عن مبادرات إطعام اليمنيين.. الموانئ ليست حقولاً
صنعاء – لطف الصراري
نحن حريصون على إطعامك عزيزي الجائع الفقير، وقد دفعنا للتو فاتورة وجباتك إلى المتعهّد لسنة كاملة! هذا ما يفعله “أصدقاء اليمن” في كل اجتماع لتقديم المساعدات الإغاثية لليمنيين عبر هيئات الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة والمنظمات المتعاقدة معها. لكن هل هذا ما يحتاجه اليمنيون فعلاً؟ وإذا كان ثلثي سكان اليمن لا يملكون ثمن طعامهم اليومي، فهل يعني ذلك أن بلدهم بلا ثروات؟
يحدث في اليمن أن يبادر مزارعون من ذوي الهمم العالية لمواجهة تحدّي الاكتفاء الذاتي من الغذاء، بينما تتراخى إرادة القادة والمسؤولين الحكوميين على أرصفة الموانئ في انتظار وصول السفن التجارية والمعونات.
لم يكن عامر المعسل أول مزارع يمني يستنهض همّته لإنتاج الغذاء من مزرعته الصغيرة، ولن يكون الأخير. فما دامت الإرادة السياسية مخيّبة لآمال المواطنين، وسوء الإدارة والفساد ينخران بنية الدولة، سيظل شبح الجوع محفزاً لمبادرات أمثال هذا الفلاح النابعة من اعتداده الأصيل بالذات. مع كل الرثاء الذي نسمعه، دولياً ومحلياً، لأوضاع الأمن الغذائي في البلاد، استمرأت الحكومتان المنقسمتان في صنعاء وعدن الشفقة التي يسبغها “المجتمع الدولي” والمنظمات الإغاثية على حال اليمنيين، خاصة منذ بداية الحرب. في الواقع، تفشّت حالة استمراء الشفقة حتى طالت غالبية النخب اليمنية، بمن فيهم أولئك المناهضون للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد واستغلال عدم الاستقرار السياسي لتحقيق مصالح الدول المتدخّلة. ينطوي الأمر على حالة تخبّط في التقديرات أقرب لعمى البصيرة، رغم الادّعاء بعكس ذلك، وإلا فماذا يعني رفض التدخّل والوصاية الخارجية، ومطالبة “المجتمع الدولي”، في الوقت نفسه، بتوفير المساعدات الإنسانية لليمنيين!
المساعدة كهراوة ناعمة
باتت المبادرة في إرسال المساعدات للشعوب المتضررة من النزاعات المسلحة، إحدى الأدوات التي لم يعد خافياً استخدام الدول الكبرى لها في سياساتها قريبة وبعيدة المدى. وإذا لم تكن “المساعدات” إغاثية، كما في حال اليمن والسودان وغيرهما من دول المنطقة الأفروآسيوية، فهي مساعدات عسكرية كما في حال أوكرانيا مؤخراً. المهم أن تُرسل هذه المساعدات دون إغفال تحديد كلفتها أولاً بأول: نحن حريصون على إطعامك عزيزي الجائع الفقير، وقد دفعنا للتو فاتورة وجباتك إلى المتعهّد لسنة كاملة! هذا ما يفعله “أصدقاء اليمن” في كل اجتماع لحشد الدعم المالي من أجل تقديم المساعدات الإغاثية لليمنيين عبر هيئات الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة والمنظمات المتعاقدة معها. لكن هل هذا ما يحتاجه اليمنيون فعلاً؟ لقد أسفر المؤتمر السادس “رفيع المستوى” الذي عقدته الأمم المتحدة هذا العام في جنيف عما يمكن اعتباره مللاً أصاب المانحين من التبرع كل عام لمساعدة شعب يحتاج لإنهاء الحرب واستنهاض قوته أكثر من حاجته للنقود.
في أواخر كانون الثاني/ يناير 2022، وقف السفير البريطاني لدى اليمن، ريتشارد أوبنهايم، على رصيف ميناء عدن ليلقي كلمة مؤثرة لجمهور اليمنيين الجوعى، وأولئك المسؤولين الحيارى في معالجة أزمة الغذاء في وطنهم المفكك. كان لتوّه التقى المسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة المعترف بها دولياً، إضافة لكبار مستوردي الأغذية. وفي التسجيل المصوّر الذي تخلى فيه عن شغفه بتحدُّث اللغة العربية، قال أوبنهايم إن أزمة الغذاء في اليمن يمكن حلّها من خلال دعم وتشجيع “القطاع الخاص” على المزيد من الاستيراد. لم يفوّت أيضاً إعجابه الشديد بأداء المستوردين في توفير الغذاء خلال السنوات السبع السابقة من الحرب التي قتلت ما يقارب أربعمئة ألف إنسان، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
في ذلك التسجيل المرفق بتغريدة عربية خالية من الأخطاء اللغوية، كرر السفير أوبنهايم نغمة “الاستيراد” أكثر من مرة كما لو أنه الخلاص الوحيد لليمنيين من الجوع. وبعد حوالي أسبوع (3 شباط/ فبراير)، نشر تغريدة أخرى أبدى فيها أسفه لكون “الكثير من اليمنيين يعانون الجوع”، مستدركاً بأن “التحدي الذي يواجه اليمن” لا يكمن في ندرة الغذاء، بل في القدرة على تحمّل تكاليفه المالية. لعلّه تذكر أو أن أحدهم أخبره بأن الزراعة لا تزال نشطة في البلد، لذلك أعلن عن تبرّع بلاده التي قال إنها “تلعب دوراً قيادياً” في الاستجابة لأزمة الغذاء في البلد الجائع، بمبلغ 87 مليون جنيه إسترليني بالشراكة مع برنامج الغذاء العالمي. هذا الدعم، بحسب السفير الذي تحدّث هذه المرة من أمام مطاحن القمح المملوكة للقطاع الخاص في مدينة عدن، مخصص فقط، للعام 2022، مؤكداً على أن هذا المبلغ كفيل بتوفير “الطعام والأساسيات الأخرى” لما يقارب ربع مليون شخص شهرياً.
مؤشرات المجاعة وهوامش الخطأ
وفقاً لتقرير “أزمة الأمن الغذائي في اليمن 2020″، الصادر عن البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي، فهذه الأزمة المركبّة ليست جديدة تماماً على البلاد. فمنذ العقد الأول من الألفية الثالثة تحدثت تقارير البنك الدولي عن “انعدام الأمن الغذائي” في اليمن، بسبب “الفقر والعمالة الناقصة”، و”الاعتماد الكبير على الأغذية المستوردة”. يبدو أن السفير أوبنهايم لم يقرأ تلك التقارير، وهو في كل الأحوال غير ملزم بذلك قدر التزامه بالقراءة المتأنية لسياسات بلاده العائدة بحماس ودأب نحو مجدها الإمبراطوري.
في القطيعة بين القلم والمحراث
التقرير نفسه أرجع استمرار انعدام الأمن الغذائي في اليمن إلى عدة “صدمات كبرى” تلقاها الاقتصاد الوطني، وأبرزها استمرار الحرب، انهيار العملة، تراجع المساعدات الإنسانية، جائحة كوفيد 19، وسلسلة من الكوارث الطبيعية. وفي استعراضه للتصنيفات المرحلية المتكاملة لانعدام الأمن الغذائي، ذكر التقرير أن العام 2018، كان أكثر الأعوام التي اقترب فيها اليمنيون من المجاعة (المرحلة الخامسة والأخيرة من المجاعة)، بسبب الحدة غير المسبوقة آنذاك لأزمة انهيار العملة. وفي التصنيف المرحلي لانعدام الأمن الغذائي الخاص بتلك السنة، تم إدراج معظم المحافظات الشمالية ضمن المرحلة الرابعة “الطوارئ”.
صحيح أن الحدة غير المسبوقة لأزمة انهيار العملة في العام 2018، شكّلت صدمة كبرى في الحياة المعيشية، وشعر بها كلُّ اليمنيين، بلا استثناء، مثل هزة أرضية قوتها أكثر من خمس درجات. غير أن نشرة “المستجدات الاقتصادية والاجتماعية” الصادرة في السنة نفسها عن وزارة التخطيط والتعاون الدولية، أشارت إلى أن إنتاج القمح في العام 2017، تركّز في محافظات الجوف (33.1 في المئة)، إب (15.8 في المئة)، حضرموت (12 في المئة)، مأرب (10.9 في المئة)، وذمار (10.8 في المئة)، بينما أنتجت ست محافظات أخرى (17.4 في المئة).
لا يعني إنتاج اليمن للقمح والحبوب الأخرى أن مخزونها الغذائي في الوضع الآمن، فما تنتجه إجمالاً لا يغطي أكثر من 25 في المئة من إجمالي الاستهلاك الغذائي. وحسب نشرة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية، بلغت فاتورة استيراد القمح في 2016، 700 مليون دولار، وتناقصت نسبة الاكتفاء الذاتي في إنتاجه محلياً من 7.8 في المئة عام 2012، إلى 2.8 في المئة عام 2017. أي أن نسبة الاستيراد قاربت 98 في المئة من الاحتياج الاستهلاكي المقدر بـ3.5 مليون طن متري.
مما لا شك فيه أن اتساع رقعة الحرب منذ العام 2014 إلى اليوم، يأتي في طليعة “الصدمات” التي أدت لاتساع هذه الفجوة وتقليص المساحات المزروعة، خاصة مع تكرار أزمات الوقود الحادة وارتفاع أسعاره التي وصلت خلال آذار/ مارس 2022، حدّاً يذكّر بالصدمة الأولى للحرب. وعلى الرغم من التوجّه نحو تركيب منظومات الطاقة الشمسية لانتزاع المياه من الآبار، فليس بمقدور جميع المزارعين شراءها، ناهيك عن مشاكلها في استنزاف المياه الجوفية وتوجيهها نحو مزارع القات، المحصول النقدي المدمّر للتربة وللاقتصاد الأسري، ولهمم الفلاحين النجباء الذين لا تشمل آليات الرصد والإحصاء مبادراتهم الفردية.
تنطوي آليات الرصد والإحصاء الخاصة بالاحتياجات الإنسانية في اليمن، على هامش خطأ يصعب تحديده بدقة، لكنه ليس صغيراً. فإلى جانب السرعة المطلوبة في إنجاز الإحصائيات لأغراض حشد الدعم وطمأنة المانحين بأن نقودهم وصلت إلى “الجياع” والمحتاجين، تحتاج المنظمات الإنسانية إلى مواكبة إيقاع سياسات الحكومات المانحة في اليمن، بفهم ضمني عالي النباهة. فعندما تقدم الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا أو السعودية… دعماً لخطة الاستجابة الإنسانية، فهي تتوقع من المنظمات الإغاثية أداءً لا يتعارض مع سياساتها ومصالحها في البلد المشتعل بالحرب. وعندما يكون توجّه هذه السياسات نحو إرسال مساعدات غذائية، فذلك يعني إدخال القمح والاحتياجات الأخرى عبر الموانئ، وليس توجيه الدعم لإنتاج الغذاء محلياً أو تشجيع مبادرات المزارعين ذات الفاعلية مرتفعة الجدوى.
على خطّ الأزمة
على مساحة فدان واحد في مزرعته، نجح المزارع عامر المعسل في تجربة وصفت بالأولى من نوعها لزراعة القمح في محافظة أبْيَن (60 كلم شرق مدينة عدن). تمّ الإعلان عن ذلك في نهاية الأسبوع الأول من آذار/ مارس 2022، أي بعد حوالي 12 يوماً من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد أسبوع من اجتماع “استثنائي” للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً خُصّص لمناقشة أزمة الغذاء التي استنفرت معظم حكومات العالم المعتمدة على القمح الروسي والأوكراني.
وقبل دخول الحرب الروسية الأوكرانية على خطّ أزمة الغذاء التي زادتها هذه الحرب تعقيداً، تداول نشطاء مؤيدون لسلطة الحوثيين (“جماعة أنصار الله”) على مواقع التواصل الاجتماعي، صورةً لتراكتور زراعي صغير في إحدى مناطق تهامة (الحُديدة)، وتمّ تقديم هذا التراكتور باعتباره “صناعة محلية”، وبأنه سيمثّل حلّاً سحرياً لأزمة الغذاء التي تعصف بالبلاد! وفي أقصى الشمال، باتت تجربة زراعة القمح في محافظة الجوف مادة جيدة لترويج سياسة الحوثيين النزّاعة نحو إنتاج الغذاء بدلاً من استيراده، على الرغم من الأزمات المعيشية الساحقة وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود وغاز الطبخ المنزلي، وعلى الرغم من السلوك الجِبائي الذي اتسمت به إدارة الجماعة للمناطق الواقعة تحت سيطرتها، ولامبالاة السلطات إزاء الأزمات التي تخنق المواطنين.
أما “الاجتماع الاستثنائي” للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً مع كبار مستوردي القمح، فتضمّن إفادات المجتمعين المعنيين بالأمن الغذائي، بأن مخزون القمح والسلع الأخرى المتوفر في مناطق سيطرة حكومة عدن “يكفي السوق المحلية لأربعة أشهر فقط، بما في ذلك المخزون الاحتياطي”. وفي ما يبدو تنفيذاً حرفياً لنصائح أوبنهايم، ناقش رئيس الحكومة ووزرائه “خطط الاستيراد للشهور اللاحقة والبدائل المتاحة لتغذية المخزون الاستراتيجي بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص”!
فجوة في سقف الفرص الكامنة
تتفاوت البيانات الخاصة بحجم استيراد اليمن من القمح الروسي والأوكراني بين 40 و50 في المئة، لكن عند المرور على محلات بيع الحبوب ودقيق القمح، يتحدث التجار عن القمح الأسترالي، وإلى حد ما القمح الروسي. لا يزال ميناء الحُديدة المنفذ الأكثر استقبالاً لواردات اليمن، وفي العام 2016، تصدّر القمح قائمة أهم ثلاثين سلعة مستوردة.
ليس من السهل الحصول على إحصائيات مواكبة في اليمن، وتضاعفت هذه الصعوبة خلال سنوات الحرب، لكن بحسب نشرة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية (2018)، فإن حجم الطلب الاستهلاكي للقمح تزايد بين العامين 2012 و2017، من 2.97 إلى 3.4 مليون طن. أما حجم الإنتاج فانخفض من 250 ألف إلى 96 ألف طن.
يبدو الفارق مريعاً. وفي الأثناء تطرقت النشرة إلى دراسة “غير منشورة” أنجزها باحثون يمنيون بوزارة الزراعة في 2016، تفيد بإمكانية توسيع زراعة القمح في محافظات الجوف، حضرموت ومأرب، دون تغيير كبير في المساحات المزروعة المقدرة بـ22.4 في المئة، مع طاقة إنتاجية يمكن أن تصل إلى ضعف إنتاج المحافظات الثلاث (114 ألف طن).
مع هذا السقف غير الطموح من استشراف الفرص الكامنة لإنتاج القمح في البلد المصنّف في ذيل قائمة أفقر بلدان العالم، يمكن للمرء أن يتساءل عن حجم هذه الفرص الكامنة في ما لو تبنّت الحكومتان المنقسمتان سياسات جادة لاستكشاف إمكانيات الأرض التي لم تفقد خصوبتها وخاصيتها الإنتاجية، عدا في فترات الجفاف الطويل. لكن الحرب هي وجه آخر للجفاف، واستمرارها يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للأحاديث الفارغة عن الحلول السحرية المتمثلة في “استيراد” الغذاء لإنقاذ بلد من المجاعة، بينما لا تزال خبرته الزراعية، والأهم من ذلك همّته في إنتاج طعامه، ممتدة منذ آلاف السنين.
قبل الحديث عن الفقر وانعدام القدرة على تحمل تكاليف الغذاء، ربما يحتاج اليمنيون لتحسين مستوى ثقافتهم الاستهلاكية وضبط أولوياتهم الشرائية. لكن كيف يمكنهم ذلك في الوقت الذي لا تزال فيه آلة الدعاية الرأسمالية تقتحم هواتفهم المحمولة بصور متحركة وثلاثية الأبعاد لمنتجات تستنزف محافظ النقود وتحفّز نزعة التباهي الاستهلاكي! ففي الوقت الذي لا يجد فيه 20 مليون شخص ثمن الغذاء، هناك من يتسوق ببطاقة ال”فيزا كارد” من داخل صنعاء وعدن وغيرهما من المدن الرئيسية.. ليس من أجل شراء الغذاء فقط، وإنما لمشاهدة مباريات بطولات كرة القدم الأوروبية أو جديد الأفلام السينمائية والمسلسلات على “نتفليكس”.
فإذا كان اليمن بلد معزول عن العالم ويعاني من “قيود الاستيراد” المفروضة من قبل التحالف العربي الذي تقوده السعودية والإمارات، فهو ليس كذلك في ما يتعلق بالتسوّق الإلكتروني. وفي حين يكثر الحديث في تقارير المنظمات الدولية عن القيود التي تعيق الواردات، لا يوجد ذكر لقيود التصدير المفروضة على السلع التي تشكّل المصدر الرئيسي لجلب “العملة الصعبة” إلى البلاد، وعلى رأس هذه السلع، النفط الذي كان – على شحته – المصدر الأول لتغذية البنك المركزي بالنقد الأجنبي. ومنذ توقف تصدير شحنات النفط الشهرية بسبب الحرب، بقي البنك المركزي تحت رحمة الودائع السعودية التي ما يلبث أن يستنزفها كبار مستوردي الغذاء والوقود، تاركين العملة الوطنية فريسة للمضاربات والانهيارات المتتالية.
تحكي أسطورة مثَل يمني قديم ومتعدد الصيَغ، أن بإمكان سبعة أشخاص أن يقتسموا حبة سمسم، مع ما في هذا المثل من دلالة على الإيثار والقناعة، وهما قيمتان لا يمكن إنكار تسرّبهما كلما وجد اليمنيون أنفسهم أمام المال الأجنبي والسياسات الاستعمارية. تلك السياسات القائمة على بذل العطايا والأموال من أجل السيطرة، وهي الوجه القديم لـ”المساعدات” الحالية. لم تكن الحكومة البريطانية وحدها من انفردت باستعمار اليمن، فقد خاضت صراع التنافس الاستعماري مع تركيا العثمانية وإيطاليا وفرنسا. غير أن ما لا يبدو مفهوماً في السياسات الراهنة لهذه الدول، وأداء دبلوماسييها المشبع بالحنين إلى المستعمرات، هي تلك الثقة العجيبة في أنه يمكن إعادة الكرّة، على الرغم من تطور وسائل المعرفة واستبشاع القيم الإنسانية المعاصرة لاستغلال الشعوب في لحظات انكسارها.
إذا كان ثلثي سكان اليمن لا يتوفرون على ثمن طعامهم اليومي، فهل يعني ذلك أن بلدهم “الفقير” بلا ثروات؟ لنتأمل الاقتباس التالي الذي أورده عزيز خودا بيرداييف في كتابه “الاستعمار البريطاني وتقسيم اليمن”، نقلاً عن “تقرير سرّي” بعثه المقيم البريطاني في عدن عام 1919، إلى وزارة المستعمرات:
“بودنا لو تطورت الإنتاجية البريطانية في اليمن. والبلد مدروس في بعض مناطقه فقط، ولكنني واثق من أن فيه إمكانيات كبيرة، ولا نحبّذ أن يمتلك الأجانب هذه الثروة التي من شأنها أن تساعد على ازدهار إمبراطوريتنا”، نقلاً عن السفير.