريًّا، ولا يزال محمد قايد المقري مختفيًا قسريًّا لدى تنظيم القاعدة في حضرموت منذ العام 2015، ويواجه الصحفيون عبدُالخالق عمران، وتوفيق المنصوري، وأكرم الوليدي، وحارث حميد، حُكمًا تعسفيًّا بالإعدام من محكمة أمنية وبدون توفر أبسط معايير المحاكمة العادلة والإجراءات السلمية.
يطالب المحامي عبدالمجيد صبرة، والنقابة، بإسقاط الحكم الجائر، والتهم الجاهزة الناجزة بأن هؤلاء الصحفيين مع العدوان، وبالنسبة للجانب الإنساني، فهم ممنوعون من الزيارة، ومن الوسيلة الوحيدة لاطمئنان أقاربهم عليهم، وهو التواصل عبر التلفون بين فترة وأخرى حسب تصريحات محاميهم؛ مؤكدًا أنّ حالتهم غاية في الشقاء، وأنّ الصحفي توفيق المنصوري يعاني من القلب، والضغط، والسكري، ولم يُسمح بخروجه للمستشفى، ولو على حساب أسرته، حسب إفادة بعض زملائه.
سجلت النقابة قتل المصور الصحفي فواز الوافي في تعز، وقد وصلت حالات قتل الصحفيين في اليمن إلى 49 حالة، منذ العام 2011 وحتى مارس 2022.
تقبع اليمن الآن في المرتبة الـ169 في مؤشر حرية الصحافة، كواحدة من أكثر البلدان خطرًا على الحريات الصحفية، والراعب أنّ هناك عشرات الميليشيات، وإرهابًا متفلتًا، كلها تترصد الصحفي – شاهد حقيقة جرائم الحرب، وانتهاك حقوق الإنسان، وجرائم ضد الإنسانية.
محاميات ومحامو “منظمة مواطنة” كان لهم حضورٌ في هذه المحاكمات أيضًا، ولكنّ الخلل آتٍ من غياب رأي عام قوي وضاغط ضد القمع الممنهج، وغياب صوت الأحزاب التي توّزعت على خارطة الحرب، ولم تعد تدافع حتى عن أعضائها، كما أنّ الرأي العام العربي والدولي مهتم بقضاياه، والراعب عدم وجود مساءلة عن هذه الجرائم في المنطقة العربية كلها، فإذا كانت المنطقة العربية الأكثر خطرًا على الصحافة حسب اليونسكو، فإنّ اليمن في الصدارة.
تقتل إسرائيل شهود الحقيقة الصحفيين والصحفيات، وآخرهم شيرين أبو عاقلة، وغفران هارون؛ حمايةً لاحتلالها الاستيطاني، والفصل العنصري، بينما يقتل الحاكم العربي الصحفي الشاهد على فساده واستبداده متعاونًا مع إسرائيل.
الحاكم والحكم العربي لا يجسدان خطرًا على الحريات الصحفية والعامة فحسب، وإنما يمتد خطرهما إلى الكيان القومي والأمة كلها.