الإمارات تفرّخ لوبيّات لتسويق انفصال اليمن.. المجلس الانتقالي يتولى المهمة في واشنطن
حيروت – وكالات
منذ اندلاع الحرب في اليمن، والإعلان عن «التحالف العربي لاستعادة الشرعية» تحت قيادة السعودية عام 2015، لم تكن رغبة الإمارات واضحة لدى العالم في مد نفوذها الخاص والموازي على الأراضي اليمنية. أظهرت سنوات الحرب استراتيجية الإمارات؛ السيطرة على المدن الساحلية والموانئ، ودعم الكيانات الانفصالية لحفظ هذه المصالح الاستراتيجية.
تلاقت هذه الاستراتيجية مع رغبة بعض الجنوبيين، أمثال شلال شايع وعيدروس الزبيدي، الذين لهم تاريخ من التحرُّك منذ عام 1994 لـ«تحرير» جنوب اليمن من قبضة الحكومة في صنعاء. ووجد هؤلاء في الحرب أرضًا خصبة، ولحظة فارقة لتحقيق مشروعهم الانفصالي.
تأسس المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتيًا، في 11 مايو (أيار) 2017 تحت رئاسة عيدروس الزبيدي، ونائبه هاني بن بريك. وبعدها بعام، أسس المجلس مكتب له في واشنطن العاصمة، بهدف التمثيل الرسمي للمجلس والتواصل مع الحكومة الأمريكية، والتعاقد مع شركات الضغط السياسي والعلاقات العامة.
سنتعرف في هذا التقرير على مساعي المجلس الانتقالي الجنوبي في الولايات المتحدة، ومحاولاته إضفاء الشرعية على مشروعه الانفصالي، الذي ترفضه الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، جملةً وتفصيلًا.
مكتب المجلس الانتقالي الجنوبي في واشنطن
جاء تأسيس المجلس الانتقالي بعد إعلان الرئيس هادي إقالة عيدروس الزبيدي من منصب حاكم مدينة عدن، وهاني بن بريك من منصب وزير الدولة، في 27 أبريل (نيسان) 2017. فبعد أيام من إقالتهما، جدد عيدروس دعوته إلى تأسيس مشروعٍ يمثل الجنوبيين. وبالنسبة للرئيس هادي وقوات التحالف، كان خروج مشروعٍ انفصالي في مثل هذه اللحظة يعني خسارةٌ أكبر، وتمكينًا للحوثيين.
وحتى تؤكد الإمارات جديتها في مشروعها الخاص، أرسلت في أبريل (نيسان) 2018، قوات للسيطرة على جزيرة سقطرى، وقامت بطرد القوات التابعة للحكومة اليمنية. وأثار الهجوم شرخًا كبيرًا في التحالف، واستنكارًا من حكومة هادي معتبرًا ما حصل اعتداءًا على الشرعية. وبعد أسبوعين، توصلت الإمارات مع حكومة هادي إلى اتفاقية، بوساطة سعودية، وتسيطر الحكومة اليمنية حاليًا على جزيرة سقطرى.
استمر عيدروس ونائبه بمشروعهما، وبأموالٍ إماراتية أسسوا مكتبًا تمثيليًا في العاصمة واشنطن كما ذكرنا.
تكشف وثائق وزارة العدل التابعة لقانون «فارا» عن تعيين عبد السلام قاسم مسعد، مديرًا لمكتب الإدارة العامة للشؤون الخارجية للمجلس الانتقالي في أمريكا وكندا، في 8 يناير (كانون الثاني) 2018. ويعمل في المكتب أيضًا أحمد المثنى أمينًا للسر، وأحمد عاطف سكرتيرًا. وثلاثتهم يحملون الجنسية الأمريكية.
قرار تعيين عبد السلام مسعد مدير مكتب المجلس الانتقالي الجنوبي في العاصمة واشنطن. المصدر: موقع وزارة العدل الأمريكية.
افتُتح مكتب المجلس الانتقالي الجنوبي في العاصمة واشنطن رسميًا منتصف عام 2018، ويبعد عن البيت الأبيض 10 دقائق مشيًا على الأقدام، ويدفع المجلس – بأموالٍ إماراتية – 15 ألف دولار شهريًا مقابل تأجير المكتب، أي نحو 180 ألف دولار سنويًا.
أنشأ المكتب موقعًا، وحسابًا على موقع «تويتر»، لينشر مستجدات الأنشطة والاجتماعات التي تخص المكتب، والبيانات الإعلامية الصادرة عنه. وينظم المكتب فعاليات للجالية الجنوبية اليمنية في الولايات المتحدة. ففي ما يسمى «عيد استقلال الجنوب»، اجتمعت مجموعة صغيرة من الجالية الموالية للمجلس للاحتفال بهذه الذكرى.
أثناء افتتاح المكتب صرَّح مسعد قائلًا: «نأمل ونتوقع أنّ تكون هناك تطورات كثيرة جدًا في العلاقات بين المجلس الانتقالي والإدارة الأمريكية، وقريبًا جدًا سيحدث تغيُّر نوعي في هذه العلاقة».
مباشرةً بعد تعيين عبدالسلام مسعد، تعاقد المكتب مع شركة «جراسروتس بوليتيكال للاستشارات – Grassroots Political Consulting» في 1 يناير (كانون الثاني) 2018، مقابل خدمات ضغط سياسي في الكونجرس وحملات علاقات عامة.
المدير التنفيذي لشركة «جراسروتس» هو دانيل فاراسي، الذي قدمت شركته سابقًا خدمات ضغط سياسي للجنرال الليبي خليفة حفتر. ولم يكن حساب تويتر الخاص بفاراسي ينشر أي تغريدات عن الشأن اليمني، ولكنّ منذ استئجار المجلس الانتقالي لشركته، أصبح يغرد عن أهمية وجود المجلس الانتقالي على طاولة المفاوضات، وبعد انتهاء علاقته مع المكتب توقَّف التغريد عن اليمن تمامًا.
وفي الأسبوع نفسه الذي تأسس فيه المكتب، ووسط جهود تحرير محافظة الحديدة من الحوثيين، أعلنت الإمارات عن عملية «الرعد الأحمر» في 14 مايو (أيار) 2018، للسيطرة على مديريتي الجراحي وزبيد في الحديدة، وجاء الهجوم ضمن إطار عمليات التحالف، وبمشاركة قوات جنوبية مثل «ألوية العمالقة» و«التهامية».
وتكمن أهمية الحديدة أنّها تقع في منطقةٍ استراتيجية بسبب إطلالتها على البحر الأحمر، وقربها من خطوط الملاحة البحرية.
خلال ثلاثة أسابيع، باتت الإمارات على وشك السيطرة على ميناء الحديدة، الذي كان هدفًا لها منذ بداية المعركة. لكنّ تحرك واستعجال الإمارات أقلق الحلفاء الدوليين من التبعات الإنسانية جراء العمليات العسكرية، مما جعل واشنطن توجه تحذيرًا مباشرًا للإمارات بعدم شن هجوم على الميناء.
في هذه الفترة، كان اللوبي الإماراتي في أمريكا يروج لمساعداته الإنسانية في الحديدة، وينشر مقالات إعلامية عن أهمية تحريرها من الحوثيين، وأرسل السفير يوسف العتيبة إلى بعض الشيوخ في الكونجرس رسائل يوضح فيها «جهود الإمارات» لتحرير الحديدة. وحاولت الإمارات إضفاء الشرعية الدولية على عملياتها من خلال تنظيم اجتماع بين الرئيس هادي وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد.
بالتوازي، انضم مكتب الانتقالي في واشنطن إلى هذه الحملة، عندما نشر مسعد مقالة عن معركة الحديدة على موقع «ديفينس بوست» تحت عنوان: «بالنسبة إلى المقاومة الجنوبية في اليمن: المعركة القادمة هي معركة الاستقلال»، وقام المكتب بالترويج لهذه المقالة، التي تحدث مسعد فيها عن المعركة في الحديدة، وطالب الولايات المتحدة الاعتراف السياسي بالمجلس الانتقالي.
ولضرب عدو الإمارات الوجودي، روج المكتب لمقالة كتبها أمين صندوق المكتب أحمد مثنى عن ارتباط القاعدة بالحكومة اليمنية، بسبب العلاقات بين الحكومة وحزب الإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين.
اتفاق ستوكهولم.. المجلس الانتقالي يبحث عن الاعتراف به
نسَّقت شركة «جراسروتس» ندوة للمكتب في 25 سبتمبر (أيلول) 2018، ودَعت لها وليد فارس خبير الأمن القومي ومستشار دونالد ترامب، الذي تحدَّث عن الحرب الأهلية في اليمن، ورؤيته للحلول الممكنة لإنهاء الأزمة، بينما تحدث مسعد عن رؤية المجلس الانتقالي للمشروع الجنوبي. ولإيجاد قاعة مناسبة، تواصلت الشركة مع موظفين في مكتب النائب الجمهوري جون روثفورد، طلبًا للمساعدة في اختيار غرفة مناسبة.
وسعيًا وراء الاعتراف الأمريكي، أرسل المكتب رسالة موجهًا للكونجرس يعرض فيها رؤية المجلس الانتقالي السياسية. وبعد الوصول إلى لحظة التوازن في الحديدة، لم تستطع الإمارات تحقيق مرادها، وتبين أنّ استراتيجية المفاجأة العسكرية لم تؤت ثمارها على أرض الواقع. وخضعت في النهاية للضغط الدولي وتوقفت عن العمليات العسكرية.
ووسط مساعي المجلس الانتقالي لنيل اعتراف دولي يضعهم على طاولة المفاوضات حين تبدأ محادثات السلام، سجّل المجلس الانتقالي عقدًا مع منظمة «الدبلوماسي المستقل – Independent Diplomat»، في 30 سبتمبر (أيلول) 2018. وتُعرف المنظمة بدعمها للحركات الانفصالية في منطقة الشرق، مثل جنوب السودان، والصحراء الغربية.
وُقِّعَ العقد مقابل خدمات توفير المنظمة تدريبًا دبلوماسيًا للمجلس الانتقالي، مما يشمل الأساليب والأدوات في مجال التواصل الاستراتيجي، وتقديم استشارات في أي عملية تفاوضية للمجلس.
تشبك المنظمة المجلس مع المنظمات المدنية والحقوقية، كما تقدم له «معلومات استخباراتية» بخصوص القضايا التي تهم المجلس. وسترافق المنظمة رحلات المجلس في بعثاتها الدبلوماسية في الأمم المتحدة. تأتي كل تلك الخدمات ضمن دعم المجلس في سعيه لتحصيل «حقوق الجنوب المشروعة والحق في تقرير المصير»، وفقًا للتعاقد.
استمرت علاقة المجلس مع شركة «جراسروتس» حتى 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، وبلغت المدفوعات 135 ألف.
انسحاب الإمارات بعد معركة الحديدة
تكشف الوثائق تواصل المكتب الانتقالي مع موظفين في وزارة الخارجية الأمريكية، مثل ماريا دافيدينكو مسؤولة ملف اليمن، لينقل المكتب لهم رؤيتهم للمستجدات على أرض الواقع، خاصة في عدن. وعلى مدار الأعوام الماضية، بمساعدة شركة جراسروتس كان المكتب يتواصل مع فانيسا دي بروين، وهي موظفة في قسم اليمن في وزارة الخارجية، وعملت قبلها مسؤولة ملف اليمن في البنتاجون، كل هذا بالطبع بمساعدة شركة جراسروتس.
وفي منتصف يونيو (حزيران) 2019، كان المكتب يحاول تنسيق اجتماع مع كريستوفر هينزيل السفير الأمريكي لليمن، ولكنّ فانيسا أخبرتهم بأنّ هينزيل سيلتقي مع قيادة المجلس في أبو ظبي؛ عيدروس وابن بريك.
في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2018، استطاع مبعوث الأمم المتحدة لليمن، مارتن جريفيث التوصل إلى هدنة بين الحكومة اليمنية والحوثيين فيما سمي «اتفاق الحديدة» أو «اتفاقية ستوكهولم». ومع بداية يناير (كانون الثاني) 2019، نُشرت قوات تابعة للأمم المتحدة في المدينة لدعم الاتفاق.
سحب المجلس الانتقالي قواته التي كانت مشاركة في معركة الحديدة إلى العاصمة المؤقتة عدن لزيادة تأمينها في منتصف عام 2019. وبعد اتفاقية ستوكهولم بأشهر قليلة، في يوليو (تموز) 2019، أعلنت الإمارات سحب قواتها من الحرب في اليمن.
حلل البعض هذا الانسحاب على أنّه تغير في استراتيجية الإمارات من المواجهة العسكرية المباشرة إلى الحرب بالوكالة، وحفظ ما تبقى من نفوذٍ على الأرض. ولا شك أنّ إحدى الأسباب الرئيسية لهذا لإعلان، كان الضغط الدولي، وقرارات الكونجرس التي تدين الدعم الأمريكي للحرب في اليمن.
كانت كل خطوات الإمارات تنعكس على عمل المجلس الانتقالي. ففي أغسطس (آب) 2019، جاءت معركة الحسم في عدن، عندما أعلن عن التمرد ضد قوات الحكومة اليمنية في العاصمة اليمنية المؤقتة، مدينة عدن. واندلعت الاشتباكات المسلحة بين قوات المجلس الانتقالي و«الحزام الأمني» من جهة، والقوات الموالية للحكومة اليمنية من جهة أخرى. وانتهت المعركة بسيطرة المجلس الانتقالي على مدينة عدن.
وشارك أحمد، السكرتير في المكتب، أخبار المظاهرات التي اندلعت في عدن نهاية عام 2019 مع بعض الموظفين، وطلب استصدار تأشيرات للقيادة في مجلس الانتقالي في اليمن.
وفي الشهر نفسه، أرسل المجلس الانتقالي الجنوبي رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، يدعو فيها لحل مستدام للأوضاع في الجنوب. وأرسل المكتب نسخة إلى ماريا بولا راموس، من مكتب النائب الجمهوري ماركو روبيو، وإلى كريستين سامويليان، التي عملت في مجلس الأمن الوطني بالبيت الأبيض مساعدةً لجون بولتون.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، وقعت الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي اتفاق الرياض، لإنهاء النزاع المسلح في اليمن، وانتهى الحال بسيطرة المجلس الانتقالي على عدن، وأجزاء من محافظتي شبوة وأبين.
البحث عن مخرج من اتفاق الرياض
بعد اتفاق الرياض، لم تتغير الأوضاع كثيرًا على الأرض، وظل المجلس الانتقالي يسعى في مساره الانفصالي، واستمرت جهود الضغط لهذا الهدف. سجلت الوثائق حضور المكتب لبعض الندوات التي نظمها معهد واشنطن، ونشر مدير المكتب عبد السلام مسعد على موقع المعهد مقالة يتحدث فيها عن رؤية المجلس لاستقلال جنوب اليمن.
وخلال النصف الأول من عام 2020، تواصل المكتب مع عدة شيوخ في الكونجرس، أبرزهم السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، الرئيس المؤقت للجنة الاستخبارات. وتواصل المكتب مع السيناتور الجمهوري ريتشارد شيلبي، رئيس لجنة المخصصات وعضو لجنة القواعد. وكان روبيو وشيلبي من الشيوخ الذين عارضوا قرارات سحب القوات الأمريكية من التحالف السعودي في اليمن.
وفي يناير (كانون الثاني) 2020، تواصل المكتب مع الصحافي جاريد سزوبا من جريدة «ديفينس بوست» لطلب لقاء لنقاش الأوضاع في اليمن. وانتقل سزوبا مؤخرًا للعمل في موقع الموينتور المهتم بأخبار الشرق الأوسط، ويكتب بشكل دوري عن الأوضاع في اليمن، ويستخدم مصادر من المجلس الانتقالي.
نسقت منظمة الدبلوماسي المستقل للمجلس اجتماعات افتراضية مع منظمات غير حكومية، عن المجلس الانتقالي ورؤيته للأوضاع في اليمن، وتواصلت المنظمة مع بيتير بيلربيك، محلل سياسات بلجنة الخارجية مجلس النواب.
وففي أبريل (نيسان) 2020، عبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن قلقه جراء إعلان المجلس الانتقال الجنوبي إقامة «الحكم الذاتي» في الجنوب، وطالب المجلس بالانخراط في العملية السياسية وفق اتفاق الرياض. وعبر المجلس الانتقالي عن أنّ الحكومة اليمنية أصبحت غير شرعية، وفي أغسطس (آب) الماضي، علق المجلس الانتقالي مشاركته في اتفاق الرياض.
لكن الحكومة السعودية جددت مساعي إنجاح الاتفاق في ديسمبر (كانون الأول) 2020، فيما يبدو استعدادًا للضغط الذي سيجلبه الرئيس الأمريكي الجديد لحل الأزمة اليمنية.
*هذا التحقيق جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010-2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكافة الوثائق متاحةٌ للتصفح على الإنترنت.