معركة شد الحبال الاقتصادية في اليمن
حيروت – صنعاء
لا يتوقف ما يدور في اليمن من حرب وصراع طاحن على الجبهات العسكرية والمعارك الدائرة هنا وهناك مع تركز جزء كبير منها منذ مطلع العام الماضي في محافظة مأرب شرقي اليمن، إذ تدور معارك لا تقل ضراوة مسرحها الاقتصاد والموارد المالية والتي ساهمت بشكل كبير في تفاقم مختلف هذه الأزمات المتعددة وتردي معيشة معظم سكان اليمن الذين تعيش نسبة كبيرة منهم في حالة كفاف وفقر مدقع.
في هذا السياق، قالت مجموعة الأزمات الدولية إن الاقتصاد اليمني أصبح جزءًا لا يتجزأ من جهود الأطراف المتحاربة لتعزيز مواقعهم وإضعاف خصومهم. وقد غذّى الصراع الاقتصادي القتالَ على الجبهات وأعاق محاولات صنع السلام. إلا أن الدبلوماسيين العاملين على وقف الحرب غالبًا ما تجاهلوا هذه القضية.
لكن ما الذي ينبغي فعله، في ظل حاجة اليمن لوقف إطلاق نار اقتصادي بالقدر نفسه الذي يحتاج فيه وقف إطلاق نار عسكري، وهو الدور الذي يجب أن تقوم به الأمم المتحدة عبر مبعوث الأمين العام إلى اليمن وبالتنسيق مع الجهات الفاعلة الأخرى، لإطلاق مسار وساطة لتحديد اللاعبين الرئيسيين في الصراع الاقتصادي والشروع في وضع الأرضية لهدنة اقتصادية حتى مع استمرار إطلاق النار.
ويؤكد تقرير صادر حديثًا عن “الأزمات الدولية”، أن الصراع الاقتصادي يضع الحكومة المعترف بها دوليًّا في مواجهة مع أنصار الله (الحوثيين) للسيطرة على موارد البلاد الطبيعية، والتدفقات التجارية، والأعمال والأسواق. وتلعب المؤسسات التابعة للدولة وغير التابعة لها التي تيسّر أو تعرقل التجارة، مثل المصارف، وسلطات الجمارك والهيئات الناظمة الأخرى، إضافة إلى الأجهزة الأمنية للطرفين، أدوارًا داعمة. وتتمثل ميزة أنصار الله (الحوثيين) في هذا الصراع في سيطرتهم المتزايدة على المناطق والمراكز السكنية؛ بينما ميزة الحكومة المعترف بها دوليًّا في سلطتها القانونية الدولية.
معوقات صنع السلام
بموازاة المعارك الدائرة في اليمن للسيطرة على الأرض، فإن الطرفين المنخرطين في الحرب ضالعان أيضًا في معارك للسيطرة على أجزاء رئيسية من اقتصاد البلاد. وهو ما فاقم معاناة اليمنيين بشكل كبير، وهو ما يجعل التوصل إلى هدنة اقتصادية مهمة محورية.
وتوصلت “الأزمات الدولية”، كما ذكرت في تقريرها، إلى تعثر الجهود التي قادتها الأمم المتحدة للتوسط في وقف لإطلاق النار في اليمن بشكل متكرر بسبب المواجهة بين “الحوثيين” والحكومة المعترف بها دوليًّا بشأن الجهة التي تملك صلاحية السيطرة على السلع، خصوصًا الوقود، الذي يدخل ميناء الحديدة على ساحل البحر الأحمر. ومع تصاعد الصراع تحاول الأمم المتحدة جاهدة تحقيق تقدم.
وسط ذلك، يبدو اليمن، البلد الذي تطحنه حرب وصراع منذ سبع سنوات، عالقًا في أولويات متداخلة تحدّت جهود الوساطة؛ ففي شمال البلاد، تستعر المعارك الدموية للسيطرة على محافظة مأرب شرقي اليمن بين الحكومة المعترف بها دوليًّا وأنصار الله (الحوثيين).
ويشير تقرير “مجموعة الأزمات الدولية إلى أن حكومة عدن تمنع دخول الوقود إلى ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه “الحوثيون”. في حين أدت معركة شد حبال حول الريال اليمني إلى انهياره في المدن التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًّا، اسميًّا.
وضاعفت الأزمات الاقتصادية المتعددة من أزمة اليمن الإنسانية، وسرّع من تشظيه السياسي والترابي، وأعاق صنع السلام. حتى الآن، نزعت جهود الوساطة إلى التعامل مع المسائل الاقتصادية على أنها قضايا تقنية، أو سعت إلى معالجتها على أنها “إجراءات بناء ثقة” توضع في خدمة الحوار السياسي.
وترى “مجموعة الأزمات الدولية”، “ينبغي على مبعوث الأمم المتحدة الجديد أن يعترف بها على أنها في جوهر الصراع، وبالتالي التفاوض على وقف إطلاق نار اقتصادي في الوقت نفسه، وبالطريقة نفسها، يسعى إلى التوصل إلى هدنة عسكرية.
ملامح الانقسام
تعود جذور الصراع الاقتصادي إلى المرحلة الانتقالية السياسية الفاشلة في البلاد، التي بدأت عام 2012 وانهارت في وجه انقلاب أنصار الله (الحوثيين) في عام 2014، وأطلقت العنان لسبع سنوات من الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي.
لم يتقدم الصراعان الاقتصادي والعسكري بالإيقاع نفسه؛ فقد تم تحديد بعض أوجه الصراع الاقتصادي خلال المراحل الأولى للحرب عبر التوصل إلى هدنة غير رسمية، قادها التكنوقراط وساعدت في حماية المؤسسات الاقتصادية التي كانت قائمة قبل الحرب والتي ظلت مركزية إلى درجة كبيرة حتى مع انقسام البلاد من نواحٍ أخرى. انخرط موظفو الخدمة المدنية في صنعاء، في حوار مع القادة السياسيين على طرفي الصراع وسمح الطرفان بهدوء للمصرف المركزي بالاحتفاظ بمستوى من الحيادية.
منذ انهيار الهدنة الاقتصادية خلال عامي 2016 و2017، أصبح الصراع الاقتصادي أكثر حدة وأكثر ارتباطًا بالصراع العسكري. وتتمثل أكثر ملامحه وضوحًا في انقسام المصرف المركزي إلى سلطتين متنافستين في صنعاء وعدن، في صراع قوة للسيطرة على التدفقات التجارية والضرائب المترتبة على الوقود بشكل خاص، والانخفاض الحاد في قيمة الريال في المناطق الخاضعة للسيطرة الاسمية للحكومة. وقد دفع انخفاض قيمة الريال إلى ارتفاع أسعار الضروريات المستوردة مثل الأغذية والوقود إلى أن أصبحت تتجاوز قدرة كثير من الناس. ونتيجة لذلك، تدور في اليمن رحى ما تقول الأمم المتحدة إنها إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في العالم.
تبعات صراع حان إيقافه
أحدثت تكتيكات الطرفين في الصراع الاقتصادي في اليمن أثرًا عكسيًّا في كثير من الأحيان؛ فمبادرات الحكومة المعترف بها دوليًّا لانتزاع السيطرة على الاقتصاد من أنصار الله (الحوثيين) نزعت إلى الارتداد عليها، بشكل رئيسي، لأن الحوثيين يسيطرون على المراكز السكنية الرئيسية في اليمن، وبالتالي على أكبر أسواقها.
وقد صارع الدبلوماسيون لإقناع الحكومة المعترف بها دوليًّا بحماقة أفعالها، جزئيًّا وفق ما ورد عن مجموعة الأزمات الدولية؛ لأن الاقتصاد يشكل أحد المصادر القليلة المتبقية من النفوذ المتصوَّر الذي يتمتع به الرئيس هادي المعترف به دوليًّا وحلقته الضيقة.
بالنظر إلى طبيعة الرهانات –أي بقاء الحكومة المعترف بها دوليًّا بحد ذاته– من غير المرجح أن تتراجع الحكومة عن الحرب الاقتصادية دون الحصول على تنازلات رئيسية من الحوثيين، الذين يعتقدون أن لهم اليد العليا في الصراع، ولذلك لا يرون سببًا للمهادنة. لكن بتأخير التوصل إلى تسوية أكثر من هذا، تخاطر حكومة عدن بخسارة المزيد من الأرض للحوثيين.
لقد حيرت التكتيكات الاقتصادية التي اتبعها الطرفان سلسلة من المبعوثين الأمميين الذين كُلفوا منذ عام 2015 بإنهاء الحرب في اليمن. بصرف النظر عن محاسن ومساوئ المقاربة، فإن جهودهم ظلت مركزة على النواحي السياسية والعسكرية للصراع، بينما اعتبرت الصراع الاقتصادي حبكة جانبية، حتى عندما كانت مرتبطة بشكل جوهري بقضايا سياسية محورية تقسم الطرفين. اتفاق ستوكهولم، الذي منع حدوث معركة للسيطرة على الحديدة، تحاشى معالجة القضايا الاقتصادية المهمة بدلًا من تسويتها. وقد تعثرت جهود بذلت لاحقًا لتسوية أزمة مأرب والحصار المفروض على الحديدة على نحو مماثل في معالجة تنازلات اقتصادية مقترحة مهمة بعمق على أنها “إجراءات بناء ثقة”.
في مطلع عام 2022، تصاعد الصراع على مأرب. ودون تقدم بشأن الاقتصاد، من غير المرجح أن يتمكن غروندبيرغ من وقف إطلاق النار. الكثير من مثل هذه العقبات التي تمنع التوصل إلى اتفاق والتي أعيت الوسطاء في مساعيهم للتوصل إلى وقف إطلاق نار عسكري سيعيق جهودهم للتوصل إلى هدنة اقتصادية. وحتى مع وجود دعم دولي –الذي ينبغي للجهات الفاعلة الخارجية بالتأكيد تقديمه– يواجه المبعوث مهمة شاقة. لكن من شبه المؤكد أن هذه المهمة ستكون أكثر عسرًا دون جهد مخلص يسمح للوسطاء بتحقيق فهم أفضل ومعالجة القضايا الاقتصادية المرتبطة بشكل جوهري بالجهات السياسية الفاعلة في الحرب الأهلية في اليمن.
وبعد مرور سبع سنوات على هذا الصراع الوحشي، آن الأوان لمحاولة الاضطلاع بهذه المهمة التي تأخر الوقت أصلًا على معالجتها. نقلاً عن”خيوط”