لم يكن المال عائقاً أمام المملكة العربية السعودية حين اتخذت قرارها بشن الحرب على اليمن، ولم يكن خفض سعر النفط للضغط السياسي على إيران وغيرها ليردع المملكة عن الذهاب بعيداً في إلحاق الضرر باقتصادها أولاً، ولم تكن مئات مليارات الدولارات ثمن أسلحة غير قابلة للاستثمار في الحروب الإقليمية، لتقف أمام سعي الحاكم الفعلي للمملكة، ولي العهد محمد بن سلمان، لكسب ود الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حتى وإن وجّه الأخير العديد من الإهانات العلنية إلى أمراء النفط. من محاولات ممارسة الحزم في اليمن، إلى “صدمة” الإصلاحات داخل المجتمع السعودي، فالرؤية الاقتصادية التي انتكست في انطلاقتها، وصولاً إلى تغيير نمط حياة المواطن السعودي، بفرض رسوم وضرائب غير معهودة عليه، تطرح سياسات ابن سلمان أسئلة حقيقية حول أسلوبه في الحكم، حتى بات مصير السعودية عنواناً دائم الحضور في مراكز الأبحاث الأميركية والدوريات المرموقة.
عاصفة الحزم.. العليلة!
شكلت حرب اليمن اختباراً حقيقياً مباشراً للجيش السعودي بعد عقود من صفقات السلاح التي جعلت المملكة تتربع في صدارة الدول المستوردة للسلاح أكثر من مرة في تقارير معهد “ستوكهولم”، لكنّ ألف باء التخطيط العسكري كان غائباً عن قرار وزير الدفاع والمسؤول الأول عن الحرب، محمد بن سلمان، الذي يتولى وزارة بالغة الحساسية، من دون أي خبرة عملية ضد “عدو” يمني معروف باستماتته في الدفاع عن أرضه.
تحكي ذاكرة الصراع الطويل في اليمن أن في نزاع “صعدة” في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2009، استولى الحوثيون على 25 قرية حدودية سعودية و10 دبابات في منطقة جازان جنوب غرب المملكة العربية السعودية في غضون أقل من أسبوع، بعدما شنّت القوات السعودية هجوماً على حركة “أنصار الله” (الحوثيين) داخل اليمن. وقد اضطرت السعودية لاحقاً آنذاك إلى أن تدفع أموالاً لاسترجاع الدبابات.
وعلى الرغم من كل الحشود العسكرية، تكرر مشهد اقتحام الحدود السعودية مرات ومرات في السنوات الخمس الأخيرة، حتى باتت الرياض مضطرة إلى أن تتحدث زوراً عن قصف “أنصار الله” لمدينة مكة المكرمة، لاستعطاف الرأي العام العربي.
في الحرب على اليمن، ثمة عامل يغيب عن بال السعوديين بفعل الدعاية الرسمية للنظام. تؤدي السمات الشخصية للمقاتل اليمني دوراً محورياً في رسم مسار الصراع الحالي، في مقابل نقاط ضعف جوهرية في الطرف المقابل، نتيجة عوامل عديدة على المستويين الفردي والجماعي، أبرزها غياب الخبرات العسكرية اللازمة، والواقع الديموغرافي في الداخل السعودي وعند الحدود مع اليمن، حيث ينتشر الإسماعيليون، ناهيك بأن قدرة “أنصارالله” على التعبئة الشعبية في بيئتهم تفوق قدرة السعودية، التي اضطرت منذ اللحظة الأولى إلى “شراء” مقاتلين عرب من مختلف الجنسيات.
وأهم ما في هذه الحرب ليس نتيجتها العسكرية المباشرة فقط، وعدم قدرة الرياض على حسمها، بل إن أهميتها تكمن في موقع اليمن الاستراتيجي وتشريع النفوذ الإيراني، بعد أن أعطى العدوان السعودي لطهران الحق في التوجس والقلق من هذه العدوانية، وبالتالي السعي لمنع التحكم السعودي – الأميركي – الإسرائيلي بالممر الذي يصل البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وبطرق الملاحة البحرية المؤدية إلى آسيا، وبتدفق النفط في المنطقة.
وأداء الجيش السعودي في الحرب اليمنية له دلالات أبعد بكثير من الجغرافيا الراهنة، وخصوصاً أن التهديد الرئيسي بالنسبة إلى المملكة، أي إيران، بحسب ادعاء الرياض، تعتمد تكتيكات الحرب اللاتنظرية (غير المتماثلة) في عقيدتها العسكرية، وبالتالي فهذا يطرح علامة استفهام حول نظرية الأمن القومي السعودي، والثغرات الخطيرة التي أغفلتها الرؤية العسكرية المبتدئة لمحمد بن سلمان.
الإنفاق العسكري
تتصدّر وزارة الدفاع السعودية عرش نظيراتها في الشرق الأوسط لناحية الإنفاق على شراء العتاد والسلاح، وهي كذلك في قائمة الدول العشر الأولى عالمياً على هذا الصعيد.
مع بداية العام الجاري، خصّصت السعودية 48.5 مليار دولار للدفاع، بعد أن كانت في مطلع العقد الماضي تدور في فلك الثمانين مليار دولار سنوياً، من دون أن يمسّ ذلك بعقود التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، لأن تنفيذ العقود عادة ما يتطلب إجراءات لاحقة لصرف الأموال وتسليم المشتريات.
ورغم أن الدول الحليفة للسعودية، والتي تبيعها السلاح، مستعدة بالتأكيد للانتظار قبل تنفيذ العقود المتفق عليها، فإن استمرار تلازم الاقتصاد السعودي وسعر النفط يضع ضغوطاً على مورّدي السلاح أنفسهم، الذين يرون في النهم السعودي للشراء فرصة قد لا تتكرر في المستقبل القريب، حين ستضطر المملكة إلى خفض إنفاقها العسكري بشكل كبير. هذا المنحى يفسر رغبة ابن سلمان في صناعة 50 في المئة من حاجيات العتاد العسكري في السعودية ضمن رؤية العام 2030، ولكن الرؤية بأكملها ستكون محل بحثنا في مقال مستقل.
تقدّر تقارير عربية وأجنبية كلفة الحرب على اليمن بما بين 5 إلى 6 مليارات دولار شهرياً، وهو رقم مرتفع قياساً إلى قدرة الخصم على إرباك السعودية بمسيّرات لا يتعدى ثمن الواحدة منها ألف دولار في أفضل الأحوال.
عملية حسابية بسيطة منذ بدء الحرب في العام 2015 تشير إلى أننا نتحدث عما لا يقل عن 300 مليار دولار في أقلّ تقدير، لم تحقق النصر العسكري الواضح لمحمد بن سلمان، بل عقّدت حساباته، وجعلت إنهاء الحرب أولوية تبحث عن إخراج يحفظ ماء وجه الرياض.