ملامح نظام عالمي جديد.. هل تفعلها الصّين؟ بقلم| طارق فخري
بقلم| طارق فخري
يتبدّى من قراءة المتغيرات الحاصلة في شرق أوروبا أن اللحظة السياسية الراهنة قد تكون مؤاتية للانتقال نحو هيكلة جديدة للنظام العالمي، فدخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا يعزز السيولة التي تتّسم بها الساحة الدولية، ويغري الصين للتجاسر والتحرك باتجاه تايوان؛ الجزيرة المنشقة منذ العام 1949، والتي تحظى بغطاء وحماية أميركية.
شنَّت روسيا عملية عسكرية على أوكرانيا، وأصبحت قواتها على مشارف كييف، على الرغم من كلّ محاولات الزجر وخطابات التهويل الأطلسية، وخصوصاً الأميركية، فغدا المشهد مشحوناً بالدلالات الكبرى التي تتعدى المآلات المتوقعة إلى سيناريوهات من المحتمل أن ينجم عنها توزيع جديد للقوى في المسرح الدولي.
لم تمضِ سنة على التصعيد الذي شهدته منطقة شرق آسيا، حين أجرت الصين نحو 150 طلعة جوية في منطقة الدفاع الجوي الخاصة بتايوان، بالتزامن مع تلميحات الرئيس الصيني شي جين بينغ المتكررة بضرورة تنفيذ شعار “صين واحدة”، ما يعني فعلياً ضم تايوان عبر إسقاط نظام الحكم الانفصالي، وإعادة توحيد الصين تحت مظلة سياسية واحدة، إلا أن ثمة عوامل عدة لجمت الصين عن خوض غمار المخاطرة بشنها هجوماً عسكرياً على تايوان، من أبرزها موازين القوة العسكرية بينها وبين واشنطن، وخشيتها من أن تخفق في ميدان اختبارات القدرة، بيد أنَّ بكين اليوم قد تكون أكثر قناعة بأنَّ ما حدث في أوكرانيا يمكن أن يحدث في تايوان، فدول حلف الناتو، وعلى رأسها أميركا، لم تبادر إلى إنقاذ نظامها الحليف في كييف، واقتصرت على المساندة من بعيد، وفرض العقوبات، وإطلاق التصريحات المنددة.
باتت تايوان التي لا يفصلها عن الصين سوى 180 كيلومتراً تستعدّ أكثر من أي وقت مضى لتواجه مصير العودة إلى حاضنتها الأم، وذلك ما عبر عنه منذ ما يقارب عاماً كبير ضباط المخابرات في القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادي مايكل ستودمان، حين قال: “مسألة غزو بكين لتايوان لم تعد مجرد احتمال، بل باتت مسألة وقت فقط”. تدرك الصين أن إقدامها على خطوة كهذه أضحى بحجم تغيير النظام الدولي الذي تعتلي سدّته واشنطن، أو على الأقل تعديله، الأمر الذي قد يحتّم الذهاب بعيداً في استخدام القوة المفرطة، ولا سيّما النووية منها.
تراقب بكين مجريات الأحداث وترصد ما سيتمخَّض عنها من نتائج، بينما يساور سؤال كبير عقل صانع القرار الصيني: هل نجحت أميركا في استدراج روسيا إلى بؤرة النار والدم في أوكرانيا، بغية إغراقها واستنزافها من جهة، وعزلها اقتصادياً ومالياً من جهة أخرى، أو أنّ الإدارة الأميركية أخطأت الحسابات والتقدير، فوجدت نفسها في موقع القوة الهاربة من دورها مجدداً؟ تحدد الإجابة عن هذا السؤال مصير تايوان، ووراءها مستقبل النظام الدولي.
تكثر التساؤلات عن مدى تأثير العقوبات الغربية في موسكو التي تمتلك 643 مليار دولار من احتياطات العملة الصعبة، في ظلّ انقسام القرار الغربي حيال إخراجها من نظام “سويفت”، وهو الأمر الذي وصفه وزير المالية الفرنسي برونو لومير بأنه “سلاح نووي مالي”.
وإذا كان هذا هو الحال مع روسيا، فمن المؤكد أنّ سلاح العقوبات لن يجدي كثيراً من النفع مع الصين التي تهيمن على جزء كبير من الاقتصاد الدولي، وتمتلك لوحدها 20% من إجمالي أدوات الدين التي تصدرها الخزينة الأميركية، فضلاً عن ناتجها الإجمالي الذي يقدر بحوالى 9 تريليون دولار.
لا تشكّل بعض الاستراتيجيات والأدوات التي تلجأ إليها واشنطن لاحتواء روسيا في الصراع الدائر في الساحة الأوكرانية تأثيراً وازناً إذا ما استخدمت مع الصين، سواء في الحظر على التكنولوجيا والسلاح أو ما يتصل بالحرب السيبرانية، فبكين حقَّقت قفزات كبرى إلى حدّ أصبحت فيه منافساً جدياً للولايات المتحدة في التكنولوجيات المتطورة، فضلاً عن كونها خصماً يملك جيشاً إلكترونياً ضخماً قادراً على شن هجومات سيبرانية معقدة ومتقنة.
تعدّ مواجهة الأحادية الأميركية أبرز المداميك التي تقوم عليها العلاقات بين الصين وروسيا، فكلاهما يهدف إلى إعادة تعريف طبيعة النظام الدولي، والانتقال به إلى هوية جوهرها التعددية القطبية. لذا، إنَّ نجاح واشنطن في استنزاف روسيا في الجغرافيا الأوكرانية، ونبذها مالياً واقتصادياً، لن يجعل الصين في موقع الجمود، بل سيدفعها إلى هندسة سياسات قد يكون أحدها شنّ عملية عسكرية على تايوان، لتفويت الفرصة على الولايات المتحدة في تفكيك التحالفات المناهضة للهيمنة، والعمل وفق مبدأ الاستفراد بالخصوم، لاحتوائهم تدريجياً، وصولاً إلى مواجهة بكين، بعد أن تصبح مبتورة التحالفات ومحاصرة في بيئتها الاستراتيجية.
في المقابل، تمثل الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كما صرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، “أهم تهديد جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين”، وهي بذلك تختلف عن روسيا في الرؤية الأميركية وما ينبثق منها من استراتيجيات وتكتيكات، فواشنطن تواجه بكين بوصفها المنافس الأخطر في سباق القوة المحتدم على قيادة الدفة العالمية، غير أنَّ ما يحدث في أوكرانيا، بالنسبة إلى البعض، لا يمثل تهديداً من شأنه أن يرسم خارطة جديدة لميزان القوى في الساحة الدولية، بل يأتي في سياق الصراع التقليدي على النفوذ والمصالح في منطقة شرق أوروبا، وتأثيراته الكبرى لا تصل إلى الحد الذي يزعزع بنية النظام العالمي.
لذا، من غير المرجح أن يواجه دخول القوات الصينية إلى تايوان بردود فعل أميركية، كتلك التي نشهدها اليوم إزاء التوغل الروسي في العمق الأوكراني، بل من المرجح أن تتنحى واشنطن إلى التدخل العسكري المباشر. لذلك، تقوم ببناء أحلاف أمنية تطوّق بها بكين.
يتقاطع ما يحصل اليوم في وجه من الوجوه مع ما طرحه أحد أهم المنظرين للسياسة الخارجية الأميركية بريجنسكي حول “إعادة التنظيم العالمي”، والذي يتضمن الحث على اعتماد خطة أميركية لتفريق الصين عن روسيا، ومنعهما من استخدام عوامل القوة المشتركة، وتجنب الذهاب إلى مواجهة معهما في آن واحد، والانكباب على احتواء روسيا، لأنَّ ذلك ممكن في المدى المنظور، بينما تكون الصين هي الهدف في المدى البعيد.
تدرك الصين وروسيا أنَّ الولايات المتحدة تعاني معضلات جمة في الساحة الدولية، وأنها باتت أقرب إلى الانحدار منها إلى القمة. كذلك، لا يخفى أنَّ ما تلجأ إليه واشنطن يأتي في إطار رسم المعادلات الجيوسياسية التي تضمن هيمنتها، كما أنَّ تبنّيها مبدأ وقف الحروب الأبدية سيجعلها تعتمد أكثر فأكثر على سياسة استنزاف الخصوم، وتجويف ركائز القوة لديهم من الداخل.
ولا يشذّ المشهد في شرق أوروبا عن هذا السياق، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة قدرة واشنطن على التحكّم في مسار الأحداث والتطورات، بل على العكس تماماً، فقد تفاجئ موسكو حلف الناتو بسيناريوهات مؤهلة لتحويل الفرصة الأطلسية إلى تهديد. كما يمكن لبكين أن تنقل دوائر الصراع إلى شرق آسيا، ما يعني تبلور ملامح نظام عالمي جديد يقوم على التعددية القطبية. وبهذا، تكون أوكرانيا وتايوان أرضاً لبداية تاريخ جديد. لقد فعلها بوتين، فهل تفعلها الصين؟