الحرب وبيئة الاستثمار بقلم| مطهر العباسي
بقلم| مطهر العباسي
يمثل الاستثمار العمود الفقري للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لكل اقتصادات العالم، وتتباهى الدول والحكومات بحجم الاستثمارات المنفذة سواء كانت حكومية أو خاصة، كما تتنافس الدول عامة، متقدمة أو نامية على تشجيع الاستثمار الوطني أو جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والذي يمثل أحد المؤشرات الهامة لنجاح الحكومات في برامجها التنموية والاقتصادية. وهناك نوعان من الاستثمار،
أولها الاستثمار الرأسمالي: ويشمل الانفاق العام والخاص على مشروعات تستهدف التكوين الرأسمالي المادي في مجالات النفط والمعادن والزراعة والصناعة والبناء والتعمير والبنية التحتية من طرقات ومطارات وموانىء وكهرباء ومياه واتصالات وغيرها،
وثانيها الاستثمار في رأس المال البشري: ويتضمن الانفاق الحكومي والخاص على برامج ومشاريع بناء قدرات الإنسان في مجالات التعليم والصحة والثقافة والبيئة وغيرها،
وخلال العقود الماضية استطاعت اليمن تحقيق معدلات نمو محدودة في الاستثمارات العامة والخاصة وبتفاوت كبير بين الاستثمار الرأسمالي والاستثمار البشري، كما تمكنت من جذب استثمارات خارجية ملموسة في مجالات النفط والغاز، رغم ما شابها من تجاوزات، إلا أن الاقتصاد اليمني، مثله مثل معظم اقتصادات دول العالم، يواجه مشكلة فجوة الموارد المحلية، بسبب عجز الإدخار المحلي عن تمويل الاستثمارات الاستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى، وعادة ما تلجأ الدول لمعالجة العجز في الموارد المحلية عن طريق تهيئة البيئة الملائمة والجاذبة للإستثمار الأجنبي المباشر، وهناك قصص نجاح عالمية معروفة في هذا الجانب، مثل تجارب كوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا.
فالبيئة الحاضنة للإستثمار تتطلب توفر العديد من الظروف المواتية، خلال فترات الاستثمار متوسط أو طويل الأجل، وتشمل:
– الاستقرار السياسي وتوافق المجتمع على وسائل ملائمة لإستمرار قيام أجهزة الدولة بوظائفها بعيدا عن أي تهديدات محتملة مثل الانقلابات والحروب والإضطرابات الداخلية وغيرها،
– مجموعة القوانين واللوائح المنظمة للاستثمارات الوطنية والأجنبية والمساعدة في حماية حقوق المستثمر، بعيدا عن التعقيدات والمزاجية والارتجالية،
– وجود جهاز تمويل مالي ومصرفي فعال له القدرة على حشد الموارد من المدخرين وتقديم القروض لتمويل مشاريع المستثمرين في مختلف القطاعات،
– سلامة أداء أجهزة النظام القضائي والمحاكم والبت في القضايا وفقا للقانون الوطني وبما لا يتعارض مع القوانين الدولية ويعزز مبادىء النزاهة والشفافية وبعيدا عن التدخلات والمحسوبية،
– البنية التحتية اللازمة لإنشاء المشروعات الاستثمارية وتسهيل أدائها (الطرقات، الكهرباء، المياه، الاتصالات… وغيرها)
– السياسات الاقتصادية والإدارية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار النقدي والمالي والحد من التضخم وتقلبات سعر الصرف ومعدل الفائدة، وتبسيط الإجراءات الإدارية والحد من مظاهر الفساد بهدف تسهيل مهمة المستثمرين وحماية ممتلكاتهم وعدم تعرضها للمخاطر والضياع،
– سلامة أداء الأجهزة الأمنية لإنفاذ القانون وحماية المستثمر في ماله ونفسه وعدم تعرضه للإبتزاز والاستغلال المخالف للتشريعات والقوانين من أي جهة كانت،
وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، حققت اليمن تقدما مقبولا في تهيئة بيئة الاستثمار، فوفقا لتقارير بيئة الأعمال الصادرة عن البنك الدولي، والتي تركز على عدد من المؤشرات منها، سهولة ممارسة الأعمال والحصول على الإئتمان وحماية المستثمر وتنفيذ العقود وغيرها، احتلت اليمن في عام 2012 الترتيب 99 من بين 190 دولة في العالم، رغم الصعوبات والتحديات التي يواجهها القطاع الخاص المستثمر، فحسب نتائج المسح الميداني لمؤسسات الأعمال الذي نفذه البنك الدولي في اليمن عام 2013، برزت أهم ثلاثة عوامل معيقة للإستثمار هي عدم الاستقرار السياسي، وصعوبة الحصول على الطاقة الكهربائية وانتشار الفساد، إضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بالجريمة وعدم النظام وضعف التمويل ومشكلة الأراضي والمحاكم وغيرها،
ورغم هشاشة البيئة الحاضنة للاستثمار، فقد جاءت الحرب المستعرة منذ سبع سنوات لتضيف الملح إلى الجرح النازف ولتزيد الوضع سوءً، حيث يشير تقرير بيئة الأعمال لعام 2020، إلى تراجع مخيف لوضع ممارسة الأعمال والاستثمار، فقد جاءت اليمن في أسفل القائمة وبالترتيب 187، ولم يأت بعدها سوى فنزويلا وإرتيريا والصومال،
فالشواهد تدل أن الحرب تمثل العدو الأول لبيئة الاستثمار ولممارسة انشطة الأعمال في القطاعات المختلفة، لتأثيرها السلبي والمدمر لكل العوامل الداعمة للإستثمار، فالحرب أفرزت وضعا سياسيا غير مستقر، فالبلد مقسم بين أكثر من مكون سياسي وعسكري، وتدار فيه المعارك والاشتباكات في مناطق عديدة، إضافة إلى عجز أجهزة الدولة عن تنفيذ القوانين والقواعد المنظمة للأعمال، وارتباك في تنفيذ سياسات اقتصادية وإدارية ناجعة، فحكومة عدن تتبع سياسات مالية ونقدية غير منضبطة عن طريق الإمعان في تمويل نفقاتها بالإصدار النقدي المتتابع، نتج عنه تدهور مفزع في قيمة العملة الوطنية وتقلبات في سعر الصرف، مما زاد من المخاطر وعدم اليقين لدى المستثمرين، وبالمقابل فإن حكومة صنعاء انتهجت سياسات مالية انكماشية قائمة على فرض الضرائب والزكاة إلى أضعاف مضاعفة وجباية جمارك إضافية وإتاوات الرسوم الأخرى، وكلها عوامل خانقة للمستثمر ويتحمل أعبائها بالأخير المواطن المغلوب، كما أن الحرب تؤدي إلى تجاوزات في أجهزة القضاء والمحاكم، واختلالات في الأمن والأمان، وكل ذلك يقود إلى بيئة غير مواتية للاستثمار،
ويمكن القول أن الحرب القائمة أدت إلى انكماش حجم الاستثمارات العامة والخاصة إلى أدنى مستوى، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال:
– تراجع الانفاق على الاستثمارات الحكومية في إطار المالية العامة للدولة إلى قرابة الصفر، مما أدى إلى توقف التمويل لمشاريع جديدة وتهالك المشاريع القائمة في كل القطاعات، بل إن كلا الحكومتين في صنعاء وعدن تديران الإنفاق العام بطريقة مرتجلة وبدون ميزانية سنوية معتمدة،
– إلغاء الجهات المانحة للسحب من القروض والمساعدات المخصصة لتمويل المشاريع التنموية والاستثمارية في معظم القطاعات وخاصة قطاعات البنية التحتية (الطرقات، الكهرباء، المياه والصرف الصحي) والتنمية البشرية (التعليم والصحة…) باستثناء البرامج الطارئة المقدمة من البنك الدولي وبعض المانحين،
– توقف العديد من المشاريع الاستثمارية للقطاع الخاص بسبب ما لحقها من دمار إثر الغارات الجوية أو الاشتباكات البينية لأطراف الصراع، إضافة إلى تقليص النشاط في المشاريع القائمة،
– تجميد القطاع الخاص لإنشاء مشاريع إستثمارية جديدة متوسطة أو طويلة الأجل، لتراكم المخاطر وعدم التأكد لدى المستثمر الوطني والأجنبي على حد سوا، وهروب جزء من رؤوس الأموال إلى الخارج،
– صعوبة فرص الإئتمان والتمويل نتيجة تراجع الملائة المالية للبنوك وعدم قدرتها على جذب المدخرات أو تمويل الاستثمارات للقطاع الخاص،
– توقف النشاط في حقول النفط والغاز بسبب مغادرة الشركات الأجنبية بحجة القوة القاهرة للحرب، وبالتالي تجميد كل مشاريع التوسع بالانتاج أو صيانة المشاريع القائمة،
ونتيجة لتوقف عجلة الاستثمار العام والخاص، تقلصت إلى حد كبير فرص التشغيل وزادت معدلات البطالة وخاصة في صفوف الشباب، وبالتالي زيادة معدلات الفقر بين الناس، كما فقد الاقتصاد الوطني موارد مالية كبيرة تشمل عوائد صادرات النفط والغاز وتمويلات المانحين للمشاريع التنموية والفرص الاستثمارية الواعدة للقطاع الخاص،
وخلاصة القول، إن سبع سنوات عجاف من الحرب العبثية خلفت اقتصادا مدمرا وتراجعا حادا في فرص الاستثمار في معظم القطاعات، بل ألحقت أضرارا عميقة في المنشاءات الاستثمارية القائمة وأوجدت بيئة طاردة للاستثمار الخاص، ولا خروج من هذه الحلقة المفرغة سوى إيقاف سعير الحرب وتحلي أطراف الصراع بالشجاعة والمسؤولية الوطنية للدخول في حوار جاد لإحلال السلام والاستقرار لإنقاذ اليمن من التشتت والضياع، ووضع خطة لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، تشمل حشد الموارد من المصادر المحلية والخارجية لتمويل الإنفاق العام وخاصة في مجال الاستثماري التنموي، إضافة إلى تراكم الاحتياطيات الدولية لدعم استقرار أسعار الصرف والحد من التضخم، فضلا عن الوفاء بالتزامات صرف مرتبات موظفي الدولة، وفتح قنوات التواصل والتعاون مع الأسرة الدولية ومجتمع المانحين من مؤسسات إقليمية ودولية لتمويل برامج إعادة الإعمار ومشاريع تنموية مختلفة، إضافة إلى تهيئة الظروف الملائمة للشراكة مع القطاع الخاص للمساهمة في تنمية القطاعات الحيوية والواعدة، وبالتأكيد سيكون من ثمار ذلك تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني وتوليد فرص العمل وامتصاص البطالة وتحسين مستوى معيشة الناس في الحضر والريف،