رحلة الضياع إلى الخارج.. تذكرة أبدية لهجرة الشباب اليمني
صنعاء – أمجد عبدالحفيظ
لم يتمكن أحمد علي، من ابتلاع ريقه بعد قرار ابنه خالد السفر، إلا بصعوبة، الفتى الذي يعتبر وحيد العائلة، قرر السفر نظرًا لصعوبة الوضع المعيشي في البلاد.
يقول أحمد “كان ابني يعمل في شركة أدوية، وضعه كان أفضل، لكن ما تمر به البلاد حاليًّا لم يعد يسمح له أن يبني مستقبله إطلاقًا، فراتبه بالكاد يوفر مصاريف الأسرة، فما بالك إذا أسّس بيتًا خاصًّا به، أشعر بألم الفرقة عليه، لكن ليس في اليد حيلة”.
بعد توقفه أيام على حدود بيلاروسيا، تمكن خالد وزميله من دخول ألمانيا، وتحقق حلم العائلة بالعمل في أوروبا، عائلة أحمد علي ليست الوحيدة التي اضطرت لهذا الخيار، فأغلب الأسر اليمنية لم تعد تستطيع مقاومة ظروف الوضع المعيشي الصعب، ما يجعلهم يفكرون بتهجير أبنائهم أيًّا كانت الوجهة.
غصة كبيرة
اليمن ليس بلدًا مغريًا للبقاء فيه، لكنه اليوم يبدو طاردًا لأبنائه. عبدالله علي تخرج من قسم الصحافة بجامعة صنعاء، كان يحلم أن يعمل في صحف عالمية، لكنه تفاجأ بتقسيم البلاد إلى كانتونات لجماعات بعينها، كل جماعة تملك وسائل إعلام خاصة بها، وعبدالله لا ينتمي إلى أي حزب من هذه الأحزاب الموجودة في الساحة، ما جعله يتوقف تمامًا عن العمل الصحافي ويتحول إلى عمل تجاري ليعيل أسرته.
يقول عبدالله “كنت أتوقع أن تنتهي الحرب خلال سنة أو سنتين، لكننا اليوم في السنة السابعة، أشتغل في مجال غير مجال تخصصي، بانتظار أن تنفرج الأزمة، لكن لا بوادر أمل”.
يضيف أن العمل التجاري تراجع مع تقلب أسعار الصرف وارتفاع أسعار المواد الغذائية، متابعًا: “هذه الحرب أكلت من شعر رأسي أكثر مما أكلته القذائف على أرض الواقع، أفكر بالهجرة لأكمل دراستي أو للعمل في أي بلد آخر لتجاوز هذا الجحيم، الوطن أصبح سجنًا كبيرًا، والكل يريد أن يخرج منه”.
ويستطرد عبدالله: “من يستطيع تعويضي عن كل هذه السنين التي قضيتها في الهروب من السياسة والابتعاد عن أطراف الحرب حمايةً لمهنتي؟! من يدفع التعويضات لي ولزملائي الشباب عن ضياع كل هذه السنوات كون أغلبنا يعيش في بطالة بسبب الحرب”.
سنوات الحرب
يفكر محمد علي في السفر إلى عمّان- الأردن لتحضير رسالة الماجستير، لكن ظروف الحرب منعته من السفر، وحتى الآن ما يزال يدخل وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن أي فرصة تمكنه من السفر، كما فعل صديقه نجم حين تعرف على فتاة عبر الفيس بوك تمكن من خلالها الحصول على تأشيرة دخول ليتمكن من إكمال دراسته، محاولات كثيرة بائت بالفشل.
حمدي الخطيب، خريج لغة إنجليزية، يبحث عن طريقة للوصول إلى كندا، حتى إنه اضطر إلى تغيير صورته الشخصية على الفيس بوك بالعلم الكندي، يقول حمدي “لقد يئست من البحث عن منفذ كون السفارات أغلقت أبوابها بسبب الحرب، لكني أحاول جمع بعض المال للذهاب إلى السعودية للتقديم إلى السفارة الكندية، حلم مجهول النتائج، وأجهل كيف أصل إليه”.
محمود الحاج، خريج المختبرات، وصل به الحال إلى التفكير بالتسجيل كلاجئ بعد رحلة سيبدَؤُها من جيبوتي ومن ثَمّ إلى كندا، يقول الحاج “قبل أسبوعين جهزت جوازي وذهبت إلى تاجر يمني يعمل في جيبوتي، بحثًا عن عمل هناك، ليتكفل بالخروج إلى جيبوتي على نفقته الخاصة، ومن ثَمّ سوف تتيسر الأمور هناك”.
مغادرة جماعية
مختار عبدالمعز، ناشط متخصص بالأمن الرقمي ومعالجة قضايا العالقين الشباب من المهاجرين، يتفاجأ بكمية الرسائل التي تصله طلبًا للسفر وطلبات التسجيل على بعض برامج السفر إلى بعض الدول، مثل أمريكا، فقد تمكن -وفق حديثه- من تسجيل أكثر من 1600 شخص، إضافة إلى مساعدة أكثر من 300 عالق في الحدود بدون مقابل، في حين تركتهم الحكومة للمجهول، إذ يؤكد عبدالمعز، أن مستقبل الشباب اليمني المهاجر على المحك، حيث يتم تجريفهم والنيل من كرامتهم بشكل لا يتصوره عقل.
ويضيف أنّ اليمنيين يبحثون عن الأمن والسكينة، وحماية أسرهم، وبناء حياتهم بعيدًا عن هذا الواقع، خاصة أن فرص العمل أصبحت متاحة عن طريق الإنترنت، إذ إن التعامل الإيجابي مع هذه الفرص يمكنهم من الحصول على أعمال يتقاضون عبرها من ما بين 300-500 دولار عن طريق الإنترنت، فالأهم في هذا الجانب يتمثل في اكتساب مهارات استخدام السوشيال ميديا بشكل إيجابي.
من جانبه، يرى الكاتب الصحفي صدام الكمالي، أن الحرب في اليمن هي السبب الرئيس لهجرة الشباب والبحث عن فرص حياة أفضل في الخارج، إضافة إلى تردي الوضع الاقتصادي والبيئة الطاردة التي تشكلت بسبب ممارسات النظام الحاكم خلال العقود الماضية. لكنه يعتقد أن هذه الهجرة مفيدة لمستقبل البلاد حيث سيكون هناك جيلٌ شاب مؤهل، إذا عاد هذا الجيل بعد انتهاء الحرب، إلى اليمن.
رحلة الموت
في طريقه إلى الغربة، فقدَ مصطفى الريمي حياته في بولندا، كان حلمه أن يذهب لتحسين ظروفه المعيشية في أوروبا واصطحاب عائلته معه بعد سنوات، لكنه فقد حياته هناك، فيما حضرت القنصلية لدفنه ودفن كل أحلامه وأحلام أسرته معه.
تتعدد صور المعاناة التي يواجهها المهاجر، فمثلًا يعمد الجنود في حدود بولندا إلى إغراق المهاجرين بالنهر تحت درجة حرارة صفر، ومن ثم يتم إعادتهم إلى حدود بيلاروسيا ليتجمدوا في العراء، وأحيانًا يتم جمعهم في مكان معين ومحاصرتهم ومنعهم من الحركة بعد أن يتم أخذ أموالهم وهواتفهم.
يؤكد مصدر متخصص بقضايا اللاجئين، فضّل عدم الإشارة إلى اسمه، أنّ هناك مخاطر للسفر عبر روسيا إلى بيلاروسيا، حيث “يتم سجن من يتم الإمساك به لمدة سنة، أو إخفاؤهم، بل إن البعض قد يتم كسر أرجلهم أثناء التحقيق، هناك مشاهد مؤلمة وعنيفة، قد يصل بهم الحال إلى منع كبار السن من الطعام، والاكتفاء بإعطاء القليل للأطفال، ما يعادل رغيفًا واحدًا، أما كبار السن فيعطونهم الماء فقط، لذلك لا ننصح أبدًا بعبور الحدود من روسيا”.
ويوضح في حديثه أن المعاناة تتضاعف بعد الدخول إلى بيلاروسيا بسبب صعوبة اللغة، كما أن المكاتب هناك تقوم بالنصب على المهاجرين من خلال حجز فندق لمدة أربعة أيام فقط، ولا يستطيعون التمديد كون الفندق محجوزًا مسبقًا.
يضطر المهاجرون للخروج إلى الشارع والمبيت هناك لأيام، بينما ترتب مجموعتهم للسفر، بعدها يبدأ التعامل مع تجار البشر، حيث يتم التنسيق مع تاكسي لأخذهم للحدود، وأحيانًا يتم التعامل مع أشخاص غير موثوقين، بينهم يمنيون للأسف.
يتعامل سائق التاكسي بدوره مع جنود أو عصابات ترتدي زي الشرطة تقوم بالسطو على المهاجرين عند وصولهم الحدود، وإرجاعهم بالتاكسي نفسه إلى بيلاروسيا، ومن ثَمّ يتقاسم الناهبون ما تم سرقته من أموال وتلفونات بينهم، أما إذا توفق المهاجر ودخل الحدود إلى بولندا، فستبدأ مشاكله مع البولنديين، إذ يتعرض المهاجرون للضرب العنيف من قبل الجنود البولنديين، وقد يستخدم الجنود السلاح لإجبار المهاجرين على فتح تلفوناتهم، ومن يرفض يتم إطلاق النار عليه بدون مبالاة.
يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور ياسر الصلوي إنه منذ 2011 شهدت البلاد أوضاعًا اقتصادية غير مستقرة، زادت ضراوتها منذ 2014 بعد سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على صنعاء، ودخول البلاد في نفق مظلم.
يضيف أن اليمن يعيش سنوات صعبة للغاية وأزمات اقتصادية وسياسية واسعة بسبب الحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2015، الأمر الذي أدّى إلى سيطرة فكرة الهجرة على أذهان الكثير من الشباب اليمني والكفاءات والقدرات حتى المواطنين العاديين.
يرى خبراء ومراقبون أن من يهاجرون هم خيرة أبناء اليمن، وعقول هذا البلد والثروة البشرية التي أنفقت الدولة ملايين الدولارات من أجل تعليمهم وتأهيلهم وإكسابهم المهارات.
يشير الصلوي إلى أن ما خلّفته الحرب من دمار وأضرار اقتصادية يمكن تعويضها، لكن هذا النزيف المتواصل للعقول اليمنية التي تهاجر، والتي كان من المفترض أن ترتكز عليها عملية التنمية في البلاد لا يمكن تعويضه.
الجدير بالذكر، أن وجهات هجرة اليمنيين تنوعت بين أوروبا ودول شرق آسيا وأمريكا والخليج، لكن وجع الوطن، وحنينهم لأسرهم وعائلاتهم هو العامل المشترك، وهو الجرح المفتوح الذي فاقمته الحرب إلى أمد غير معروف، بحسب خيوط.