مستقبل الغاز بين المصالح العليا لليمن ومخالب “توتال”
صنعاء – مطهر العباسي
بدايةً، لا بدّ من التأكيد على أن الحفاظ على الموارد السيادية لليمن، من عوائد النفط والغاز والثروة السمكية وغيرها، يُعدّ أحدَّ أوجه حماية الأمن القومي للبلاد، وأيّ تفريط أو تهاون في تعظيم عوائدها، يمسّ أحد أركان سيادة البلد ومصالحها القومية، وفي ظل ندرة الموارد الطبيعية والمعدنية المتاحة للاقتصاد اليمني، تبرز أهمية الاستغلال الأمثل لمورد الغاز الطبيعي المسال، للأجيال، حاضرًا ومستقبلًا.
وفي مقال سابق، تحدثنا عن الأضرار والخسائر التي تكبّدتها الحكومة اليمنية جراء تنفيذ اتفاقية إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال، الموقعة بين الحكومة اليمنية وشركة “توتال” وشركائها، خلال السنوات الخمس الأولى للتنفيذ (2009-2014).
حيث لم تحصل الحكومة اليمنية إلا على 5% من عوائد تصدير الغاز المسال، والتي بلغت قرابة 14.5 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، وهو ما يعد إجحافًا صارخًا بحقوق اليمن ومصالحه العُليا، وأوضحنا أن العلة في ذلك تعود إلى بندين كارثيين في الاتفاقية؛ أحدهما يتعلق بآلية تسعير الغاز، والثاني يرتبط بمعادلة تحديد نصيب الحكومة من الأرباح، وكلا البندين وُضِعَا بدهاءٍ خبيث وعلى حين غفلة من الفريق الحكومي المفاوض أو بتواطؤٍ منه؛ من يدري؟!
وتعج وسائل التواصل الاجتماعي وبعض مواقع الصحف على الإنترنت، بالمقالات والوثائق التي تؤكد العبث والفساد مع سبق الإصرار والترصد لشركة “توتال”، ممثلة بالشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال (YLNG)، في أهم مورد سيادي لليمن، وهو الغاز الطبيعي المستخرج من مكامن حقول النفط في مارب، وتصديره عبر ميناء بلحاف بشبوة، وتقديم معلومات مضلِّلة وغير صحيحة، عن احتياطيات النفط في حقول استخراج الغاز، إضافة إلى محاولة الاستحواذ على كميات مهولة من احتياطيات الغاز، تقدر باثنين تريليون قدم مكعب، وإنشاء شركة لخدمات المنبع تتعارض مع السيادة اليمنية والقوانين النافذة.
كذلك، لا بدّ من التنويه إلى أن حظ اليمن العاثر قادها إلى شِبَاك شركة “توتال” لتوقيع عقود إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال، والموافق عليها من قبل أجهزة الدولة اليمنية في عام 2005، والحظ العاثر هنا يبرز من السمعة السيئة لشركة “توتال” في طرق وأساليب توقيع وتنفيذ عقودها مع العديد من الدول النامية في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وغيرها من الدول، حيث توضح العديد من التقارير تورط الشركة في صفقات فساد وشراء ذمم في عدد من الدول، على سبيل المثال: العراق وإيران ونيجيريا ودول أخرى.
وفي السياق نفسه، لم تكن اليمن استثناءً، بل مورست فيه أبشع أنواع الفساد والاستحواذ على عوائد البلاد من الغاز، مسببة أضرارًا اقتصادية فادحة على الحكومة اليمنية، وعلى مقدرات الشعب اليمني في الماضي، ونأمل ألَّا يكون كذلك في المستقبل. ويعتمد هذا المقال على تقارير لمستشارين وخبراء وطنيين في شؤون النفط والغاز وعملوا بمواقع قيادية في الشركات النفطية وفي وزارة النفط والمعادن.
مستقبل الغاز وعوائده
أعطت الاتفاقيات والعقود المبرمة مع “توتال” وشركائها، حقوق الامتياز لها لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال لمدة عشرين عامًا، انقضى منها خمسة أعوام؛ كانت سِمانًا لـ”توتال”، وعِجافًا على اليمن وشعبه. وهناك أسئلة محورية ومشروعة تطرح نفسها بقوة في ظل الحديث عن وضع الترتيبات لإعادة تمكين “توتال” من إنتاج وتصدير الغاز بعد انقطاع دام سبع سنوات، بحكم القوة القاهرة لظروف الحرب وتداعياتها.
هل يمكن أن تظل الترتيبات التعاقدية مع “توتال” كما هي بشأن تسعير كميات الغاز المباعة ونصيب الحكومة من الأرباح رغم الخسائر والأضرار التي تكبّدتها اليمن خلال السنوات الخمس الأولى من عمر المشروع؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام اليمن للمحافظة على/ حماية العوائد المستحقة لتصدير الغاز، خلال فترة 15 عامًا المتبقية من عمر المشروع والتي تنتهي في عام 2036؟
وللإجابة عن تلك التساؤلات، يمكن القول إن كل الدلائل تشير إلى ضرورة مراجعة آلية تسعير المليون وحدة حرارية من الغاز الطبيعي المسال المُعدَّة للتصدير إلى العالم الخارجي، ذلك أن بقاء الوضع كما كان عليه بالسابق سيقود إلى أرباح فاحشة ستجنيها “توتال” وشركاؤها؛ بسبب استحواذها على نصيبها من الأرباح وفوارق الأسعار، كما سيؤدي إلى تحقيق خسائر مهولة للحكومة، ناجمة من فوارق الأسعار ومن التحايل على نصيبها من الأرباح.
ولتوضيح الإجابة، تم الاستعانة بنموذج تحليل ماليٍّ أعده خبير وطني في شؤون النفط والغاز، ومبنيّ على معادلات دقيقة للإيرادات والنفقات الرأسمالية والتشغيلية عند الأسعار المثبتة بالعقود لتحديد نصيب كلٍّ من الحكومة وشركة توتال وشركائها، ولتبسيط الصورة، سنستعرض ثلاث بدائل أو سيناريوهات، وفقًا لاستراتيجيات الربح والخسارة لكل الأطراف؛ الحكومة و”توتال” وشركائها:
الأول- السيناريو الكارثي: وهو بقاء الترتيبات التعاقدية مع “توتال” وشركائها كما كانت عليه من قبل، كما في المَثَل: “ترك الحبل على الغارب”، أو كما يقال في الإنجليزية: “Bussiness as Usual”، وهذا يعني بقاء الأسعار مقيدة حسب بنود الاتفاقية، والتي تتراوح بين 2.5 و3.5 دولار للمليون وحدة حرارية، وتحديد نصيب الحكومة من الأرباح وفقًا لمعادلة حصص الأرباح الواردة في الاتفاقية. هذا السيناريو يتيح للحكومة الحصول على حوالي 5.2 مليار دولار فقط، خلال فترة المشروع (20 عامًا)، بينما تتكبد خسائر طائلة، تشمل حوالي 57 مليار دولار بسبب فوارق الأسعار في العقود مقارنة بالأسعار العالمية للغاز، وأيضًا بسبب التلاعب بحصص الأرباح بين الحكومة والشركاء بالمشروع، كما أن الحكومة تتكبد خسائر إضافية في النفط الخام والغاز الطبيعي والبترولي ورسوم المنبع تصل إلى 13.6 مليار دولار؛ أي إن خسائر الحكومة في نهاية عمر المشروع تبلغ 70.6 مليار دولار -كما هو موضح بالشكل (1)-
وبالمقابل، فإن شركة “توتال” ستجني أرباحًا تبلغ ستة مليارات دولار عند الأسعار 2.78 دولار للمليون وحدة حرارية، وتستحوذ على فوارق الأسعار البالغة 57 مليار دولار، وبذلك يكون إجمالي العوائد المحققة لشركة توتال وشركائها قرابة 63 مليار دولار مع نهاية عمر المشروع؛ بينما حصلت الحكومة على حوالي 8% فقط من العوائد مقارنة بما حققته توتال وشركاؤها.
وفعلًا، فإن هذا السيناريو تكون نتيجته (رابح – خاسر)؛ توتال والشركاء يستحوذون على نصيب الأسد من الأرباح، والحكومة تحصل على الفتات، وهذا الوضع يمثل إجحافًا بحق اليمن ومصالحه العليا، والقَبول به وعدم مراجعة الأسعار وحصص الأرباح يعتبر خيانة للوطن وتفريطًا بثرواته ومقدراته.
الثاني- السيناريو غير المقبول: ويعتمد على تعديل الأسعار مع بقاء معادلة تحديد حصص الأرباح بين الحكومة والشركاء كما هي؛ في هذه الحالة فإن الحكومة ستحقق أرباحًا كبيرة عند كل أسعار البيع وتبلغ أعلى قيمة عند سعر البيع 11.7 دولارًا للمليون وحدة حرارية، حيث يبلغ نصيب الحكومة في نهاية عمر المشروع حوالي 62 مليار دولار؛ بينما تحصل “توتال” وشركاؤها على ما يقارب عشرة مليارات دولار -كما في الشكل (2)-
وواضح أن هذا السيناريو ليس مفيدًا لشركة توتال والشركاء، ونتيجته (رابح – خاسر)، فالحكومة تحقق عوائد عالية تفوق، بستة أضعاف، عوائدَ “توتال” وشركائها، وبالتأكيد هذا البديل سيكون غير مقبولٍ منها، كما أن ذلك يتناقض مع فرص الاستثمار وعوائده.
الثالث- السيناريو المتوازن: ويقوم هذا البديل على أساس قيام الحكومة بالتفاوض مع شركة توتال وشركائها لتعديل الأسعار وتحريكها وفقًا للأسعار العالمية، مع تعديل معادلة حصص الأرباح بين الحكومة والشركاء (في هذا السيناريو، تم افتراض نسبب المحاصصة للأرباح بين الحكومة والشركاء المحسوبة عند سعر أدنى 2.78 دولار للمليون وحدة حرارية كنسب ثابتة لكل الأسعار- لبيان الخلل في هذه المعادلة)، حيث من المفترض -أيضًا- تعديل الأسعار للأسواق الأمريكية أسوةً بما نفذته الحكومة في عام 2013، بالتوافق مع الشركة الكورية “كوجاز” (أحد الشركاء مع توتال) لتعديل الأسعار، وفقًا للمعادلة: (سعر المليون وحدة حرارية = 12.6% x سعر برميل النفط)، حيث وصلت الأسعار إلى 12 دولارًا للمليون وحدة حرارية، خلال العام 2014 وفقًا لهذا التعديل. وإذا ما تم ذلك في الوقت الراهن، وتم تصدير الغاز وفقًا للأسعار غير المقيدة بالعقود، وتعديلها إلى 11.6 دولار للمليون وحدة حرارية، فإن حصص الأرباح ستتغير لكلٍّ من الحكومة والشركاء، وستبلغ حصة الحكومة حوالي 33 مليار دولار، وحصة توتال وشركائها ستصل إلى 40 مليار دولار في نهاية عمر المشروع -كما هو موضح بالشكل (3)- ويمكن القول إن هذا السيناريو يمثل (رابح – رابح) لكل الأطراف، ويجب على الحكومة وعلى متخذي القرار في شؤون النفط والغاز أن يعملوا جاهدين على تنفيذ هذا البديل، وضمان تحقيق عوائد مجزية تتجسد منافعه على أكثر من صعيد؛ فمن ناحية، ستساهم تلك العوائد في دعم الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي، وسينعكس إيجابًا في استقرار سعر صرف الريال ووَقْف تدهور قيمته الشرائية، والحدّ من التضخم، ومن ناحية أخرى ستستخدم تلك العوائد في إعادة الإعمار لِمَا دمرته الحرب في مرافق البنية التحتية والمنشآت العامة والخاصة، وفي تنشيط وتعافي الاقتصاد الوطني من خلال تنفيذ المشاريع التنموية في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، بحسب منصة خيوط.