مجاري السيول في تعز.. تصدير للأمراض وتشويهٌ لوجهِ المدينة
محمد محروس – تعز
يبحث علي سعدان (54 سنة)، عن عَرْضٍ مناسب، يغطي به تكاليف ما أنفقه على منزله المجاور لمجرى السيول، وسط مدينة تعز، جنوبي البلاد، إذ يريد مغادرته للأبد، متنازلًا عن تعبه وذكرياته التي رافقته فيه منذ نعومة أظافره؛ فالروائح الكريهة الناجمة عن تكدّس المخلّفات في مجرى السيل المجاور لمنزله، تُزكم أنفه، وتحيل المنزل إلى مكانٍ غير مرغوب، في ظل عدم جدوى فاعلية كل الروائح المعطّرة التي تم الاستنجاد بها، لعَزْلِ داخلِ المنزل عن محيطه.
المطالبات المستمرة من سعدان بحلٍّ جذري، لا تلقَى أي تجاوب، وأكثر من ذلك أنّ عملية التكدّس مستمرة، وحين تزيد كمية النفايات يتم إحراقها، وهكذا يفعلون كل مرة، يقول سعدان: “أنا وأسرتي عرضنا المنزل للبيع، لم يعد صالحًا للعيش، تُحاصرنا الروائح الكريهة، وتتسلل الأدخنة الخانقة إلينا، ونحن عرضة للعديد من الأوبئة التنفسية”.
بؤرة المشكلة
في الشارع الخلفي الموازي لشارع التحرير الأسفل، وسط مدينة تعز، يخترق مجرى السيول الأحياء السكنية في طريقه إلى منطقة التصريف، شمال المدينة، وعلى امتداد المجرى تتراكم أكوام النفايات البشرية والبلاستيكية وحتى نفايات البناء، وكل هذه المخلّفات التي تُقدّر بمئاتِ الأطنان لا تجد حلًّا فاعلًا من قبل السلطاتِ المحلية في المحافظة، وباستمرار تراكمها تتفاقم معاناة سكان الأحياء المجاورة، الذين يكابدون الوضع مُكرَهين، في ظل انعدام الحلول البديلة للمشكلة التي تتجدد كل عام تزامنًا موسم هطول الأمطار.
يقول فيصل سلّام (23 سنة)، أحد سكان حي ديلوكس: “نوافذ منزلنا مغلقة دائمًا، مجرد فتحها لدقائق يجعلنا نعاني طوال اليوم، نحاول أن نتعايش مع الوضع، ليس لدينا حل آخر، هذا منزلنا الذي نملكه، ولم يكن الوضع بهذا السوء من قبل”.
ووضع صندوق النظافة والتحسين براميلَ مخصصة للقمامة على جانبي المجرى، إلا أنّها لم تكن كافية بالنظر إلى كميات المخلّفات التي يتم رميها إلى المجرى، ولكن فيصل أكّدَ أنّ النفايات التي في المجرى ليست بالضرورة صادرة من سكانٍ للحي، وأضاف: “هناك سيارات تقف على مقربة من المجاري وترمي المخلّفات، حتى إن بعضها تكون محميّة من قبل أطقم يستقلّها مسلحون”.
لا تُلقي إرتفاع القباطي، نائب مدير صندوق النظافة لشؤون التحسين بمحافظة تعز، اللومَ على عمّال النظافة، والصندوق، حيث ترى أنّ “تراكم الأتربة، وعدم متابعة مكتب الأشغال العامة لأعمال البناء، وملاحقة المخالفين الذين يقومون برمي مخلّفات البناء في الشوارع، وضبطهم وإلزامهم بنقلها إلى مواقعها المخصصة، يتسبب بجرفها إلى مجاري السيول؛ هذا سبب، ويُضاف إلى ذلك عدم رمي المواطنين لمخلفاتهم في الأماكن المخصصة لها، واستسهالهم رميها في مجاري السيول”.
أعباء صحية وبيئية
لا يُعدّ رمي القمامة مشكلة جمالية فحسب، وإنما مشكلة بيئية وصحية لها عواقب وخيمة يمكن أن تستمر لعقود، فبالإضافة إلى احتياج بعض المخلفات البلاستيكية لمئات السنوات من أجل التحلّل، فإن للقمامة قدرة على التسبب بالضرر في صحة الإنسان والسلامة العامة، كما أن الرمي العشوائي للنفايات من شأنه أن يجذب الحشرات والقوارض، ما يعني خطرًا مباشرًا على الصحة العامة، وبيئةً خصبة كمصدر لعدد من الأوبئة المزمنة.
حرق المخلّفات في الهواء الطلق، هو الآخر له آثار خطيرة على صحة السكان، فقد وثّقت عدة دراسات علمية مخاطرَ الانبعاثات من المحارق في الهواء الطلق على صحة الإنسان؛ منها التعرّض لجزيئات دقيقة، والديوكسين (مواد مركبة مترابطة كيميائيًّا)، كما أنّها من الملوثات البيئية الثابتة”، والمركّبات العضوية المتطايرة، ومركبات كلٍّ من الهيدروكربون العطري متعدد الحلقات وثنائي الفينيل متعدد الكلور، التي ترتبط بأمراض القلب والسرطان وأمراض الجلد والربو وأمراض تنفسية.
يقول فيصل سلّام: “شهريًّا لدينا مريض في المنزل، يتفاوت ذلك من شخص لآخر، لكن ضعف المناعة لدى أفراد الأسرة هو السائد، والأطباء يعيدون السبب لما ينبعث من المخلّفات، وللروائح الكريهة التي لا تتوقف”.
حلولٌ لم تنجح!
فشلت جهودٌ مشتركة من قبل ناشطين محليين ومنظمات دولية في وضع حدٍّ للمشكلة؛ ففي مارس/ آذار 2019، قاد سمير إسماعيل مبادرةً تحمل اسمه لرفع المخلفات من قنوات السيول، وخلال أسبوع من العمل تكفّل إسماعيل بالتكاليف المالية، وساهم صندوق النظافة والتحسين بتوفير العاملين والمعدّات، وتكللت العملية بنجاحٍ لقيَ ترحيبًا شعبيًّا واسعًا حينها، إلا إن العملية الجمالية لم تصمد سوى شهر واحد، إذ أعاد الناس الكرّة، ليملَؤُوا المجرى بالمخلّفات.
في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2020، دشّنت السلطات المحلية مشروع تنظيف جميع مجاري السيول في المدينة من المخلفات الترابية والقمامة، شمل تغطية سائلة “عصيفرة” وعددٍ من ممرات السيول المكشوفة داخل المدينة، وبطول خمسة آلاف متر، وكذلك إنشاء سياجات لجسور المشاة وتغطية فتحات تصريف الأمطار بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي ومنظمة كير.
المشروع بشقه الأول، وإن كُتب له النجاح إلا أنه كان بشكلٍ مؤقت؛ فبمجرد أن استُكملت عملية التنظيف حتى أعيد رمي المخلّفات مجددًا، ولم تُستكمل عملية التغطية لكل الممرات، فقط قناتا وادي القاضي بمديرية المظفر، والنجّيشة بمديرية القاهرة، هما من استُكمل تغطيتهما، حتى إن بعض الممرات التي تم تغطيتها أقدم سكّانُ بعض أحيائها المجاورة بفتح نوافذ في أغطيتها لرمي قماماتهم، والعمل على تكديس المخلّفات من جديد.
وتم التواصل مع منظمة كير؛ لمعرفة ما تم إنجازه من المشروع الذي أُعلِن عنه قبل عام ونصف، وتلقينا ردًّا على الإيميل الذي أرسلناه، مفادُه: “يمكنكم التواصل مع وكيل أول محافظة تعز، عبدالقوي المخلافي؛ ليشرح لكم كل شيء”.
لكننا لم نتلقَّ ردًّا كافيًا من مكتب وكيل محافظة تعز، الذي سألناه ذات الأسئلة الموجّهة لمنظمة كير، مع ردهم لنا عبر الإيميل، واكتفى بالقول: “أبلغوني بأنهم سيغطّون مجاري السيول والصرف الصحي”.
ويرى سكانٌ محليون، من بينهم فيصل سلّام، أنّ مثل هذه الحلول ليست نهائية، وأثرها محدود؛ بسبب استطاعة البعض فتح نوافذ لرمي مخلّفاتهم، إضافة إلى كونها غير مضمونة الاستدامة، ويقترح سلّام أن “يكون هناك مشروع تغطية قنوات مرور السيول بالخرسانة المسلّحة كحلٍّ جذري، سيُنهي المشكلة التي تتجدد كل عام”.
في الواقع لا حلولَ نهائية، ولا حتى مؤقتة، فقط ينتظر السكان أن تتدخل السماء لإنهاء معاناتهم؛ فهطول الأمطار الغزيرة كفيلٌ بجرف أطنان المخلّفات، وتنظيف المجاري من كل ما عَلِقَ فيها منذ أشهر. بحسب تقرير لخيوط.