تأثير التضليل الإعلامي وخطاب الكراهية على النسيج الاجتماعي
صنعاء – توفيق الجند
في كل حرب داخلية،ـ وهي حروب “بلا شرف ولا بطولة” حسب توصيف الشاعر اليمني الراحل عبدالله البردوني،ـ تطفو على السطح تناولات إعلامية توجه الرأي العام حسب مصالح المتصارعين على حساب المصلحة الوطنية، وتطور الأمر خلال الحرب اليمنية الراهنة باستدعاء صراعات قديمة لاستقطاب اليوم بناء عليها، بشكل أدى إلى التمايز المناطقي بين المواطنين في الشمال والجنوب كسياسة موجهة.
قبل إعداد هذه المادة راجعت قرابة 40 مادة إعلامية مكتوبة ومرئية فوجدت تنوعاً كبيراً للضخ الإعلامي الموجه مناطقيا بطريقة تتناقض ليس فقط مع مبادئ العمل الإعلامي، بل مع المصلحة الوطنية العامة، والتي منها الأخبار الكاذبة، والتحليل المنحاز، وغياب التوازن، وشيطنة طرف دون آخر، وتوظيف المآسي الإنسانية سياسيا، وتفسير الأحداث تماشياً مع أهداف الأطراف التي تمول وسائل الإعلام المنخرطة في هذه الحملات، وكلها بالنهاية تصب في مجرى تحفيز الصراعات وسحبها من المستوى السياسي القابل للتحكم، إلى المستوى الاجتماعي الأوسع والأخطر والمنفلت أيضا.
إن هذه الموجة الخطيرة من صنع الكراهية والتحريض على العنف والتمايز المناطقي السلبي، جزء من أدوات الجيل الرابع من الحروب الذي يستهدف تفكيك المجتمعات بتحويل تنوعها الإيجابي إلى أداة للتفريق، ونشر الكراهية لخلق دول فاشلة ومجتمعات ممزقة يسهل إعادة تشكيلها لاحقا، بطريقة لا يمكن التحكم بآثارها السلبية على المدى الطويل، عندما تكون قد نجحت في تضليل جيل كامل ينخرط في الصراع انطلاقا من خطابها المضلل، وهذا لا يقتصر على اليمن فقط بل على المنطقة كلها وخاصة البلدان التي تمر بظروف مشابهة من الصراع ذي الامتدادات الإقليمية والدولية.
سياسون يخدشون النسيج الإجتماعي
لقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي ك﴿موقعي فيسبوك وتويتر﴾ على منح الفرصة لحسابات بأسماء حقيقية، و وهمية، على بث تلك السموم دون رقابة، وتسمح لـ دبلوماسي وموظف رئاسي سابق، ـ وهو /السفير محمد العبادي ـ أن يغرد في حسابه على تويتر عن أبناء تعز أنه لم يتبق منهم في عدن بعد ثورة سبتمبر إلا “المنحطين وخدم المخابرات واللصوص“
وأن يغرد السياسي/ ياسر اليماني على تويتر أيضا، أن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي “زعيم العصابة”، ويصف منتسبي المجلس بـ”قرود الضالع” .
كما سادت الوسائل الإعلامية الأقرب للإعلام الحربي، على حساب الوسائل المهنية الرصينة، لدرجة أن أكثر سؤال تكرر طرحه عليّ ـ خلال تدريبي لمجموعات صحفية حول الصحافة الحساسة للنزاع ـ هو: أين سنجد فرصة عمل، لو التزمنا فعلا بهذه المبادئ؟
وخلال الحرب الراهنة، تم إطلاق عشرات المواقع الالكترونية والقنوات الفضائية، كجزء من الحرب المباشرة بين أطراف الصراع، وغالبا ما يتولى إدارتها وسياستها التحريرية أفراد غير مهنيين وفاقدون للمهارة والمسؤولية الأخلاقية، لكن إمكانياتها المادية وعملها المكثف وعزفها على أوتار العاطفة والمصلحة الفردية والجماعية لفئة معينة، يجعل منها وسائل فاعلة في صناعة الرأي العام بكل شوائبها ومخاطرها.
منصات تدمير النسيج الإجتماعي
بالعودة إلى مضمون الخطاب الذي تقدمه هذه المنابر، يمكن سرد بعض الأمثلة لعناوين نشرت سابقاً ساهمت وتساهم في تدمير النسيج الاجتماعي لليمنيين، ويمكن ملاحظة وجود استهداف منظم ومنسق لاعتبار اليمنيين في الشمال خصوم لإخوانهم اليمنيين في الجنوب ومصدر خطر عليهم، باستغلال أحداث سابقة ك﴿حرب 1994، واجتياح عدن من قبل قوات ﴿الحوثيين-صالح﴾ في 2015﴾ ، و على الجانب الآخر شمالا فان بعض الوسائل الإعلامية تستغل الحوادث التي تحدث في الجنوب لبث خطاب الكراهية ضد ابناء الجنوب لغرض تحقيق مكاسب سياسية وشيطنة اطراف معينة.
من الأمثلة التي يمكن إيرادها هنا، وهي للتمثيل فقط، وليست حصرية:
الجنوبيون في أعين الإرهاب اليمني “شيوعيون وملاحدة ودواعش وقاعدة” -الأمناء نت.
هذه المادة تتحدث بشمول مخل وتوجه خطير، يصف اليمنيين جميعا بالإرهاب، ويشير إلى اليمنيين باعتبارهم سكان الشمال، تمييزا عن الجنوبيين في إيحاء بعدم يمننة الأخيرين، كما تنشر مواد تحوي تضليلا تاريخيا حيث يعتبر جنوب اليمن مجرد جنوب لا ينتمي لليمن الكبير كما ورد في مادة بعنوان (صرخة جنوبية …الجنوب ليس يمني) للأكاديمي محمد جارالله.
عدن لنج | مواطن يحذر من تدفق النازحين الشماليين إلى محافظة لحج ويوجه رسالة هامة إلى قيادات الانتقالي والأحزمة الأمني
يتعامل مضمون المادة مع النازحين من الشمال كتهديد خطير للجنوب، وهذا يتنافى مع أبسط القواعد المهنية والإنسانية، ويمكن أن يؤدي إلى استهداف هؤلاء النازحين كضحايا بناء على المادة المنشورة وشبيهاتها .
اخبار وتقارير – الحوثيون يكرّسون فك إرتباط اليمن (الشمال) عن الجنوب بقرار جديد
الخبر المورد هنا هو توصيف سلطات الحوثيين بفرض تأشيرة دخول على الجنوبيين الراغبين بزيارة مناطق سيطرتهم في الشمال وهو خبر غير صحيح، فقد سألت أصدقاء لي من المناطق الجنوبية زاروا مناطقاً تحت سيطرة سلطة صنعاء، فأكدوا لي عدم طلب تأشيرة أو أية وثائق على أساس تمايزي ضد الجنوبيين، لكن الكاتب أورده لدعم أطروحته عن استهداف الجنوبيين من قبل الشماليين.
قادمة من تعز.. الشرعية تُغرق عدن بالخلايا النائمة : صحافة 24
جاء هذا الخبر – بغض النظر عن صحته – في سياق حملة تركزت على أبناء تعز تحديدا أكثر من باقي المحافظات الشمالية، باعتبارهم النسيج الإجتماعي الأكبر للشماليين في عدن، بحكم الجوار الجغرافي، وجبهات القتال المفتوحة فيها، لكنه وضَعَهم تحت التهديد كتبرير لأي أعمال عنف قد تستهدفهم .
إرهاب مليشيات المرتزقة في عدن والمحافظات المحتلة يُضاعف معاناة المواطنين.. تحت ضغط ارتفاع الأسعار وانعدام الخدمات – أنصار الله
هذا العنوان يصف المحافظات الجنوبية بـ “المحافظات المحتلة”، ويعتبر كل القوات الموجودة فيها مجرد ميليشيات لـ”المرتزقة”، وهي لغة تعبر عن موقف سياسي، وتتعارض مع أخلاقيات مهنة الصحافة، في مساع لإظهار تميز المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون بالأمن والاستقرار دون غيرها.
“تعرض موكب أبناء تريم للاعتداء من قبل قوات الاحتلال اليمني بنقطة السويري”
هذا العنوان المنشور على موقع الأمين برس، يتحدث عن قوات “الاحتلال اليمني”، وهو توصيف عدائي وتحريضي غير مهني، حيث يُعرّض القوات الأمنية في سيئون للخطر، بذريعة أنها”قوات احتلال”، وفي نفس الوقت ينفي يمننة سيئون.
“جعاربة المثلث تاريخهم عملاء ومرتزقة يخربون لا يبنون دولة؟”!
هذا العنوان مؤشر خطير للخطاب المناطقي على مستويات أضيق من الخطاب الجنوبي-الشمالي، فهو يصف أبناء الضالع ولحج بـ”الجعاربة”، ويتهمهم بتهم خطيرة فيها تعميم يفتقر للدقة، وينبش ثارات قديمة لتحويلهم خصوما ليس للشماليين فحسب، وإنما للجنوبيين أنفسهم.
“الطائفية تضرب بجذورها في اليمن”
وفي السياق نفسه، تظهر مصطلحات مناطقية تمايزية في الشمال، كمصطلح “الهضبة الزيدية”، الذي يتعامل بتعميم مخل، يعتبر أبناء شمال الشمال خطرا على إخوانهم في المناطق الشمالية الأخرى يجب التخلص منه.
“عشرات الجثث المجهولة تُدفن في عدن! ومواطنون من الشمال يبحثون عن أبنائهم” هذا العنوان، يوحي بوجود استهداف عرقي للشماليين بعدن، ويثير مخاوف الشماليين في عدن، كما يجعل العدنيين في الشمال عرضة لمخاطر أي تصرف انتقامي قد يستند لما ورد في المادة.
أدت تداعيات الخطاب الإعلامي المحرض على تمزيق النسيج الوطني قديماً فرار مواطنين جنوبيين من الشمال خلال وبعد حرب 1994، وبسبب تلك التداعيات تعرض بعضهم للعنف أو الاعتقال، والفصل من الوظائف المدنية والعسكرية، ما ورد في تقرير منظمة هيومن رايتس (باسم الوحدة رد الحكومة اليمنية القاسي على احتجاجات الحراك الجنوبي) في ديسمبر2009
بطريقة أنتجت لاحقا خطاباً جنوبياً معاكساً منذ عام 2007يعتبر الشماليين خصوما وخطرا أمنيا، ومجموعة نافذين يسرقون خيرات الجنوب، وفرص الجنوبيين في الوظيفة العامة، والثروة، والانفصال عن الشمال مطلبا سياسيا.
والأمر اليوم يتم بشكل عكسي – دون فصله عن التراكمات التحريضية والثارات التي شاركت السياسات الإعلامية في صنعها وترويجها- حيث تعتمد وسائل الإعلام المنخرطة في هذا الخطاب، على مظلومية الجنوب التي لا تميز بين فساد السلطة وخطاياها، وبين المواطن العادي،
والأخطر في الأمر، أن الخطاب الرشيد والمهني، وغير المنخرط في الصراع، ككتاب سياسيين كبار حاولوا التحذير من خطورة الممارسات غير القانونية على وحدة النسيج اليمني، كما فعل الرئيس/ علي ناصر محمد لا يجد الفرصة للانتشار، لأنه عبارة عن جهود فردية تضيع في زحمة العمل الجماعي والمنظم، والذي يستهدف المواطن العادي بجهله وقصور وعيه، كضحية مثالية لهذا الخطاب.
تنشر هذه المادة ضمن مذكرة التعاون بين “المشاهد” ومنصة “سكون”